الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***
أورد الإكراه عقيب ولاء الموالاة؛ لأن في كل منهما تغير حال المخاطب من الحرمة إلى الحل فإن ولاء الموالاة يغير حال المخاطب الذي هو المولى الأعلى من حرمة تناول مال المولى الأسفل بعد موته إلى حله بالإرث فكذلك الإكراه يغير حال المخاطب الذي هو المكره من حرمة المباشرة إلى حلها كذا في عامة المواضع والكلام فيه في مواضع الأول في معناه لغة والثاني عند الفقهاء والثالث في ركنه والرابع في دليله والخامس في شرطه والسادس في حكمه فهو في اللغة عبارة عن حمل إنسان على شيء يكره يقال أكرهت فلانا إكراها أي حملته على أمر يكرهه وهو عند الفقهاء ما سيأتي وركنه اللفظ الذي يفيده ودليله من الكتاب قوله تعالى: {إلا من أكره} الآية ومن السنة ما ورد «أن صفوان الطائي كان نائما مع امرأته وأخذت المرأة سكينا وجلست على صدره، وقالت لأذبحنك أو تطلقني فناشدها بالله فأبت فطلقها ثلاثا فبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا إقالة في الطلاق» وشرطه سيأتي في الكتاب. وحكمه إذا حصل به إتلاف أن ينتقل إلى المكره فيما يصلح أن يكون له للمكره ويجعل كأنه فعله بنفسه كما سيجيء والإكراه نوعان ملجئ وغير ملجئ فالملجئ هو الكامل بما يخاف على نفسه أو عضوه فإنه يعدم الرضا ويوجب الإلجاء ويفسد الاختيار وغير الملجئ هو القاصر وهو أن يكره بما لا يخاف على نفسه ولا على تلف عضو من أعضائه كالإكراه بالضرب الشديد أو القيد أو الحبس فإنه يعدم الرضا ولا يوجب الإلجاء ولا يفسد الاختيار، وهذا النوع من الإكراه لا يؤثر إلا في تصرف يحتاج فيه إلى الرضا كالبيع والإجارة والإقرار والأول يؤثر في الكل فيضاف فعله إلى المكره فيصير كأنه فعله والمكره آلة له فيكون فعله بنفسه من غير إكراه أحد وذلك مثل الأقوال والأكل؛ لأن الإنسان لا يأكل بفم غيره ولا يتكلم بلسان غيره فلا يضاف إلى غير المتكلم والأكل إذا كان فيه إتلاف فيضاف إليه من حيث إنه إتلاف بصلاحيته آلة له فيه حتى إذا أكره على العتق يقع كأنه أوقعه باختياره ويكون الولاء له ويضاف إلى المكره من حيث الإتلاف فيرجع إليه بقيمته، ثم اعلم أن الإكراه لا ينافي أهلية المكره ولا يوجب وضع الخطاب عنه بحال؛ لأن المكره مبتلى والابتلاء يحقق الخطاب والدليل عليه أن أفعاله مترددة بين فرض وحظر وإباحة ورخصة ويأثم تارة ويؤجر أخرى فيحرم عليه قتل النفس وقطع الطرق والزنا ويفترض عليه أن يمنع من ذلك ويثاب عليه إن امتنع ويباح له بالإكراه أكل الميتة وشرب الخمر ويرخص له بإجراء كلمة الكفر وإتلاف مال الغير وإفساد الصوم والجناية على الإحرام. وهذا دليل على أنه مخاطب قال رحمه الله: (هو فعل يفعله الإنسان بغيره فيزول به الرضا) زاد في المبسوط أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب وذكر في الإيضاح أن الإكراه فعل يوجد من المكره يحدث في المحل معنى يصير به مدفوعا إلى الفعل الذي طلب منه وذكر في الوافي أنه عبارة عن تهديد غيره على ما هدد بمكروه على أمر بحيث ينتفي به الرضا وقوله فيزول به الرضا أعم مع كونه مع فساد اختياره أو مع عدمه وهو إشارة إلى نوعي الإكراه، ثم إن الشائع في عامة الكتب من الأصول والفروع هو أن الإكراه نوعان وذكر فخر الإسلام البزدوي فقال الإكراه ثلاثة أنواع نوع يعدم الرضا ويفسد الاختيار وهو الملجئ ونوع يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار وهو الذي لا يلجئ وهو نوع آخر لا يعدم الرضا وهو أن يهدد بحبس أبيه أو ابنه وولده، وهذا النوع الثالث أخرجه المؤلف وذكر شيخ الإسلام في المبسوط أن القسم الثالث غير داخل في هذا المعنى شرعا لعدم ترتب أحكام الإكراه عليه شرعا وذكر غيره أن القسم الثالث داخل في معنى الإكراه لغة وأطلق في الإنسان فشمل الصبي والمجنون والمعتوه كذا في قاضي خان، وقال فيه أيضا، ولو أكره الصبي أو المجنون أو المعتوه رجلا على قتل آخر فقتله فالدية على عاقلة الصبي والمجنون والمعتوه في ثلاث سنين. قال رحمه الله: (وشرطه قدرة المكره على تحقيق ما هدد به سلطانا كان أو لصا أو خوف المكره وقوع ما هدد به) يعني شرط الإكراه الذي هو فعل كما تقدم؛ لأن الإكراه اسم لفعل يفعله الإنسان بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء الأهلية ولا يتحقق ذلك إلا من القادر عند خوف المكره؛ لأنه يصير به ملجئا وبدون ذلك لا يصير ملجئا وما روي عن الإمام أن الإكراه لا يتحقق إلا من السلطان فذلك محمول على ما شهد في زمانه من أن القدرة والمنعة منحصرة في السلطان وفي زمانهما كان لكل مفسد له قوة ومنعة لفساد الزمان فأفتيا على ما شهدا وبه يفتى؛ لأنه ليس فيه اختلاف يظهر في حق الحجة وفي المحيط وصفة المكره وهو أن يغلب على ظنه أنه يوقع ذلك به لو لم يفعل، ولو شك أنه لا يفعل ما توعد به لم يكن مكرها؛ لأن غلبة الظن معتبرة عند فقد الأدلة ا هـ. لا يقال الشرطية تنافي كون ذلك وصفا؛ لأنا نقول لا منافاة؛ لأن الشرطية باعتبار الحاصل من الفاعل والوصف باعتبار الفاعل وفي الخانية إذا غاب المكره عن بصر المكره يزول الإكراه ونفس الأمر من السلطان من غير تهديد إكراه، وعندهما إن كان المأمور يعلم أنه لو لم يفعل ما أمر به يفعل فيه كذا كان إكراها وفي العتابية، وإذا أخذه واحد في الطريق لا يقدر فيه على غوث يكون إكراها ا هـ. قال رحمه الله: (فلو أكره على بيع أو شراء أو إقرار أو إجارة بقتل أو ضرب شديد أو حبس مديد خير بين أن يمضي البيع أو يفسخ) ولما كان الإكراه تارة يقع في حقوق العباد وأخرى في حقوق الله تعالى وحق العبد مقدم لحاجة العبد إليه قدمه ولما كان الإكراه على نوعين ملجئ وغير ملجئ وكل منهما يفسد الرضا الذي هو شرط الصحة لهذه العقود فكذا ذكر القتل والضرب ولما كان لا فرق بين أن يكره على بيع هذا أو بيع ولم يعين جاء بالعبارة منكرة قيد بضرب شديد وحبس مديد؛ لأنه لو قال أضربك سوطا أو سوطين أو أحبسك يوما أو يومين فإنه لا يكون إكراها قال في المحيط إلا إذا قال له لأضربنك على رأسك أو عينك أو مذاكرك فإنه يكون إكراها؛ لأن مثل هذا إذا حصل في هذه الأعضاء قد يفضي إلى التلف وفي المحيط قال مشايخنا إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه يتضرر بضرب سوط أو حبس يوم فإنه يكون إكراها. وقد يكون فيه ما يكون في الحبس من الإكراه لما يجيء به من الاغتمام البين ومن الضرب ما يجد به الألم الشديد وليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه؛ لأنه يختلف باختلاف أحوال الناس فمنهم لا يتضرر إلا بضرب شديد وحبس مديد ومنهم من يتضرر بأدنى شيء كالشرفاء والرؤساء يتضررون بضرب سوط أو بفرك أذنه لا سيما في ملأ من الناس أو بحضرة السلطان وفي الخانية، ولو أكره على بيع جارية ولم يعين فباع من إنسان كان فاسدا والإكراه بحبس الوالدين والأولاد لا يعد إكراها؛ لأنه ليس بإكراه ولا يعدم الرضا بخلاف حبس نفسه وفي المحيط، ولو أكره بحبس ابنه أو عبده على أن يبيع عبده أو يهبه ففعل فهو إكراه استحسانا، وكذا في الإقرار ووجهه أن الإنسان يتضرر بحبس ابنه أو عبده ألا ترى أنه لا يؤثر حبس نفسه على حبس ولده فإن قلت بهذا نفي الأول قلنا لا فرق بين الوالدين والولد في وجه الاستحسان وهو المعتمد كما لا فرق بينهما في وجه القياس وقوله خير بين أن يمضي أو يفسخ تقديره، وإذا زال الإكراه إلى آخره دفعا للضرر عن نفسه قال رحمه الله: (ويثبت به الملك عند القبض للفساد) يعني يثبت بالشراء الملك للمشتري لكونه كسائر البياعات الفاسدة وظاهر عبارة المصنف فساد البيع مطلقا والذي يظهر أن البيع إنما يكون فاسدا إذا قال المكره تلفظت بالبيع طبق ما أراد فإذا قال أردت الإخبار به كاذبا أو قال أردت إنشاء البيع فهو بيع صحيح لا خيار فيه ولا فساد أخذا من التفصيل في حالة العتق. وقال زفر لا يثبت به الملك؛ لأنه موقوف ولنا أن ركن البيع وهو الإيجاب والقبول صدر من أهله مضافا إلى محله فيكون مشروعا بأصله غير مشروع بوصفه فيفيد الملك بالقبض حتى لو قبضه وتصرف فيه تصرفا لا يحتمل النقض كالإعتاق والتدبير جاز تصرفه وإنما لا تفسد بالإجارة؛ لأن المفسد يرتفع بها وهو عدم الرضا فصار كسائر البياعات لفساده وفي المحيط لو أكره على البيع بألف فباع بخمسمائة لم يجز وإن باع بأكثر من الألف جاز؛ لأن في الأول خالف مقصود المكره؛ لأن مقصود المكره لحاق الضرر بالمكره والبيع بخمسمائة أضر به من البيع بألف فكان الإكراه على البيع بألف إكراها له على الأقل وفي الثاني خالف إلى غير رأي المكره؛ لأنه اكتسب نفعا لنفسه، ولو باع بدنانير قيمتها ألف لم يجز؛ لأن الدراهم والدنانير جعلا كجنس واحد و في التجارات عرضا ومقصودا، ولو باعه بعرض أو بمكيل أو موزون بأقل من قيمته جاز؛ لأنه غير جنس ما أكره عليه أو أكره على بيع جائز فباع فاسدا لم يجز فإذا هلك إن شاء ضمن المشتري أو المكره وعلى عكسه يكون رضا بالبيع والفرق أن المكره على البيع الفاسد متى باع جائزا فقد أتى بغير ما أكره عليه؛ لأن الجائز ضد الفاسد ويفيد من الأحكام ما لا يفيده الفاسد والمكره على البيع الجائز متى باع فاسدا فقد أتى بما هو أنقص؛ لأن الفاسد أنقص من الجائز، ولو أكره على البيع فوهب جاز؛ لأنه غير جنس ما أكره عليه ا هـ. قال رحمه الله: تعالى (وقبض الثمن طوعا إجازة كالتسليم طائعا)؛ لأنهما دليل الرضا وهو الشرط بخلاف ما إذا أكره على الهبة دون التسليم وسلم حيث لا يكون إجازة، ولو سلم طائعا؛ لأن مقصود المكره ما يتعلق به الاستحقاق لا صورة العقد والاستحقاق في البيع يتعلق بنفس العقد فلا يكون الإكراه به إكراها على التسليم فيكون التسليم أو القبض عن اختيار دليل الإجازة وفي الهبة يقع الاستحقاق فالقبض لا بمجرد الهبة فيكون الإكراه بها إكراها بالتسلم نظرا إلى مقصود المكره ويعتبر ذلك في أصل الوضع؛ لأن البيع وضع لإفادة الملك في الأصل وإن كان في الإكراه لا يفيد لكونه فاسدا والهبة لا تفيد الملك قبل القبض بأصل الوضع وتفيده بعدها سواء كانت صحيحة أو فاسدة فينصرف الإكراه في كل واحد منهما إلى ما يستحقه منه في أصل وضعه وإن قبض مكرها، فليس ذلك بإجازة وعليه رد الثمن إذا كان قائما في يده لفساد العقد وإن كان هالكا لا يأخذ منه شيئا؛ لأن الثمن كان أمانة في يد المكره؛ لأنه أخذه بإذن المشتري لا على سبيل التمليك فلا يجب الضمان. وفي المحيط ومن هو مكره من المتعاقدين أو مشروط له شرط فاسد فله أن ينقض العقد من غير رضا صاحبه ومن ليس بمكره ولا مشروط له شرط فاسد، فليس له نقضه إلا بالقضاء أو الرضا حتى لو أجاز الآخر العقد فنقض القاضي نفذ وألزم وإن كان كلاهما مكرها أو مشروطا له شرط فاسد فلكل واحد منهما نقضه من غير قضاء ولا رضا؛ لأنه قبل القبض لا يفيد شيئا، ولو باع المشتري المكره من آخر باعه الثاني من آخر حتى تداولته الأيدي فله أن يفسخ العقود كلها وأي عقد جاز جازت العقود كلها إلا أنه لما أجاز بعض العقود فقد زال الإكراه وصار طائعا راضيا فجاز العقد الأول فجازت العقود ويأخذ هو الثمن من المشتري الأول، ولو لم يجز لكن ضمن فإن ضمن الأول نفذ الكل بتضمينه وإن ضمن غيره جازت البياعات التي بعده وبطل ما قبله والفرق بين الإجازة والتضمين أن البيع كان موجودا والمانع من النفوذ حقه، وقد زال بالإجازة، وأما إذا ضمن لم يكن مسقطا حقه بخلاف ما إذا أجاز أحد بيوع الفضولي حيث لا يجوز إلا الذي أجازه المالك ولا يجوز ما قبله وما بعده؛ لأن كل واحد منهم باع ملك غيره فلا يفيد الملك فعند الإجازة يملكه من أجيز شراؤه وتبطل البقية فإن أعتق المشتري الثاني فللمكره أن يضمن أي الثلاث شاء؛ لأن كل واحد منهم أحدث سبب الضمان بإزالة يده عن ملكه والمشتريان قبض كل واحد منهما ماله بغير إذنه وفي الخانية لو أعتق المشتري الآخر قبل إجازة البيع جاز العتق على الذي أعتقه فإن أجاز البائع البيع الأول بعد ذلك لا يصح إجازته وفي الخانية لو أعتق المشتري الأخير أو كان له الخيار إن شاء ضمن المشتري الأول وإن شاء ضمن غيره فإن ضمن المشتري الأول جازت البياعات كلها وإن ضمن غيرها يجوز كل بيع بعده ويبطل كل بيع كان قبله ا هـ. وفي قاضي خان، ولو كان البائع مكرها والمشتري غير مكره فقال المشتري بعد القبض نقضت البيع لا يصح، ولو قال قبل القبض صح نقضه، ولو كان المشتري مكرها والبائع غير مكره فلكل واحد منهما النقض قبل القبض وبعد القبض يكون للمشتري دون البائع. قال رحمه الله: (وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره والبائع مكره ضمن قيمته للبائع)؛ لأنه قبضه بحكم عقد فاسد فكان مضمونا عليه بالقيمة قيد بقوله والمشتري غير مكره قال قاضي خان، ولو كان المشتري مكرها دون البائع فهلك المشتري عنده من غير تعد منه يهلك أمانة. ا هـ. ولو قال ضمن بدله كان أولى؛ لأنه يشمل المثلي والقيمي قال رحمه الله: (وللمكره أن يضمن المكره)؛ لأنه آلة له فيما يرجع إلى الإتلاف وإن لم يكن له آلة في حق المتكلم لعدم الصلاحية؛ لأن التكلم بلسان الغير لا يمكن فصار كأنه دفع مال البائع إلى المشتري فيضمن أيهما شاء كالغاصب وغاصب الغاصب فإن ضمن المكره رجع المكره على المشتري بالقيمة؛ لأنه بأداء الضمان ملكه فقام مقام المالك المكره فيكون مالكا له من وقت وجود السبب بالاستناد، ولو ضمن المشتري ثبت ملك المشتري فيه ولا يرجع على المكره؛ لأنه ملكه بالشراء والقبض غير أنه توقف نفوذه على سقوط حق المكره من الفسخ فإذا ضمنه قيمته نفذ ملكه فيه كسائر البياعات الفاسدة. قال رحمه الله: (وعلى أكل لحم خنزير وميتة ودم وشرب خمر بحبس أو ضرب أو قيد لم يحل وحل بقتل وقطع) يعني لو أكره على هذه الأشياء بما لا يخاف على نفسه أو عضوه كالضرب لا يسعه أن يقدم عليه وبما يخاف يسعه ذلك؛ لأن حرمة هذه الأشياء مقيدة بحالة الاختيار وفي حالة الضرورة مبقاة على أصل الحل لقوله تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} فاستثنى حالة الاضطرار؛ لأنه فيها مباح والاضطرار يحصل بالإكراه الملجئ وهو أن يخاف على نفسه أو عضوه ولا يحصل ذلك بالضرب بالصوت ولا بالحبس حتى لو خاف ذلك منه وغلب على ظنه يباح له ذلك أقول: في قوله يباح له ذلك إشكال قوي فإن المباح ما استوى طرفاه فعله وتركه كما تقرر في علم الأصول وفيما نحن فيه إذا خيف على النفس أو على عضو كان طرف العقل راجحا، بل فرضا كما صرح به في لب الأصول من كون ذلك فرضا فتأمل فلو قال بغير ما يخاف منه على تلف عضو أو نفسه لم يفترض وإلا افترض إلى آخره لكان أولى وقدره بعضهم بأدنى الحد وهو أربعون سوطا فإن هدد به وسعه أن يقدم وإن هدد بدونه لا يسعه؛ لأن ما دون ذلك مشروع بطريق التعزير. قلنا لا وجه للتعزير بالرأي وأحوال الناس مختلفة فمنهم من يتحمل الضرب الشديد ومنهم من يموت بأدنى منه فلا طريق سوى الرجوع إلى رأي المبتلى فإن غلب على ظنه أن تلف النفس أو العضو يحصل به وسعه وإلا فلا، وإذا قلنا لا يسعه شرب الخمر هل يحد أم لا قال في المحيط، وإذا شرب الخمر لا يحد؛ لأن بأغلظ الإكراهين تثبت حقيقة إباحة الشرب حالة الضرورة وبأخفهما ثبت شبهة الإباحة والشبهة كافية لدرء الحدود. ا هـ. وفي المبسوط الإكراه على المعاصي أنواع نوع يرخص له فعله ويثاب على تركه وقسم حرام فعله مأثوم على إتيانه وقسم يباح فعله ويأثم على تركه الأول الإكراه على إجراء كلمة الكفر وشتم محمد صلى الله عليه وسلم أو على ترك الصلاة أو كل ما ثبت بالكتاب الثاني كما لو أكره بالقتل على أن يقتل مسلما أو يقطع عضوه أو يضربه ضربا يخاف منه التلف أو يشتم مسلما أو يؤذيه أو على الزنا والثالث لو أكره على الخمر وما ذكر معه قال رحمه الله: (وأثم بصبره) يعني إذا أكره على ما تقدم بقتل وقطع فلم يفعل حتى قتله أو قطع عضوا منه أثم ؛ لأن التناول في هذه الحالة مباح وإتلاف النفس أو العضو بالامتناع عن المباح حرام فيأثم إلا أنه إذا لم يعلم الإباحة في هذه الحالة لا يأثم؛ لأنه موضع الخفاء. وقد دخله اختلاف العلماء فلا يأثم كالجهل بالخطاب في دار الحرب أو في أول الإسلام في حق من أسلم فيها، وعن أبي يوسف لا يأثم مطلقا؛ لأنه رخصة إذ الحرمة قائمة فيكون أخذا بالعزيمة قلنا حالة الاضطرار مستثناة فلا يكون الامتناع عزيمة، بل معصية قال في العناية فإن قيل إضافة الإثم إلى ترك المباح من باب فساد الوضع وهو فاسد فالجواب أن المباح إنما يجوز تركه والإتيان به إذا لم يترتب عليه محرم وهاهنا ترتب عليه محرم وهاهنا ترتب عليه قتل النفس المحرم فصار الترك حراما؛ لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ا هـ. أقول: والذي يظهر أن الإثم ليس على ترك المباح، بل على ترك الفرض كما تقدم تقريره ا هـ. قال في المحيط والأصل أن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما وأيسرهما والمسائل على أربعة أوجه الأول لو أكره بقتل على أن يقطع يد نفسه فهو في سعة من قطعها؛ لأن القطع أهون من القتل؛ لأن الظاهر أن القطع يقتصر ولا يسري ولهذا يباح القطع عند الإكراه إذا خاف الهلاك على نفسه الثاني لو أكره على قتل نفسه لا يباح له الثالث لو أكره على إلقاء نفسه في النار أو في الماء أو من سطح إن كان لا يرجو الخلاص والنجاة من ذلك يباح له وإلا فلا وذكر أن الإحراق بالنار أشد من السيف والرابع على إكراهه بالقتل بالسياط على قتل نفسه بالسيف يباح له القتل بالسيف؛ لأن القتل بالسياط أشد من القتل بالسيف. قال رحمه الله: (وعلى الكفر وإتلاف مال المسلم بقتل وقطع لا بغيرهما يرخص) يعني لو أكره على كلمة الكفر وإتلاف مال إنسان بشيء يخاف على نفسه أو على أعضائه كالقتل وقطع الأطراف يرخص له إجراء كلمة الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولحديث: «عمار بن ياسر حين ابتلي به أنه عليه الصلاة والسلام قال له كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان قال فإن عادوا فعد» أي عد إلى الطمأنينة؛ ولأن بهذا الإظهار أنه لا يفوت حقيقة الإيمان؛ لأن التلفظ في هذه الحالة لا تدل على تبدل الاعتقاد لقيام التصديق به فرخص له إحياء لنفسه وفي المحيط وغيره وهذه المسألة على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون قلبه مطمئنا ولم يخطر على باله شيء سوى ما أكره عليه والثاني أن يخطر بباله الخبر بالكفر عما مضى بالكذب بأن لم يكن كفر قط فيما مضى، وقال أردت الخبر عما مضى كاذبا ولم أرد كفرا مستقبلا فهذا يكفر قضاء ولا يكفر ديانة الثالث أن يقول لم يخطر ببالي كفر في الماضي وأردت الكفر مستقبلا فهذا يكفر قضاء وديانة. ا هـ. وفي المحيط على هذا التفصيل أنه إذا أكره على أن يصلي للصليب أو سجد وفي الظهيرية لو أكره على أن يسجد للصليب فالمسألة على ثلاثة أوجه الأول إذا خطر بباله أن يصلي لله تعالى لا للصليب. وفي هذا الوجه لا يكفر في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى سواء كان مستقبل القبلة أو لم يكن مستقبلا الثاني أن يقول لم أصل لله تعالى وصليت للصليب وفي هذا يكفر في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى الثالث أن يقول لم يخطر ببالي وصليت للصليب مكرها في هذا لا يكفر في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى وفي الأصل لو أكره على شتم محمد صلى الله عليه وسلم فهي على ثلاثة أوجه الأول أن يقول لم يخطر ببالي شيء وشتم محمدا مكرها وفي هذا لا يكفر قضاء ولا ديانة الثاني أن يقول خطر ببالي رجل من النصارى يقال له محمد فشتمته ولم أشتم الرسول فهذا كالأول قال الكرخي أطلق محمد في العبارة وحيث لم يقل من المسلمين؛ لأن شتم النصراني دون المسلم في الحرمة الثالث أن يقول خطر ببالي رجل من النصارى فيه فتركته وسميت الرسول وفي هذا يكفر قضاء وديانة ا هـ. قال رحمه الله: (ويثاب بالصبر) أي يكون مأجورا إن صبر ولم يظهر الكفر حتى قتل؛ لأن خبيبا صبر حتى صلب وسماه النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، وقال هو رفيقي في الجنة؛ ولأن الحرمة قائمة والامتناع عزيمة فإذا بذل نفسه لإعزاز الدين كان شهيدا ولا يقال الكفر مستثنى في حالة الإكراه فكيف يكون حراما في تلك الحالة؛ لأنا نقول الاستثناء راجع إلى العذاب؛ لأنه المذكور قبله دون الحرمة بخلاف الخمر وأخواته فإن المذكور فيه الحرمة فينتفي في تلك الحالة وهنا لا تنتفي فتبقى على حالها، ولكن لو ترخص جاز واعترض عليه بأن إجراء كلمة الكفر أيضا مستثنى بقوله إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان من قوله من كفر بالله بعد إيمانه فينبغي أن يكون مباحا كأكل الميتة وشرب الخمر وأجيب بأن في الآية تقديما وتأخيرا وتقديره من كفر بالله من بعد إيمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فالله تعالى ما أباح إجراء كلمة الكفر على لسانهم حالة الإكراه وإنما دفع عنهم العذاب والغضب وليس من ضرورة نفي الغضب وهو حكم الحرمة؛ لأنه ليس من ضرورة عدم الحكم عدم العلة فجاز أن يكون الغضب منتفيا مع قيام العلة الموجبة للغضب وهو الحرمة فلم تثبت إباحة إجراء كلمة الكفر كذا في النهاية وعزاه إلى مبسوط شيخ الإسلام ا هـ. قال رحمه الله: (وللمالك أن يضمن لمكره)؛ لأنه هو المتلف لماله والمكره آلة له فيما يصلح آلة. قال رحمه الله: (وعلى قتل غيره بقتل لا يرخص) يعني لو أكره على قتل غيره بالقتل لا يرخص له القتل لإحياء نفسه؛ لأن دليل الرخصة خوف التلف والمكره والمكره عليه سواء في ذلك فسقط المكره؛ ولأن قتل المسلم بغير حق مما لا يستباح لضرورة ما فكذا بالإكراه، وهذا لا نزاع فيه وأطلق في قوله غيره فشمل الحر والعبد وعبده وعبد غيره وفي المحيط لو أكره بقتله أن يقتل عبده أو يقطع يده لم يسعه ذلك فإن قتل يأثم ويقتل المكره في القتل ويضمن نصف قيمته؛ لأن دمه حرام بأصل الفطرة، ولو أكره بقتل على أن يقتل أباه أو ابنه فقتله لم يحرمه عن الميراث، ولو كان المكره أبا المقتول أو ابنه يحرم عن الميراث؛ لأن المباشر للقتل هو المكره، ولو أكره بقتل على أن يضرب رجلا بحديدة فضربه وثنى بغير إكراه فمات قتلا جميعا؛ لأن إحدى الضربتين بغير إكراه فصارت منقولة إليه والأخرى منقولة إلى المكره، ولو كانت إحدى الضربتين بعصاة غرم عاقلة كل واحد منهما نصف الدية في ثلاث سنين وإن كان الإكراه بحبس أو قيد فالضمان على الضارب قودا كان أو دية؛ لأن الإكراه بالحبس لا يعتبر إكراها في حق هذه الأحكام وفيه أيضا. ولو أكره بقتل على أن يأمر رجلا بقتل عبده فقتله عمدا يقتل القاتل؛ لأن الإذن بالقتل لم يصح مع الإكراه؛ ولأنه قول لا يؤثر فيه عدم الرضا فيكون التلف مضافا إلى القتل دون الإذن بخلاف المأمور بالعتق حيث لا يضمن؛ لأن المأمور لا يملك الإعتاق إلا بالإذن فصار المعتق متلفا بسبب الإذن فيصير التلف محالا إلى الإذن، ولو أكره المولى بحبس أو قتل فقتله يضمن قيمته استحسانا ويقتص القاتل قياسا وجه الاستحسان أن الإذن إذا فسد بالإكراه لفوات الرضا معتبر من وجه وفعل المأذون كفعل الآذن فأورث شبهة فلم يجب القصاص فأوجبنا الدية صونا لدمه عن الهدوء، ولو أكره المولى بقتل على بيع عبده وتسليمه والمشتري بالقتل على الشراء والقبض، ثم أكره المشتري من على قتله بقتل فللمولى أن يقتل المكره قياسا؛ لأن المشتري مكره على القتل فصار فعله منقولا إلى المكره ويضمن قيمته استحسانا؛ لأن العبد مملوك للمشتري وللبائع فيه حق الاسترداد فكان القصاص للبائع من وجه وللمشتري وجه فكان المستحق للقصاص مجهولا فلا يكون لأحدهما حق استيفاء القصاص فأوجبنا القيمة على المكره في ماله للبائع؛ لأن للبائع حق الاسترداد. وقد أبطل المشتري هذا الحق عليه بالقتل بغير رضاه فلو أكره بحبس أو قيد على البيع والقبض والمشتري على الشراء بقتل، ثم أكره المشتري على قتله بقتل فقتله يضمن قيمته لمولاه ثم يقتل المكره بالعبد قصاصا؛ لأن المشتري طائع في القبض مكره في الشراء فملك المشتري العبد بعقد فاسد فكان مضمونا عليه بالقيمة وقتله صار منقولا إلى المكره فصار المكره قاتلا عبدا عمدا فيجب القصاص، ولو أكره المشتري على الشراء بحبس وللبائع بقتل، ثم أكره المشتري على القتل بقتل فقتله فالولي بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمة عبده وإن شاء ضمن المشتري؛ لأنه طائع في القبض، وقد قتله المكره بقتل المشتري فيجب القصاص ا هـ. قوله بالقتل يشمل ما إذا صرح بذلك بأن قال إن لم تقتل قتلتك أو دل الحال عليه بأن غلب على ظنه قتله ولم يصرح له بذلك لما في جامع الفتاوى لو قال له اقتل فلانا أو غلب على ظنه القتل فقتله هو إكراه فإذا قتله يقتص من المكره قال رحمه الله: (وإن قتله أثم)؛ لأن الحرمة باقية لما ذكرنا وأثم بمباشرته؛ لأن الإثم يكون بذمته والمكره لا يصلح أن يكون آلة له في حقه، وكذا لو أكره على الزنا لا يرخص له؛ لأن فيه قتل النفس بالضياع؛ لأنه يجيء منه ولد ليس له أب؛ ولأن فيه إفساد الفراش بخلاف جانب المرأة حيث يرخص لها بالإكراه الملجئ؛ لأن نسب الولد لا ينقطع فلم يكن في معنى القتل في جانبها بخلاف الرجل ولهذا وجب الإكراه القاصر درءا للحد في حقها دون الرجل. قال رحمه الله: (ويقتص من المكره فقط)، وهذا قول الإمام ومحمد، وقال زفر يجب القصاص على المكره دون المكره؛ لأن القصاص يجب على القاتل والقاتل هو المكره حقيقة؛ لأنه المباشر ولهذا يتعلق الإثم به؛ ولأن القتل فعل حسي وهو لا يجري فيه الاستناد لغير الفاعل، وقال الشافعي يجب القصاص عليهما، وقال أبو يوسف لا يجب القصاص على واحد منهما ولهما أنه محمول على القتل بطبعه إيثارا لحياة نفسه فيصير آلة لنفسه للمكره فيما يصلح أن يكون آلة له وهو الإتلاف فيقتص منه بخلاف الإثم؛ لأنه باعتبار الجناية على ديته وهو لا يصلح أن يكون آلة له فيه فيأثم المكره قال في النهاية سواء كان الآمر بالغا عاقلا أو معتوها أو مجنونا أو صبيا فالقود عليه وعزاه إلى المبسوط ونسبه شيخ الإسلام علاء الدين عبد العزيز إلى السهو ونقل عن أبي اليسر في مبسوطه لو كان الآمر صبيا أو مجنونا لم يجب القصاص؛ لأن الفاعل في الحقيقة هو الصبي والمجنون وهو ليس بأهل للعقوبة كذا في الأكمل وفي المحيط لو أكره على أن يقتل رجلا أو يكفر بالله تعالى وسعه الكفر دون القتل؛ لأن الكفر يرخص في حالة الاضطرار دون القتل فإنه لا يرخص بحال، ولو قتل ولم يكفر المكره دون القتل قياسا؛ لأنه قتل نفسا مختارا طائعا ويضمن الدية استحسانا في ماله في ثلاث سنين إن لم يكن عالما بأن الكفر يسعه يقتل به، وقيل لا يقتل به؛ لأن الدليل المورث للشبهة قائم وهو حرمة الكفر، ولو أكره على أن يقتل أو يأكل الميتة أو يشرب الخمر فقتل بقتل القاتل دون المكره؛ لأن أكل الميتة وشرب الخمر يرخص حالة الاضطرار. قال رحمه الله: (وعلى إعتاق وطلاق ففعل وقع) يعني لو أكره على إعتاق وطلاق فأعتق وطلق وقع العتق والطلاق؛ لأن الإكراه لا ينافي الأهلية على ما بينا وعدم صحة بعض الأحكام كالبيع والإجارة والأقارير لمعنى راجع إلى التصرف وهو كونه يشترط فيه الرضا ومع الإكراه لا يوجد الرضا فأما العتق والطلاق فلا يشترط فيهما الرضا فيقع ألا ترى أن العتق والطلاق يقعان مع الهزل لعدم اشتراط الرضا فيهما بخلاف البيع وأخواته وفي المبسوط وكل تصرف يصح مع الهزل كالطلاق والعتاق والنكاح يصح مع الإكراه. ولو أكره الرجل على الإكراه يصح فإن كان المسمى مثل مهر المثل أو أقل جاز ولا يرجع على المكره بشيء؛ لأنه عوضه مثل ما أخرج عنه وإن كان المسمى أكثر من مهر المثل فالزيادة باطلة ويجب مقدار مهر المثل؛ لأنه فات الرضا في الزيادة بالإكراه وإن أكره المرأة على النكاح فلا شيء على المكره؛ لأنه أتلف عليه منفعة البضع ولا ضمان على متلف المنفعة؛ ولأنه عوض المهر فلا يعد إزالة وإتلافا فإن كان الزوج كفؤا والمهر مهر المثل جاز وإن كان أقل فالزوج بالخيار إن شاء أتم لها مهر مثلها وإن شاء فارقها إن لم يدخل بها ولا شيء عليه وإن دخل بها وهي مكرهة فلها مهر مثلها وإن دخل بها وهي طائعة فهو رضا منها بالمسمى إلا أن يكون للمولى حق تكميل مهر مثلها عند الإمام خلافا لهما وإن فارقها قبل الدخول لا مهر لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها وقيد بقوله على إعتاق؛ لأنه لو أكره على العتق من إعتاق كما لو أكره على شراء ذي رحم محرم منه فاشترى يعتق عليه كما سيأتي فإنه لا يرجع بشيء، وكذا لو أكره على شراء من حلف بعتقه، وكذا لو أكره على شراء أمة ولدت منه بالنكاح فاشترى فعتقت عليه بشيء؛ لأنه عتق من غير إعتاق. قال رحمه الله: تعالى (ورجع بقيمته) يعني يرجع المكره على المكره بقيمة العبد؛ لأن الإتلاف منسوب إليه والمكره آلة له فيه فيرجع بقيمة العبد عليه موسرا كان أو معسرا؛ لأن ضمان الإتلاف لا يختلف باليسار والإعسار بخلاف ضمان الإعتاق على ما تقدم ولا سعاية على العبد؛ لأن السعاية إنما تجب عليه للخروج للحرية كما في معتق البعض أو لتعلق حق الغير به كعتق الراهن المرهون وهو معسر أو عتق المريض عبده وعليه دين ولم يخرج من الثلث ولا يرجع المكره على العبد بما ضمن؛ لأنه ضمان وجب عليه بفعله فلا يرجع به على غيره وأطلق المؤلف في الرجوع وهو مقيد بما إذا قال أردت بقولي عتقا مستقلا كما طلب مني أو قال لم يخطر ببالي سوى الإتيان بمطلوبه أما لو قال خطر ببالي الإخبار فأخبرته فيما مضى كاذبا وأردت ذلك لإنشاء الحرية عتق العبد قضاء لا ديانة ولا يضمن المكره المكره شيئا؛ لأنه عدل عما أكره عليه فكان طائعا في الإقرار فلا يصدق في دعواه الإخبار كاذبا فإن قيل ينبغي أن لا يضمن المكره؛ لأنه أتلف بعوض وهو الولاء والإتلاف بعوض كلا إتلاف وأجيب بأن الولاء سببه العتق على ملك المولى فكيف المكره معوضا، ولكن لا يكون عوضا إلا إذا كان العوض مالا كما إذا أكره على أكل طعام الغير فأكله فلا ضمان على المكره إذ عوضه ما هو في حق حكم المال كما في منافع البضع والولاء ليس بمال؛ لأنه بمنزلة النسب. ألا ترى أن شاهدي الولاء إذا رجعا لا يضمنان ورد هذا بما إذا أكره المولى على شراء ذي محرم رحم منه فعتق عليه فإن المكره لا يرجع هناك بقيمة العبد على المكره؛ لأنه حصل له عوض وهو صلة الرحم كذا في البدائع ولا يخفى أن الرحم صلة ليست بمال كالولاء أما حقيقة فظاهر، وأما حكما؛ فلأنه لم يقل به أحد كما قالوا في منافع البضع عند الدخول وفي المحيط، ولو أكره على أن يعتق على أقل من قيمته على مائة وقيمته ألف والعبد غير مكره يقع بتمام قيمته، ثم إن شاء ضمن المكره قيمته، ثم يرجع هو على العبد بمائة السعاية؛ لأنه بأداء الضمان قام مقام المولى وإن شاء المولى ضمن المكره تسعمائة، ثم يرجع بتسعمائة وأخذ من العبد مائة؛ لأن السيد طائع في التزام المال والمكره يتلف عليه تسعمائة بغير عوض فيأخذ منه، ولو أكره على أن يعتق عبده على ألفين إلى سنة وقيمته ألف ففعل فإن شاء ضمن المكره قيمته للحال وهي ألف ويرجع المكره على العبد بألفين إلى سنة ويتصدق بالفضل وإن شاء اختار العتق وكان له ألفان إلى سنة. ولو أكره العبد على قبول العتق على مال لم يلزمه شيء ويضمن للمكره لما بينا عبد بين رجلين أكره أحدهما على عتقه فأعتقه جاز والولاء كله للمعتق عندهما فإن كان المكره موسرا ضمن قيمته بينهما وإن كان معسرا ضمن نصف قيمته للمكره ويسعى العبد للآخر في نصف قيمته؛ لأن المكره في حق المكره متلف وفي حق الساكت بمنزلة العتق، وعند الإمام يعتق نصيب المكره لا غير ولا ضمان على المكره للساكت وإن كان موسرا فإن اختار الساكت تضمين شريكه فالولاء كله له وإن اختار الإعتاق أو السعاية فالولاء بين الشريكين، ولو قتل عبد رجلا خطأ وأكره على عتقه وهو يعلم بالجناية ضمن المكره قيمته ويأخذها المولى فيدفعها إلى ولي الجناية؛ لأنه مضطر في هذا الإعتاق، ولو كان الإكراه بحبس أو قيد يضمن المولى الجناية دون الدية ولا يضمن المكره شيئا؛ لأن هذا الإكراه لا يعد إكراها في حق إتلاف المال ويعتبر إكراها في حق التزام المال، ولو أكره على أن يعتق عبده عن رجل بألف درهم وقيمته ألف فأعتق وقبل المعتق عنه طائعا فإن شاء ضمن المكره وإن شاء ضمن المعتق عنه فلو ضمن الأول يرجع على المعتق عنه والولاء للمعتق، وقال الكرخي ينبغي أن يقع العتق عن المعتق عنه؛ لأنه بمعنى البيع وبيع المكره قبل التسليم لا يفيد الملك وأجيب بأن الإكراه ورد على العتق لا على البيع الذي في ضمن طلب الإعتاق، ولو ورد على البيع إنما يرد ضمنا وتبعا والإكراه لا يؤثر فما ثبت ضمنا وتبعا ويعتقد في الضمني بما لا يعتقد في القصدي. ولو أكره بحبس تجب القيمة على المعتق عنه دون المكره، ولو أكره المعتق بالقتل والمعتق عنه بالحبس فالمعتق عنه غير مكره، ولو كان الإكراه على عكس هذا ضمن المكره قيمته للمولى ولم يضمن المعتق عنه شيئا والولي للمعتق عنه؛ لأن الإكراه بوعيد تلف صير الفاعل هو المكره والإعتاق وإن وجد في ملك المعتق فقد أتلف المكره بالإعتاق عليه حق الاسترداد بغير رضاه، ولو أكره على أن يدبر عبده عنه بألف فدبر فالمولى بالخيار إن شاء ضمن المكره قيمته قنا ورجع المكره على قابل التدبير بقيمته مدبرا وإن شاء ضمن القابل قيمته مدبرا ورجع على المكره بنقصان التدبير ولا يرجع المكره به على القابل، ولو أكره على الإعتاق بحبس أو قيد لم يضمن المكره شيئا ويضمن القابل قيمته قنا؛ لأن هذا الإكراه غير معتبر في حق إتلاف المال، ولو أكره المولى بالقتل والقابل بالحبس ضمن القابل قيمته قنا ولا يرجع على المكره بشيء فإن ضمن المكره ورجع به على القابل، ولو وهب المولى من المكره قيمته أو أبرأه منها كان للمكره أن يرجع على القابل بقيمته، ولو أكره المولى بحبس والقابل بوعيد تلف فللمولى أن يضمن المكره ما نقص بالتدبير ويضمن القابل قيمته مدبرا لما عرف. ولو أكره بقتل على أن يقبل من رجل عتق عبده على ألف وقيمته خمسمائة ورب العبد طائع ففعل كان الولاء للقابل ولا ضمان عليه ولا على المكره؛ لأن قبول العتق عنه بألف يتضمن شراء وقبضا وإعتاقا والمشتري مكره في جميع ذلك والمكره لا يضمن شيئا للمولى، ولو أكره على أن يعتق نصف عبده فأعتق كله لم يضمن عند الإمام، وعندهما يضمن؛ لأن عنده العتق يتجزأ، وعندهما لا يتجزأ فالإكراه على إعتاق النصف إكراه على إعتاق الكل، ولو أكره على أن يعتق كله فأعتق نصفه يضمن عندهما، وعند الإمام يسعى في نصف قيمته ويضمن المكره نصف قيمته ا هـ. مختصرا بتأمل هذا ما تقدم في البيع إذا أكره على بيع الكل فباع النصف كان مكرها حيث عللوا بأن بيع النصف أشد ضررا من بيع الكل وإعتاق الكل أشد ضررا من عتق النصف ويطلب الفرق. قال رحمه الله: (ونصف المهر إن لم يطأ) يعني لو أكره على أن يطلق امرأته فطلقها قبل الوطء ضمن المكره نصف المهر؛ لأن ما عليه كان على شرف السقوط بوقوع الفرقة من جهتها بمعصية كالارتداد وتقبيل ابن الزوج، وقد تأكد ذلك بالطلاق فكان تقريرا بالمال فيضاف تقريره إلى المكره وكان متلفا له فيرجع به عليه أطلق في الرجوع وهو مقيد بما إذا قال أردت به الإنشاء في الحال كاطلب مني أو قال أردت الإتيان بمطلوبه. أما إذا قال أردت الإخبار كاذبا فيقع قضاء لا ديانة ولا يضمن المكره شيئا؛ لأنه عدل عما أكره عليه فكان طائعا في ذلك فلا يصدق قضاء ولا يضمن المكره؛ لأنه خالفه هذا إذا كان المهر مسمى وإن لم يكن مسمى فيه فيرجع عليه بما لزمه من المتعة، ولو أكره على أنه يعتق عبده أو يطلق امرأته ففعل رجع بالأقل من قيمة العبد ومن نصف المهر؛ لأن الضرر كان يندفع بالأقل، ولو كان ذلك بعد الدخول لا يجب على المكره شيء؛ لأنه لم يتلف عليه شيئا، ولو أكره على التوكيل بالطلاق أو العتاق فأوقع الوكيل وقع استحسانا والقياس أن لا يصح التوكيل؛ لأن الوكالة تبطل بالهزل فكذا مع الإكراه كالبيع وأمثاله وجه الاستحسان أن الإكراه لا يمنع انعقاد البيع، ولكن يوجب فساده فكذا التوكيل ينعقد مع الإكراه والشروط الفاسدة لا تؤثر في الوكالة؛ لأنها من الإسقاطات ويرجع الموكل على المكره بما أتلف عليه ولا ضمان على الوكيل؛ لأنه لم يوجد منه إكراه، ولو أكره على النذر صح ولزم؛ لأنه لا يحتمل الفسخ فلا يعمل فيه الإكراه ولا يرجع على المكره بما لزمه؛ لأنه لا مطالب له في الدنيا، وكذا اليمين والظهار ولا يعمل فيهما الإكراه؛ لأنهما لا يحتملان الفسخ وسواء كان اليمين على الطاعة أو على المعصية. وكذا الرجعة والإيلاء والفيء فيه باللسان؛ لأن الرجعة استدامة النكاح فألحقت بالنكاح والإيلاء يمين فألحق باليمين، ولو بانت بمضي أربعة أشهر ولم يكن دخل بها لزمه نصف المهر وليس له أن يرجع به على المكره؛ لأنه كان متمكنا من الفيء في المدة، وكذا الخلع؛ لأنه طلاق، ولو أكره على أن يجعل كل مملوك يملكه حرا في المستقبل ففعل، ثم ملك مملوكا عتق عليه ولا ضمان على المكره؛ لأن العتق حصل باعتبار صنع من جهته وإن أكره على أن يعلق عتق عبده بفعل لا بد له منه نحو أن يقول إن صليت فعبدي حر أو أكلت أو شربت، ثم فعل المكره هذه الأشياء عتق العبد وغرم المكره قيمته؛ لأنه لا بد له من هذه الأفعال وكان ملجئا، ولو أكره على أن يكفر ففعل لم يرجع بذلك على الذي أكره؛ لأنه أمره بالخروج عن حق لزمه، ولو أكره على عتق عبد عن كفارة ففعل عتق وعلى المكره قيمته؛ لأنه لمن لم يجب عليه أن يعتق عبدا معينا عن كفارة معينة فهو بالإكراه متعديا عليه ولا يجزيه عن الكفارة؛ لأنه في معنى العتق بعوض، ولو قال أنا أبرئه عن القيمة حتى يجزئ عن الكفارة لم يجز ذلك؛ لأن العتق نفذ غير مجزئ عن الكفارة والموجود بعد ذلك إبراء عن الدين وهو لا يتأدى به الكفارة، ولو قال أعتقته حين أكرهني وأنا أريد به عن الكفارة، ولو أعتقه بإكراه أجزأه عن الكفارة وليس له أن يرجع بقيمة العبد على المكره، ولو أكره على الزنا فزنى يجب عليه الحد في قول الإمام أولا. وهو قول زفر، ثم رجع، وقال لا يجب عليه الحد إذا أكرهه السلطان وإن أكرهه غيره يجب، وقالا لا يجب عليه الحد في الوجهين، وهذا اختلاف عصر وزمان على ما بيناه من قبل وفي موضع سقط الحد ووجب المهر سواء كانت مكرهة على الفعل أو أذنت له بذلك أما الأول فظاهر؛ لأنها لم ترض بسقوط حقها، وأما الثاني؛ فلأن إذنها لغو لكونها محجورة عن ذلك شرعا. قال رحمه الله: (وعلى الردة لم تبن امرأته) يعني لو أكره على الردة وأجرى كلمة الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان لم تبن امرأته؛ لأنه لم يكفر به، ولو قال عند قوله على الردة لم يرخص، ولو فعل لم تبن به امرأته لكان أولى وأحرى؛ ولأن الكفر يتعلق بتبدل الاعتقاد ولم يتبدل اعتقاده حيث كان قلبه مطمئنا بالإيمان حتى لو ادعت المرأة ذلك وأنكر كان القول قوله استحسانا والقياس أن يكون القول قولها حتى يفرق بينهما؛ لأن كلمة الكفر سبب لحصول البينونة بها فيستوي الطائع والمكره كلفظة الطلاق ووجه الاستحسان هذا اللفظ غير موضوع للفرقة وإنما تقع الفرقة باعتبار تغير الاعتقاد والإكراه دليل على عدم التغير فلا تقع الفرقة ولهذا لا يحكم عليه بالكفر بخلاف ما إذا أسلم مكرها حيث يحكم عليه بالإسلام؛ لأنه وجد منه أحد الركنين وفي الركن الآخر احتمال فرجحنا جانب الوجود احتياطا؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ونظيره السكران فإن إسلامه يصح ولا تصح ردته لعدم القصد هذا لبيان الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى فإذا لم يعتقد، فليس بمؤمن وعدم إبانة الزوجية إذا قال لم يخطر ببالي شيء ونويت ما طلب مني وقلبي مطمئن بالإيمان، ولو قال نويت الإخبار باطلا ولم أنو ما أمرت به بانت امرأته في الحكم؛ لأنه مخالف لما طلب منه باعتبار الظاهر فلا يصدق أنه نوى ذلك في حق المرأة، ولو قال أردت ما طلب مني، وقد خطر ببالي الخير على الباطل بانت امرأته ديانة وقضاء؛ لأنه كفر حقيقة والإكراه على الصلاة أو سب النبي صلى الله عليه وسلم في أمانة المرأة وعدمه على هذا التفصيل، ولو قال خطر ببالي أنه لو أكرهه العدو على كلمة الكفر لأجرى على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان كفر. قال رحمه الله: (وحرمة طرف الإنسان كحرمة نفسه) حتى لو أكره على قطع يد إنسان يقطع يده لا يرخص له ذلك فإن فعل ذلك يأثم ويجب القصاص على المكره لو كان حرا ويضمن نصف القيمة لو كان رقيقا، وهذا لا ينافيه ما نقله قاضي خان إذا قال لرجل اقطع يد هذا وإلا قتلتك وسعه أن يقطع، وإذا قطع كان على الآمر القصاص على قول الإمام وفي التتارخانية إذا قال إن لم يقطع يدك وإلا قطعتها لا يسعه أن يقطع يد نفسه ا هـ. فظهر بما نقلنا إذا كان أحدهما أغلظ من القطع وسعه وإن كان قطع بقطع لا يسعه، ولو أكره على قطع طرف نفسه حل له قطعه بخلاف ما إذا أكره على قتل نفسه حيث لا يحل له قتلها؛ لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال في حق صاحب الطرف حتى يحل له قطعها إذا أصابتها أكله، ولو أكره على أن يلقي نفسه في النار أو على الإلقاء من الجبل بالقتل وكان الإلقاء بحيث لا ينجو، ولكن فيه نوع تخفيف فله الخيار إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل عند الإمام فلو ألقى نفسه في النار فاحترق فعلى المكره القصاص، وعندهما لا يصبر ولا يفعل. ولو قال له لتلقين نفسك من رأس الجبل أو لأقتلنك بالسيف فألقى نفسه فمات فعند أبي حنيفة تجب الدية على عاقلة المكره؛ لأنه لو باشر لا يجب عليه القصاص؛ لأنه قتل بالمثقل، بل فيه الدية على العاقلة فكذا إذا أكره عليه، وعند الثاني تجب الدية على المكره في ماله، وعند محمد يجب القصاص، ولو قال لآخر اقتلني فقتله تجب الدية في ماله في الصحيح، ولو أكرهت المرأة على التزويج بمهر فيه غبن فاحش، ثم زال الإكراه فرضيت المرأة ولم يرض الولي فللولي الفراق عند أبي حنيفة أو يتم مهر المثل، وقالا ليس له ذلك؛ لأن المهر خالص حقها حتى تملك إسقاطه والله تعالى أعلم بالصواب. أورد الحجر عقيب الإكراه لأن في كل واحد منهما سلب ولاية المختار عن الجري على موجب الاختيار إلا أن الإكراه لما كان أقوى تأثيرا لأن فيه سلبها عمن له اختيار صحيح وولاية كاملة بخلاف الحجر والحجر في اللغة المنع من قولك حجر عليه القاضي يحجر حجرا إذا منعه من التصرف في ماله ولهذا سمي الحطيم حجرا؛ لأنه منع من البيت ومنه قوله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} أي لذي عقل وفي الشرع عبارة عن مبيع مخصوص في حق شخص مخصوص وهو الصغير والرقيق والمجنون وهذه الثلاثة سبب الحجر وألحق بهذه الثلاثة ثلاثة أخر المفتي الماجن والطبيب الجاهلي والمكاري المفلس، ومن محاسن الحجر أن فيه شفقة على خلق الله وهي أحد طرفي الديانة والآخر التعظيم لأمر الله وتحقيق ذلك أن الله تعالى خلق الورى وفرق بينهم في النهى فجعل بعضهم أولي النهى والرأي ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى وبعضهم مبتلى بأساليب الردى فيما يرجع إلى المعاملات كالمجنون والمعتوه والرقيق والصغير وركب الله في البشر العقل والهوى وركب في الملائكة العقل دون الهوى وركب في البهائم الهوى دون العقل فمن غلب عقله على هوائه كان من أفضل الخلق ومن غلب هواه على عقله كان أردى من البهائم ودليله ما روي أنه «عليه الصلاة والسلام حجر على معاذ وقسم ماله لغرمائه» ولأن تصرفه لا يشمل توفير النظر والمصلحة فلذا يحجر عليه قال رحمه الله: (هو منع عن التصرف قولا لا فعلا بصغر ورق وجنون) يعني يحجر عليه بهذه الأسباب المذكورة واعترض عليه بأن هذه العبارة تفيد حصر المنع في هذه الثلاثة؛ لأن ذكر الأفراد يفيده وليس كذلك بل يحجر على المفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس بالاتفاق والسفيه والمغفل والمديون على قولهما وعليه الفتوى كما في البزازية فقوله في دليل التعريف بصغر إلى آخره تفسير زائد وتقييد فاسد فالتعريف فيه قصور من حيث تقييد المطلق، وأصل التعريف الحقيقة وهو لا يخلو أما إن أراد أن يعرف المنع المتفق عليه فعليه أن يسقط الزيادة أو يريد ومجانة وجهل وإفلاس ليكون سببا للمتفق عليه أو يقول بسبب يوجبه ولا يخفى أن الرق ليس سببا للحجر في الحقيقة؛ لأنه مكلف محتاج كامل الرأي والعقل وإنما حجر عليه لحق المولى قوله لا فعلا أراد فعلا لم يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات أما إذا كان الفعل يتعلق به حكم يندرئ بالشبهات فهو محجور عليه في حكم ذلك الذي يندرئ بالشبهات كالصبي والمجنون إذا زنى أو قتل فهو محجور عليه بالنسبة لحكم الزنا وهو الحد وبالنسبة بحكم القتل وهو القصاص كذا في الجوهرة قوله قولا نكرة في سياق الإثبات وهي تختص عندنا قالوا المراد بالأقوال هنا ما تردد بين النفع والضرر كالبيع والشراء ويوجب الحجر من الأصل بالإعدام في حكم قول تمحض ضررا كالطلاق والعتاق في حق الصبي والمجنون دون العبد فإن طلاقه يقع ولم يوجب الحجر فيما تمحض نفعا كقبول الهبة والهدية والصدقة قوله لا فعلا نكرة في سياق النفي فيعم ما تقدم ذكره، فإن قيل الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر كلها من الأقوال المعتبرة في الشرع والقصد ليس بشرط لاعتبارها شرعا كما صرحوا به في مواضع لا سيما في مباحث الهزل في الأصول فكيف حكمت بأنها عدم من الصبي والمجنون مع أن القصد ليس بشرط في اعتبارها إذا صدرت مع تمام الأهلية وأجيب بأن من ذكر له قصد وما يقصد وما ذكر ليس له قصد معتبر فافترق الحال. ا هـ. قال رحمه الله: (فلا يصح تصرف صبي وعبد بلا إذن ولي وسيد)؛ لأن الصبي عديم العقل إذا كان غير مميز وإن كان مميزا فعقله ناقص لعدم الاعتدال وهو البلوغ فيحتمل فيه الضرر فلا يجوز إلا إذا أذن له المولى فيصح حينئذ لترجيح جانب المصلحة للمولى، فإذا أذن له بعد ذلك فيتصرف بأهليته إذا كان بالغا عاقلا وإن كان صغيرا فبأهلية الولي وفي السراجية للصغير الذي لا يعقل البيع إذا باع أو اشترى فأجاز الولي لم يصح ولو أذن القاضي للصبي بالتصرف صح تصرفه. قال رحمه الله: (ولا يصح تصرف المجنون المغلوب بحال) يعني لا يجوز تصرفه بحال ولو أجازه الولي؛ لأن صحة العبارة بالتمييز وهو لا تمييز له فصار كبيع الطوطي وإن كان يجن تارة ويفيق أخرى فهو في حال إفاقته كالعاقل، والمعتوه كالصبي العاقل في تصرفاته وفي رفع التكليف عنه وهو الناقص العقل وقيل: هو المدهوش من غير جنون واختلفوا في تفسيره اختلافا كثيرا وأحسن ما قيل فيه هو من كان قليل الفهم فاسد التدبير إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون. قال رحمه الله: (ومن عقد منهم وهو يعقله يجيزه الولي أو يفسخه) يعني من عقد البيع، والشراء من هؤلاء المحجورين وهو يعقله أي وهو يعقل أن البيع سالب، والشراء جالب ويعلم الغبن الفاحش من اليسير ويقصد به تحصيل الربح، والزيادة فالولي بالخيار إن شاء أجازه، وإن شاء رده، وإن قيل هذا في البيع يستقيم وأما في الشراء فلا يستقيم؛ لأنه لا يتوقف بل ينفذ على المشتري قلنا إنما ينفذ على المشتري إذا وجد نفاذا كشراء الفضولي وهنا لم يجد نفاذا لعدم الأهلية أو لتضرر المولى فيتوقف الكل قال في العناية الأقوال موجودة حسا ومشاهدة فأما لها شروط في اعتبارها شرعا القصد دون العقل أجيب بوجهين أحدهما: الأقوال الموجودة حسا ليست عين مدلولها بل دلالات عليها ويمكن تخلف المدلول عن دليله فيمكن أن يجعل الموجود بمنزلة المعدوم بخلاف الأفعال، فإن الموجود منها هو عينها فبعد ما وجدت لا يمكن أن تجعل غير موجودة. الثاني: القول قد يقع صدقا وكذبا ويقع جدا وهزلا فلا بد من القصد بخلاف الفعل قال: فإن قيل قوله تصرف صبي وعبد إلخ يفيد أن عقدهما لا ينعقد وقوله ومن عقد منهم وهو يعقله يجيزه الولي أو يفسخ يفيد أن ينعقد موقوفا وبينهما منافاة فالجواب أن المراد بقوله لا يصح لا ينفذ وهو شائع في عبارة الفقهاء، فإن قيل كان يمكنه أن يقول ومن عقد منهما بلفظ التثنية دون الجمع يعني الصبي، والعبد قلنا فهم من قوله: المغلوب غير المغلوب الذي بمنزلة الصبي، والعبد فلذا عبر بلفظ الجمع قال في العناية أراد الصبي، والمجنون الذي هو يجن ويفيق، فإنه بمنزلة الصبي قال ابن فرشتة الولي هو القاضي، والولي الذي يلي التجارة في مال الصبي كالأب، والجد، والوصي ولا يجوز بإذن العم، والأم، والأخ. ا هـ. وإذا رفع الأمر إلى القاضي لا يخلو إما أن يكون الثمن قائما أو هالكا ولا يخلو إما أن يكون بيع رغبة أو غبينة وإذا رد المبيع، والثمن قائم في يده رده، وإن كان المحجور استهلك الثمن ينظر إن استهلكه في النفقة وما يجوز له، فإن القاضي يعطي الدافع مثله، وإن استهلكه فيما لا يحتاج إليه، فإن صرفه في وجوه الفساد يضمن المحجور مثله عند الثاني وعند محمد لا يضمن كذا في التتارخانية، والظاهر أن الولي إذا علم بالبيع كالقاضي. قال رحمه الله: (وإن أتلفوا شيئا ضمنوا)؛ لأنهم غير محجور عليهم في الأفعال إذ لا يمكن أن يجعل القتل غير القتل، والقطع غير القطع فاعتبر في حقه فثبت عليه موجبه لتحقق السبب ووجود أهلية الوجوب وهي الذمة؛ لأن الإنسان يولد وله ذمة صالحة لوجوب الحق إلا أنه لا يطالب بالأداء إلا عند القدرة كالمعسر لا يطالب بالدين إلا إذا أيسر وكالنائم لا يطالب بالأداء إلا إذا استيقظ هكذا قاله الشارح فظاهره أن الوجوب يتأخر إلى البلوغ، والعتق وفي الحدادي يضمن كما يضمن الحر البالغ العاقل فظاهره أنه يضمن في الحال ويؤيده ما قال في العناية جنين ابن يوم لو انقلب على قارورة إنسان فكسرها يجب عليه الضمان في الحال. ا هـ. فلو أن الصبي أو المجنون أو العبد استهلكوا مالا ضمنوا المال في الحال وفي التتارخانية إذا أودع صبيا أو عبدا مالا فاستهلكه لا يضمن الصبي ولا العبد في الحال على قول محمد وقال أبو يوسف يضمن إلا أن العبد يؤاخذ بعد العتق، والصبي يؤاخذ بعد زوال الحجر؛ لأنه لما أودعهم سلطهم عليه وفي الأول لم يسلطهم فيضمن في الحال الصبي في ماله، والعبد يدفعه المولى أو يفديه. قال رحمه الله: (ولا ينفذ إقرار الصبي، والمجنون)؛ لأن اعتبار الأقوال في الشرع منوطة بالأهلية وهي معدومة فيهما حتى لو تعلق بإقرارهما حكم شرعي كالحد لا يعتبر أيضا إلا من حيث إنه إتلاف فيجب الضمان لا يقال هذا علم من قوله قولا؛ لأنا نقول بطريق التضمين، والتصريح أبلغ منه فلذا ذكره. قال رحمه الله: (وينفذ إقرار العبد في حقه لا في حق مولاه فلو أقر بمال لزمه بعد الحرية)؛ لأنه إقرار على غيره وهو المولى لما أنه وما في يده ملكه وإقرار الرجل على غيره لا يقبل، فإذا عتق زال المانع فتبيع به لوجوب سبب الأهلية، وظاهر العبارة نفوذ الإقرار مطلقا سواء سكت بعد ذلك أو قال باطلا أو حقا ولذلك قال في المحيط ولو أقر باستهلاك وديعة ثم صلح فصار أهلا للإقرار فأقر أنه استهلكها في حال فساده لم يضمن عند محمد بخلاف ما لو أقر بقتل على هذا الوجه حيث يلزمه في ماله كما لو شوهد ذلك منه، والفرق أن استهلاك الوديعة لم يثبت بمعاينة وبالبينة لم يصدق عند محمد فكذا إذا ثبت بالإقرار، والقتل لو صدر منه بالمعاينة وجبت الدية على العاقلة وكذا إذا ثبت بالإقرار يجب في ماله ولو أقر لرجل بمال ثم صلح بأن صار أهلا وقال أقررت بها باطلا لم يلزمه، وإن قال كان حقا يلزمه، وإن قال كان باطلا لم يوجد منه إقرار بعد الصلاح فلا يلزمه وكذا الصبي المحجور عليه لو أقر أنه استهلك مال إنسان بغير إذنه ثم قال بعد البلوغ كان حقا أو باطلا ولو قال لرجل بعد الصلاح أقرضني في حال فساد وقال الآخر لا بل في صلاحك واستهلكتها فالقول قول رب المال إلا أن يقيم المحجور البينة على ذلك والفرق أن في الأول أقر أن الاستهلاك وجد منه وادعى الإذن، والتسليط وأنكر رب المال ذلك لما قال أقرضتك فيكون القول قول المحجور عليه وعلى رب المال البينة بخلاف الثانية. قال رحمه الله: (ولو أقر بحد أو قود لزمه في الحال)؛ لأنه يبقى على أصل الحرية في حقهما؛ لأنهما من خواص الإنسانية وهو ليس بمملوك من جهة أنه آدمي بل من جهة أنه مال ولهذا لا يصح إقرار المولى بهما عليه؛ لأنه يبقى على أصل الحرية في حقهما، فإن قيل قال صلى الله عليه وسلم: «لا يملك العبد، والمكاتب شيئا إلا الطلاق» وشيئا نكرة في سياق النهي فتعم فيقتضي أن لا يملك الإقرار بالحدود، والقصاص قلنا لما بقي على أصل الحرية في حقهما يكون إقراره بهما إقرارا بالحرية لا بالعبدية ولأن قوله تعالى: {بل الإنسان على نفسه بصيرة} يقتضي أن يصح إقراره فينفذ أو يقال: إن النص يحمل أنه روي على غير هذه الصورة دفعا للتعارض. قال رحمه الله: تعالى (لا بسفه) يعني لا يحجر عليه بسبب السفه عند الإمام وقال أبو يوسف ومحمد يحجر عليه للإمام ما روى ابن عمر «أنه عليه الصلاة والسلام ذكر له رجل يخدع في البيع فقال من بايعت فقل لا خلابة» رواه البخاري ومسلم وفي رواية غيرهما قيل له احجر عليه ولأنه عاقل كامل العقل ألا ترى أنه مطلق فلا يحجر عليه كالرشيد ولهما قوله تعالى: {فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل} وهذا نص في إثبات الولاية على السفيه وما روي أنه «عليه الصلاة والسلام حجر على معاذ في الغياثية»، والمراد بالفساد هنا السفه وهو خفة تعتري الإنسان فتحمله على العمل بخلاف موجب الشرع، والعقل مع قيام العقل وقد غلب في عرف الفقهاء على تبذير وإتلاف على خلاف مقتضى الشرع، والعقل. ا هـ. وفي الأصل: والحجر بسبب الفساد، والسفه فهو نوعان: أحدهما لخفة في العقل وكان سببه القلب لا يهتدي إلى التصرفات فيحجر عليه القاضي على قولهما. والثاني أن يكون سفيها مضيعا لماله أما في الشر بأن يجمع أهل الشر، والفساد في داره ويطعمهم ويسقيهم ويصرف في النفقة ويفتح باب الجائزة، والعطاء عليهم أو في الخيرات بأن جميع ماله في بناء مسجد وأشباهه فيحجر القاضي عند صاحبيه صيانة لماله واتفقا على أن الحجر عليه بالدين لا يثبت إلا بقضاء القاضي واختلفوا في الحجر بسبب الفساد، والسفه قال أبو يوسف لا يثبت إلا بقضاء القاضي وعندهما يثبت بنفس السفه ولا يتوقف على قضاء القاضي قال في المحيط بالحجر ليس بقضاء بل فتوى لعدم شرائط القضاء وهي الدعوى، والإنكار حتى لو وجد الدعوى، والإنكار بأن وهب السفيه ماله من إنسان وسلم إليه وصار فقيرا تجب نفقته على محارمه فيرفعوا أمرهم إلى القاضي وأخبروه بأنه يفني ماله سفها وطلبوا منه الحجر عليه فالقاضي يحضر السفيه، والموهوب له فادعى عليه من وجبت عليه النفقة أن ماله في يد هذا الرجل فأمره برده عليه فقضى القاضي بالرد عليه يفسد قضاء. ا هـ. وفي التهذيب وإذا وجد شرط الدعوى وقضاء القاضي صار متفقا عليه فلا تنفذ تصرفاته بعد القضاء عندهما والإمام أيضا ا هـ. وفي المنتقى لو حجر عليه قاض فرفع ذلك إلى قاض آخر وأطلقه جاز إطلاقه؛ لأن الحجر من الأول فتوى لتقدم شرطه كما تقدم قال صاحب الهداية ولو قضى القاضي فنفس القضاء مختلف فيه فلا بد من إمضاء قاض آخر حتى يلزم؛ لأن الاختلاف إذا وقع في نفس القضاء لا يلزم ولا يصير مجمعا عليه حتى يمضيه قاض آخر بخلاف ما إذا كان الاختلاف موجودا قبل القضاء، فإنه بالقضاء الأول وجد شرطه فيكون مجمعا عليه ا هـ. قال الشارح وفيه نظر، فإن محمدا يقول بأنه يصير محجورا بنفس السفه قبل قضاء القاضي. وفي الأصل الحجر بسبب السفه يقارن الحجر بالدين من ثلاثة وجوه الأول: أن الحجر على السفيه لمعنى في ذاته أما الحجر بسبب الدين فلحق الغرماء الثاني: المحجور عليه بسبب السفه إذا أعتق عبدا ووجب عليه السعاية، فإذا أدى لا يرجع به على المولى بعد زوال الحجر، والمقضي عليه بالإفلاس إذا أعتق عبدا بما في يده وجبت عليه السعاية، فإذا أدى يرجع بما أدى على المولى بعد زوال الحجر. الثالث: المحجور عليه بالدين يزول إقراره بعد زوال الحجر وكذا حال قيام الحجر فيما يحدث من المال، والمحجور عليه بالسفه لا يجوز إقراره لا في حال الحجر ولا بعد زوال الحجر لا في المال القائم ولا الحادث وإذا صار السفيه مصلحا لماله هل يزول الحجر من غير قضاء القاضي فعند أبي يوسف لا يزول إلا بالقضاء وعند محمد يزول من غير قضاء. وفي نوادر هشام عن محمد السفيه المحجور إذا زوج ابنته الصغيرة أو أخاه الصغير لم يجز وفي البزازية، والفتوى على قولهما. قال رحمه الله: (فإن بلغ غير رشيد لم يدفع له ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة ونفذ تصرفه قبله ويدفع إليه ماله إن بلغ المدة معسرا) وهذا عند الإمام وعندهما لا يرفع إليه حتى يؤنس منه الرشد ولا يجوز تصرفه فيه أبدا لقوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم} علق الدفع بوجود الرشد فلا يجوز قبله وللإمام قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم}، والمراد منه بعد البلوغ ولأن حال البلوغ قد لا يفارقه السفه باعتبار أثر الصباء فقدرناه بخمس وعشرين سنة وما روي عن ابن عمر أنه قال ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وقد قال أهل الطبائع إذا بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ رشده؛ لأنه بلغ سنا يتصور أن يصير فيه جدا؛ لأن أدنى ما يبلغ فيه الغلام اثنا عشر سنة فيولد له ولد لستة أشهر ثم الولد يبلغ اثني عشر سنة فيولد له ولد لستة أشهر فقد صار بذلك جدا، والآية الثانية فيها تعليق الشرط، والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدم الشرط على أصلنا على ما عرف في موضعه، والتفريع لا يتأتى على قول الإمام ويتأتى على قولهما. وإذا باع لا ينفذ بيعه، وإن كان فيه مصلحة أجازه الحاكم؛ لأنه مكلف عاقل وينفذ فيما يضره كالإعتاق، والطلاق ولو باع قبل حجر القاضي عليه جاز عند أبي حنيفة؛ لأن السفيه ليس بمحبوس، وإنما يستدل عليه بالعيون في تصرفاته وذلك يحتمل؛ لأنه يجوز أن يكون للسفيه ويجوز أن يكون حيلة عنه لاستجلاب قلوب المجاهدين، فإذا تردد لا يثبت حكمه إلا بقضاء القاضي بخلاف الجنون، والصغر، والعته وعند محمد لا يجوز؛ لأن علة الحجر السفه وقد تحقق في الحال فيترتب عليه موجبه بغير قضاء كالصبا، والجنون، والعته بخلاف الحجر بالدين؛ لأنه لحق الغير؛ لأنه من طلبهم ولو قضى قاض في بيع سفيه بإبطال أو إجازة ثم رفع ذلك إلى قاض آخر لا يرى ما يراه الأول فينبغي أن يجيز القضاء الأول، فإذا أبطله ورفع إلى ثالث أبطل قضاء الثاني؛ لأن قضاء الأول قضاء فيما هو مختلف فيه فينفذ قضاؤه بالإجماع ويصير متفقا عليه، والثاني قضاء بخلاف الإجماع فلا ينفذ ولو كان الأول قضى بالحجر عليه ثم رجع وقضى بإطلاقه جاز قضاء الثاني؛ لأن قضاء الأول بالحجر كان أقوى. وإذا أجاز القاضي بيع المفسد ولم ينه المشتري عن دفع الثمن عليه يبرأ المشتري بالدفع إليه، وإن نهاه فدفع لم يبرأ ويدفع الثمن ثانيا، وإذا قال المشتري أجزت بيعه ونهاه المشتري عن الدفع إليه فدفع قبل العلم برئ وبعد العلم لا يبرأ كالوكيل إذا عزله الموكل بخلاف ما إذا أجاز بشرط أن لا يدفع له الثمن؛ لأنه لم يصر مأذونا بالدفع، فإذا دفع لم يبرأ علم أو لم يعلم، وإذا أذن له القاضي أن يبيع ويشتري جاز بيعه وقبضه بخلاف الأب إذا أذن له لا يصح إذنه؛ لأنه بعد البلوغ انقطعت ولايته. وإذا باع بما لا يتغابن فيه لا يجوز؛ لأن المحاباة تبرع وبما يتغابن فيه يجوز فلو قال القاضي لأهل السوق أجيز ما يثبت منه بالبينة ولا أجيز ما يثبت منه بالإقرار يعمل بهذا التخصيص في حقه ولو أذن للصبي على هذا الوجه يصير مأذونا في الأنواع كلها ولو أذن له في البر تعدى إلى سائر التجارات؛ لأن التخصيص إنما يصلح إذا كان مفيدا أو إنما يكون مفيدا إذا كان يحصل به صيانة المال وبهذا التخصيص لا يحصل، ولو قال لأهل السوق أذنت له ولا أجيز من بيعه وشرائه إلا ما قامت عليه البينة ولا أجيز إقراره فهو كما قال في الصبي، والعبد المأذون له أجيز ما أقيمت عليه البينة ولا أجيز إقرارهما يلزمهما بالإقرار كالبينة، والفرق أن المفسد في التخصيص يفيد صيانة المال فكان التخصيص مفيدا وفي الصبي المصلح، والعبد المصلح التخصيص غير مفيد؛ لأنهما حافظان لمالهما فلم يقدر محيط قال في التتارخانية ويثبت حكمه في النهي في حقه بخبر واحد سواء كان عدلا أو غير عدل عندهما وعند الإمام لا يثبت حتى يخبره رجلان أو رجل وامرأتان ا هـ. وإذا بلغ رشيدا ثم صار سفيها فهو على هذا الخلاف، وإذا أعتق عبدا عتق عندهما وقال الشافعي لا يعتق. لنا أن كل كلام لا يؤثر فيه الهزل لا يؤثر فيه السفه وكل تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر السفه فيه قال في العناية وفيه بحث من أوجه: الأول: أن السفيه إذا حنث في يمينه وأعتق رقبة لا ينفذه القاضي وكذا لو نذر بهدي أو غيره لم ينفذ فهذا مما لا يؤثر فيه الهزل وقد أثر فيه الحجر بالسفه. والثاني أن الهازل إذا أعتق عبده عتق ولم يجب عليه سعاية، والمحجور عليه بخلافه. والجواب عن الأول أن القضاء بالحجر عن التصرفات المالية فيما يرجع إلى الإتلاف يستلزم عدم تنفيذ الكفارات، والنذر؛ لأن في تنفيذهما إضاعة المقصود من الحجر ا هـ. وإذا نفذ عندهما فعلى العبد أن يسعى في قيمته عند محمد وهو الصحيح ولو جوز في الظهار نفذ ويسعى العبد في قيمته وهو قول أبي يوسف أولا وفي قول أبي يوسف الأخير وهو رواية عن محمد ليس عليه سعاية؛ لأنه لو سعى يسعى لمعتقه، والمعتق لا يلزمه السعاية لحق معتقه بحال ما، وإنما تلزمه السعاية لأجل الغير ولو دبر جاز تدبيره عنده إلا أن المدبر لا تجب عليه السعاية ما دام المولى حيا، فإذا مات المولى ولم يؤنس منه الرشد سعى في قيمته مدبرا، وإن جاءت جاريته بولد فادعاه ثبت نسبه منه وكانت الأمة أم ولد له، والولد حر؛ لأنه في إلحاقه بالمصلح في الاستيلاد توفيرا للنظر لاحتياجه إليه ويلحق هذا الحكم بالمريض المديون وتعتق من جميع ماله بموته ولا تسعى ولا ولدها في شيء بخلاف ما إذا أعتقها من غير أن يدعي الولد ولو لم يكن معها ولد فقال المحجور هذه أم ولدي كانت بمنزلة أم الولد لا يقدر على بيعها، فإذا مات المولى سعت في كل قيمتها بمنزلة المريض إذا قال لأمته هذه أم ولدي وليس معها ولد؛ لأنها إذا كان معها ولد فثبوت نسب الولد بمنزلة الشاهد بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد؛ لأنه شاهد معها. وإن تزوج امرأة جاز النكاح؛ لأنه لا يؤثر فيه الهزل فلا يؤثر فيه السفه، فإذا سمى لها مهرا جاز منه مقدار مهر مثلها وبطل الفضل، وإذا طلقها قبل الدخول وجب نصف مقدار مهر المثل من المسمى وكذا لو تزوج أربع نسوة أو تزوج كل يوم واحدة وطلقها. وفي الأصل وللأب ووصيه أن يتصرف في مال السفيه بإذن القاضي وفي قاضي خان سئل أبو بكر البلخي عن محجور وقف عليه ضيعة فقال وقفه باطل إلا أن يأذن له القاضي وقال أبو القاسم: لا يجوز وقفه، وإذا أذن له القاضي ا هـ. قال في المحيط امرأة مسرفة سفيهة طلقها زوجها على مال وقبلت وقع الطلاق رجعيا ولا يلزمها المال أصلا؛ لأن السفيه محجور عن المال، وإذا وقع بلفظ الخلع وقع بائنا وفي المنتقى، وإذا دفع الوصي إلى الوارث حين أدرك وهو فاسد فهو جائز وهو بريء عن الضمان. ويخرج الزكاة عن مال السفيه وينفق عليه وعلى ولده وعلى زوجته ومن تجب النفقة من ذوي أرحامه من ماله؛ لأن إحياء ولده وزوجته من حوائجه الأصلية، والإنفاق على ذوي الأرحام واجب عليه حقا لقريبه، والسفه لا يبطل حقوق الناس ولا حقوق الله تعالى إلا أن القاضي يدفع إليه قدر الزكاة ليفرقها بنفسه على الفقراء؛ لأن الواجب عليه الإيتاء وهو عبارة عن فعل يفعله وهو عبادة ولا يحصل ذلك إلا بنيته ويدفع القاضي معه أمينا كي لا يصرفها إلى غير المصرف، ويسلم القاضي النفقة إلى أمينه ليصرفها إلى مستحقيها؛ لأنه لا يحتاج فيها إلى النية فاكتفي فيها بفعل الأمين وفي المحيط ولا يصدق أنه قريبه إلا ببينة إلا الوالد، والولد، والزوج، والمولى وكذا المرأة في سوى الولد؛ لأن نفقة الوالدين، والمولودين تجب بالنسب وهو مصدق فيه ونفقة غيرهم تجب باعتبار القرابة، والعسر، والحاجة فلا يثبت الإقرار. ولو حلف وحنث أو نذر نذرا من هدي أو صدقة أو ظاهر من امرأته يكفر عن يمينه وغيرها بالصوم، وإذا أراد حجة الإسلام لا يمنع منها؛ لأنها واجبة بإيجاب الله تعالى ابتداء وليس له فيها صنع وفي الفرائض هو ملحق بالصلح إذ لا تهمة فيها وكذا العمرة واجبة بإيجاب الله تعالى. وإن اصطاد في إحرامه أو حلق أو فعل ما يجب به الصوم صام ولم يدفع فيه مالا ولو رأى القاضي أن يأمر إذا ابتلى بأذى فحلق أو لبس أن يذبح أو يتصدق عنه فلا بأس بذلك ولا يفعله الأمير بغير إذن القاضي، وإن تطيب في إحرامه أو فعل ما لا يجوز فيه الصوم فهذا لازم ولا يؤديه حتى يصلح؛ لأنه بمنزلة العبد عليه، والعبد إذا أحرم بإذن مولاه فارتكب شيئا من محظورات الإحرام، فإن كان جزاؤه بالصوم، فإنه يصوم، وإن كان بالمال يتأخر، والكفارة في ذمته لا تدفع إلا أن يصلح. ولو جامع بعد الوقوف قبل الطواف يلزمه بدنة ويتأخر إلى أن يصلح ولو قضى حجة إلا طواف الزيارة فرجع إلى أهله ولم يطف طواف الصدر لا يمنع نفقة الرجوع للطواف، وإن طاف جنبا ثم رجع لم تدفع إليه نفقة العود وعليه بدنة بطوافه جنبا وشاة لطواف الصدر، فإذا حضر في حجة الإسلام بسبب هدي ليتحلل به كالعبد المأذون؛ لأنه لا صنع له فيه ولو أحرم بحجة تطوع دفع إليه من النفقة مقدار ما لو كان في منزله ويقال له: إن شئت فاخرج ماشيا إلا أن يكون القاضي وسع في النفقة فقال: إنا أكري بذلك الفضل وأنفق على نفسي فلا يمنع من ذلك؛ لأنه ليس فيه إسراف، وإذا مرض يزاد في نفقته لزيادة الحاجة ولو حصر في حجة التطوع لا يبعث بهدي إلا أن يبلغ موضع الضرورة ولا يمنع من القران ولا من المتعة أراد سوق هدي أو لا؛ لأنه أخف في النفقة ولا يسلم القاضي النفقة إليه بل يسلمها إلى ثقة لينفقها عليه في الطريق كي لا يبذر ويسرف في النفقة. وإن أوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير جاز ذلك من ثلث ماله يعني إذا كان له وارث استحسانا، والقياس أن لا تجوز وصيته كما لا تجوز تبرعاته وجه الاستحسان أن الحجر عليه لمعنى النظر له لكي لا يتلف ماله ويبقى كلا على غيره وذلك في حياته لا فيما ينفذ من الثلث بعد وفاته حال استغنائه عنه هذا إذا كان الموصى به موافقا لوصايا أهل الخيرية، والصلاح نحو الوصية بالحج أو للمساكين أو بناء المساجد، والأوقاف، والقناطر، والجسور وأما إذا أوصى بغير القرب عندنا لا ينفذ قال محمد رحمه الله تعالى المحجور عليه بمنزلة الصبي إلا في أربعة أحدها أن تصرف الوصي في مال الصبي جائز وفي مال المحجور عليه باطل الثاني إعتاق المحجور عليه وتدبيره وطلاقه ونكاحه جائز ومن مال الصبي لا تجوز قال في المحيط ، وإذا دبر عبده صح ولا يسعى في نقصان التدبير ما دام حيا، وإذا مات يسعى في قيمته مدبرا قال مشايخنا هذا إذا كان أهل الصلاح يعدون هذه الوصية إسرافا، فإن كانوا لا يعدونها إسرافا بل معهودا حالا يسعى في قيمته إذا كان يخرج من الثلث ا هـ. قال رحمه الله: تعالى (وفسق) يعني لا حجر عليه بسبب فسق وهو معطوف على قوله لا بسفه وقال الإمام الشافعي يحجر عليه بالفسق كالسفه زجرا له وعقوبة له وعندهما الحجر على السفيه صيانة لماله، والفاسق مصلح لماله فيدخل تحت قوله تعالى: {فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم}؛ لأن رشدا نكرة فتعم فتتناوله الآية إذ الرشد المذكور في الآية المراد به الإصلاح في المال لا الدين؛ لأن الكافر لا يحجر عليه، والفسق الأصلي، والطارئ سواء. قال رحمه الله: (وغفلة) يعني لا يحجر على الغافل وهو ليس بمفسد ولا يقصده لكن لا يهتدي إلى التصرفات الرابحة وهذا قول الإمام وقال أبو يوسف ومحمد والإمام الشافعي يحجر عليه كالسفيه صيانة لماله ونظرا له؛ لأن «أهل منقذ طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الحجر عليه فأقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم» فدل على أنه مشروع قلنا الحديث دليل للإمام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يجبهم لذلك، وإنما قال: «قل لا خلابة» الحديث ولو كان مشروعا لأجابهم إليه. قال رحمه الله: (ودين، وإن طلب غرماؤه) يعني لا يحجر عليه بسبب الدين ولو طلب غرماؤه الحجر عليه وهذا عند الإمام؛ لأن في الحجر عليه إهدار أهليته وإلحاقه بالبهائم وذلك ضرر عظيم فلا يجوز وعندهما يجوز عليه بسبب الدين وعلى قولهما الفتوى كذا في قاضي خان من باب الحيطان وفي الكافي، والكلام في الحجر بالدين في موضعين أحدهما أن يركبه دين مستغرق لماله أو يزيد على أمواله وطلب الغرماء من القاضي أن يحجر فيحجر عليه ويمنع من البيع، والتصرف، والإقرار حتى لا يضر بالغرماء وفي النوادر مسألة الحجر بسبب الدين بناء على مسألة القضاء بالإفلاس عندهما يتحقق في حال حياته فيمكن القاضي القضاء بالإفلاس وفي العناية، وإذا قضى بالحجر بسبب الدين يختص بالمال الموجود في الحال دون ما يحدث من الكسب أو غيره حتى لو تصرف في الحادث نفذ، وإذا صح الحجر بسبب الدين صار حال هذا المحجور عليه كحال مريض عليه ديون الصحة وكل تصرف يؤدي إلى إبطال حق الغرماء فالحجر يؤثر فيه وفي التتارخانية يشترط علم المحجور عليه حتى يصير محجورا عليه. وفي النوادر، وإذا حبس الرجل في الدين ينبغي للقاضي أن يشهد أنه قد حجر عليه في ماله حتى يقضي ديونه التي حبس فيها قال رحمه الله: (وحبس ليبيع ماله في دينه)؛ لأن قضاء الدين واجب عليه، والمماطلة ظلم فيحبسه الحاكم دفعا لظلمه وإيصالا للحق إلى مستحقه ولا يكون ذلك إكراها على البيع؛ لأن المقصود من الحبس الحمل على قضاء الدين بأي طريق كان عند أبي حنيفة وقالا إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر عليه القاضي وباع ماله إن امتنع من بيعه وقسم ماله بين الغرماء ومنعه من تصرف يضر بالغرماء كالإقرار وبيعه بأقل من قيمته لما روي أن «معاذا ركبه دين فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وقسم ثمنه بين غرمائه بالحصص» ولأن في الحجر عليه نظرا للغرماء لئلا يلحقهم الضرر بالإقرار، والتلجئة وهو أن يبيعه من إنسان عظيم القدر لا يمكن الانتزاع منه أو بالإقرار له ثم ينتفع به من جهته على ما كان ولأن البيع واجب عليه لإيفاء دينه، فإذا امتنع ناب القاضي منابه، وإن كان معسرا لا يؤجره ليقضي من أجرته دينه أو كانت امرأة لا يزوجها ليقضي دينها من مهرها وتحبس ليقضى الدين من مهرها أو بأي طريق كان، والفتوى على قولهما ا هـ. قال رحمه الله: (ولو ماله دراهم ودينه دراهم قضي بلا أمره) وكذا إذا كان كلاهما دنانير؛ لأن للدائن أن يأخذه بيده إذا ظفر بجنس حقه فكان القاضي معينا له قال رحمه الله: (ولو ماله دراهم وله دنانير أو بالعكس بيع من دينه) وهذا بالإجماع أما عندهما فظاهر وأما عند الإمام فاستحسان به، والقياس أن لا يجوز للقاضي بيعه لما ذكرنا أن هذا الطريق غير متعين لقضاء الدين فصار كالعروض. وجه الاستحسان أنهما يتحدان جنسا في الثمنية، والمالية ولذا يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة يختلفان في الصور حقيقة وحكما أما حقيقة فظاهر وأما حكما فلأنه لا يجري بينهما ربا الفضل لاختلافهما فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي ولاية التصرف وبالنظر إلى الاختلاف يسكت عن الدائن فله الأخذ عملا بالشبهين. قال رحمه الله: (ولم يبع عرضه وعقاره) وهذا عند الإمام وهو بإطلاقه صادق بحال الحياة، والموت قال في الجوهرة ويبيع القاضي عرضه وعقاره بعد الموت بالإجماع وعندهما يبيع القاضي ذلك وعليه الفتوى كذا في البزازية فعندهما يبدأ القاضي ببيع النقود؛ لأنها مفيدة للتقليب ولا ينتفع بعينها، فإن فضل شيء من الدين بيع العروض فيها؛ لأنها مفيدة للتقليب، والاسترباح، فإن لم يف ثمنها بالدين بيع العقار؛ لأن العقار مفيد للنفي عادة فلا يبيعه إلا عند الضرورة هذه الطريقة إحدى الروايتين عندهما وفي الرواية الأخرى عندهما يبدأ القاضي ببيع ما يخشى عليه التوى من عروضه ثم ما لا يخشى عليه التلف منه ثم يبيع العقار ويترك عليه دست ثياب من ثياب بدنه ويبيع الباقي؛ لأنه به كفاية وقيل يترك دستتين؛ لأنه إذا غسل ثيابه لا بد من ثياب يلبسها قالوا إذا كان للمديون ثياب يلبسها ويكتفي بدونها يبيع ثيابه ويقضي الدين ببعض ثمنها ويشتري بما بقي ثوبا يلبسه؛ لأن قضاء الدين فرض عليه فكان أولى من التجمل وعلى هذا إذا كان له مسكن ويمكنه أن يجتزي بدون ذلك يبيع ذلك المسكن ويوفي ببعض ثمنه الدين ويشتري بالباقي مسكنا يسكن فيه وعن هذا قال مشايخنا يبيع ما لا يحتاج إليه في الحال حتى يبيع اللبد في الصيف، والنطع في الشتاء. وإن أقر في حال حجره بمال لزمه ذلك بعد قضاء الدين بخلاف ما إذا استهلك مالا لغيره وحيث يزاحم صاحب المال المستهلك أرباب الديون؛ لأنه فعل حسي وهو مشاهد ولذا لو قلنا لو كان سبب وجوب الدين الذي أقر به ثانيا عند القاضي بعلمه أو بشهادة الشهود شارك الغرماء ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره فيه؛ لأن حق الغرماء تعلق بالمال الموجود وقت الحجر دون الحادث وينفق على المحجور وعلى زوجته وأولاده الصغار وذوي أرحامه من ماله؛ لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء وفي التتارخانية إذا غاب الزوج وطلبت زوجته من القاضي أن يبيع يبيع القاضي عندهما. وفي الخانية ولو حجر القاضي على رجل وعليه ديون مختلفة فقضى المحجور دين البعض يشاركه الباقون في ذلك ويقسم عليهم، فإن كان المحجور أسرف في الطعام، والكسوة أمره القاضي أن ينفق بالمعروف. وفي الينابيع المحجور عليه إذا تزوج امرأة وزاد في مهر مثلها جاز في مهر مثلها؛ لأنه من الحوائج الأصلية. وفي الذخيرة إذا باع القاضي مال المديون أو أمينه بالدين الذي ثبت عليه ببينة أو إقرار وضاع الثمن أو استحق العين المعينة فالعهدة على من باع لأجله لا على القاضي وأمينه ا هـ. قال رحمه الله: (وإفلاس) يعني لا يحجر عليه بسبب الإفلاس بل يحبس حتى يظهر له مال، فإن لم يظهر له مال أخرجه من الحبس وقد ذكرنا الحبس وما يحبس فيه من الديون وكيفية الحبس وقدره وبدين من يحبس، والملازمة وصفتها في كتاب القضاء، وإذا أخرجه من الحبس لا يحول بينه وبين غرمائه بعد الإخراج بل يلازمونه عند أبي حنيفة لقوله عليه الصلاة والسلام: «لصاحب الحق اليد، واللسان» أراد باليد الملازمة وباللسان التقاضي ويأخذون فضل كسبه ويقسم بينهم بالحصص لاستواء حقوقهم في القوة ولو قدم البعض على البعض في القضاء جاز؛ لأنه تصرف في خالص ملكه ولم يتعلق لأحد حق في ماله، وإنما حقه في ذمته فله أن يؤثر من يشاء من غرمائه ذكره في النهاية وقال أبو يوسف ومحمد إذا فلسه الحاكم حال بينه وبين غرمائه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا لقوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} وقد ثبت عسرته فوجب انتظاره وفي الهداية قال محمد للمدعي أن يحبسه في بيته أو يتخذ حبسه وفي رواية أخرى لرب الدين أن يلزم مديونه المعسر حيث أحب، وإن كان الملزوم لا معيشة له إلا من يده لم يكن له أن يمنعه من الذهاب، والمجيء. قال رحمه الله: (وإن أفلس مبتاع عين فبائعه أسوة الغرماء) يعني لو اشترى متاعا فأفلس، والمتاع في يده فالذي باعه المتاع أسوة الغرماء فيه مراده بعد قبض المشتري المتاع بإذن البائع، وإن كان قبل القبض فللبائع أن يحبس المتاع حتى يقبض الثمن وكذا إذا قبضه بغير إذن البائع كان له أن يسترده ويحبسه بالثمن وقال الإمام الشافعي للبائع فسخ العقد وأخذ متاعه قبل القبض وبعده لما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: «من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو عند إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره» ولأن المشتري قد عجز عن تسليم إحدى بدلي العقد وهو الثمن فيثبت للبائع حق الفسخ كما إذا عجز عن تسليم المبيع، والجامع بينهما أنه عقد معاوضة فيقتضي المساواة، وإنما قوله تعالى: {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} فاستحق النظر إلى الميسرة بالآية فليس له المطالبة قبلها ولا فسخ بدون المطالبة بالثمن وهذا؛ لأن الدين صار مؤجلا إلى الميسرة بتأجيل الشارع وبالعجز عن الدين المؤجل من المتعاقدين لا يجب له خيار الفسخ قبل مضي الأجل فكيف يثبت ذلك في تأجيل الشارع وهو أقوى من تأجيلهما. والجواب عن الحديث أنه قال من وجد ماله وهذا مال المشتري لا مال البائع، وإنما يصلح أن يكون حجة أن لو قال فأصاب رجل عين مال قد كان باعه من الذي وجده في يده ولم يقبض ثمنه فهو أحق به من كل الغرماء وهو نظير ما روي عن سمرة أنه عليه الصلاة والسلام: «قال من سرق ماله أو ضاع له متاع فوجده في يد رجل بعينه فهو أحق به ويرجع المشتري على بائعه بالثمن» رواه الطحاوي وقوله عقد معاوضة فيقتضي المساواة قلنا يقتضي التسوية بينهما في الملك وهو لكل واحد منهما ولئن سلمنا أنه يفيد التسوية في القبض فقد بطل ذلك بالتأجيل إلى الميسرة ولو قال ولو تسلم متاعا بإذن بائعه إلى آخره كان أولى ولإفادة شرط التسليم، والإذن فتأمل والله تعالى أعلم.
|