الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (15- 24): {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}{كمثل}: خبر مبتدأ محذوف، أي مثلهم، أي بني النضير {كمثل الذين من قبلهم قريباً}: وهم بنو قينقاع، أجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلاً لهم، قاله ابن عباس؛ أو أهل بدر الكفار، فإنه عليه الصلاة والسلام قتلهم، فهم مثلهم في أن غلبوا وقهروا. وقيل: الضمير في {من قبلهم} للمنافقين، و{الذين من قبلهم}: منافقو الأمم الماضية، غلبوا ودلوا على وجه الدهر، فهؤلاء مثلهم. ويبعد هذا التأويل لفظة {قريباً} أن جعلته متعلقاً بما قبله، وقريباً ظرف زمان وإن جعلته معمولاً لذاقوا، أي ذاقوا وبال أمرهم قريباً من عصيانهم، أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا، كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء. {ولهم عذاب أليم} في الآخرة.{كمثل الشيطان}: لما مثلهم بمن قبلهم، ذكر مثلهم مع المنافقين، فالمنافقون كالشيطان، وبنو النضير كالإنسان، والجمهور: على أن الشيطان والإنسان اسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه. كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبات، ووعدوهم النصر. فلما نشب بنو النضير، خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال. وقيل: المراد استغواء الشيطان قريشاً يوم بدر. وقوله لهم: {لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم} إلى قوله: {إني بريء منكم} وقيل: التمثيل بشيطان مخصوص مع عابد مخصوص استودع امرأة، فوقع عليها فحملت، فخشي الفضيحة، فقتلها ودفنها. سول له الشيطان ذلك، ثم شهره، فاستخرجت فوجدت مقتولة؛ وكان قال إنها ماتت ودفنتها، فعلموا بذلك، فتعرض له الشيطان وقال: اكفر واسجد لي وأنا أنجيك، ففعل وتركه عند ذلك وقال: أنا بريء منك. وقول الشيطان: {إني أخاف الله} رياء، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه. وقرأ الجمهور: {عاقبتهما} بنصب التاء؛ والحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم: برفعهما. والجمهور: {خالدين} بالياء حالاً، و{في النار} خبر أن؛ وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن عبلة: بالألف، فجاز أن يكون خبر أن، والظرف ملغى وإن كان قد أكد بقوله: {فيها}، وذلك جائز على مذهب سيبويه، ومنع ذلك أهل الكوفة، لأنه إذا أكد عندهم لا يلغى. ويجوز أن يكون في النار خبراً، لأن {خالدين} خبر ثان، فلا يكون فيه حجة على مذهب سيبويه.ولما انقضى في هذه السورة، وصف المنافقون واليهود. وعظ المؤمنين، لأن الموعظة بعد ذكر المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العذاب، وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد، أو لإختلاف متعلق بالتقوى. فالأولى في أداء الفرائض، لأنه مقترن بالعمل؛ والثانية في ترك المعاصي، لأنه مقترن بالتهديد والوعيد. وقرأ الجمهور: {ولتنظر}: أمراً، واللام ساكنة؛ وأبو حيوة ويحيى بن الحارث: بكسرها. وروي ذلك عن حفص، عن عاصم والحسن: بكسرها وفتح الراء، جعلها لام كي.ولما كان أمر القيامة كائناً لا محالة، عبر عنه بالغد، وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب. وقال الحسن وقتادة: لم يزل يقر به حتى جعله كالغد، ونحوه: كأن لم تغن بالأمس، يريد تقريب الزمان الماضي. وقيل: عبر عن الآخرة بالغد، كأن الدنيا والآخرة نهاران، يوم وغد. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بقوله: {لغد}: ليوم الموت، لأنه لكل إنسان كغده. وقال مجاهد وابن زيد: بالأمس الدنيا وغد الآخرة. وقال الزمخشري: أما تنكير النفس فاستقلال للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة، كأنه: قيل لغد لا يعرف كنهه لعظمه. انتهى. وقرأ الجمهور: {لا تكونوا} بتاء الخطاب؛ وأبو حيوة: بياء الغيبة، على سبيل الالتفات. وقال ابن عطية: كناية عن نفس التي هي اسم الجنس؛ {كالذين نسوا}: هم الكفار، وتركوا عبادة الله وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى، وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواتهم؛ {فأنساهم أنفسهم}، حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب. عوقبوا على نسيان جهة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم. قال سفيان: المعنى حظ أنفسهم، ثم ذكر مباينة الفريقين: أصحاب النار في الجحيم، وأصحاب الجنة في النعيم، كما قال: {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون} وقال تعالى: {أم نجعل المتقين كالفجار} {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل}: هذا من باب التخييل والتمثيل، كما مر في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات} ودل على ذلك: {وتلك الأمثال نضربها للناس} والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع. وإذا كان الجبل على عظمه وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع، فابن آدم كان أولى بذلك، لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر. وقرأ طلحة: مصدعاً، بإدغام التاء في الصاد؛ وأبو السمال وأبو دينار الأعرابي: القدوس بفتح القاف؛ والجمهور: بالفك والضم. وقرأ الجمهور: المؤمن بكسر الميم، اسم فاعل من آمن بمعنى أمن. وقال ثعلب: المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا. وقال النحاس: أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة. وقيل: المصدق نفسه في أقواله الأزلية. وقرأ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وقيل، أبو جعفر المدني: المؤمن بفتح الميم. قال أبو حاتم: لا يجوز ذلك، لأنه لو كان كذلك لكان المؤمن به وكان جائزاً، لكن المؤمن المطلق بلا حرف جر يكون من كان خائفاً فأومن. وقال الزمخشري: يعني المؤمن به على حذف حرف الجر، كما تقول في قوم موسى من قوله: {واختار موسى قومه} المختارون. {المهيمن}: تقدم شرحه. {الجبار}: القهار الذي جبر خلقه على ما أراد. وقيل: الجبار: الذي لا يدانيه شيء ولا يلحق، ومنه نخلة جبارة إذا لم تلحق، وقال امرؤ القيس:وقال ابن عباس: هو العظيم، وجبروته: عظمته. وقيل: هو من الجبر، وهو الإصلاح. جبرت العظم: أصلحته بعد الكسر. وقال الفراء: من أجبره على الأمر: قهره، قال: ولم أسمع فعالاً من أفعل إلا في جبار ودراك. انتهى، وسمع أسار فهو أسار. {المتكبر}: المبالغ في الكبرياء والعظمة. وقيل: المتكبر عن ظلم عباده، {الخالق}: المقدر لما يوجده. {البارئ}: المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة، {المصور}: الممثل. وقرأ عليّ وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميقع: المصور بفتح الواو والراء، وانتصب مفعولاً بالباري، وأراد به جنس المصور. وعن علي؛ فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول، نحو: الضارب الغلام. .سورة الممتحنة: .تفسير الآيات (1- 9): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)}ومناسبة هذه السورة لما قبلها: أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار، افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودّد إليهم، وأضاف في قوله: {عدوي} تغليظاً، لجرمهم وإعلاماً بحلول عقاب الله بهم. والعدو ينطلق على الواحد وعلى الجمع، وأولياء مفعول ثان لتتخذوا. {تلقون}: بيان لموالاتهم، فلا موضع له من الإعراب، أو استئناف إخبار. وقال الحوفي والزمخشري: حال من الضمير في {لا تتخذوا}، أو صفة لأولياء، وهذا تقدّمه إليه الفراء، قال: {تلقون إليهم بالمودة} من صلة {أولياء}. انتهى. وعندهم أن النكرة توصل، وعند البصريين لا توصل بل توصف، والحال والصفة قيد وهم قد نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً، والتقييد يدل على أنه يجوز أن يتخذوا أولياء إذا لم يكونوا في حال إلقاء المودة، أو إذا لم يكن الأولياء متصفين بهذا الوصف، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} فدل على أنه لا يقتصر على تلك الحال ولا ذلك الوصف. والأولياء عبارة عن الإفضاء بالمودة، ومفعول {تلقون} محذوف، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسراره. والباء في {بالمودة} للسبب، أي بسبب المودة التي بينهم. وقال الكوفيون: الباء زائدة، كما قيل: في: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}: أي أيديكم. قال الحوفي: وقال البصريون هي متعلقة بالمصدر الذي دل عليه الفعل، وكذلك قوله {بإلحاد بظلم} أي إرادته بإلحاد. انتهى. فعلى هذا يكون {بالمودة} متعلقاً بالمصدر، أي إلقاؤهم بالمودّة، وهذا ليس بجيد، لأن فيه حذف المصدر، وهو موصول، وحذف الخبر، إذ إلقاؤهم مبتدأ وبما يتعلق به، {وقد كفروا} جملة حالية، وذو الحال الضمير في {تلقون}: أي توادونهم، وهذه حالهم، وهي الكفر بالله، ولا يناسب الكافر بالله أن يودّ. وأجاز الزمخشري أن يكون حالاً من فاعل {لا تتخذوا}.وقرأ الجمهور: {بما جاءكم}، والجحدري والمعلى عن عاصم: لما باللام مكان الباء، أي لأجل ما جاءكم. {يخرجون الرسول}: استئناف، كالتفسير لكفرهم، أو حال من ضمير {كفروا}، {وإياكم}: معطوف على الرسول. وقدّم على إياكم الرسول لشرفه، ولأنه الأصل للمؤمنين به. ولو تقدّم الضمير لكان جائزاً في العربية، خلافاً لمن خص ذلك بالضرورة، قال: لأنك قادر على أن تأتي به متصلاً، فلا تفصل إلا في الضرورة، وهو محجوج بهذه الآية وبقوله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} وإياكم أن اتقوا الله، وقدّم الموصول هنا على المخاطبين للسبق في الزمان وبغير ذلك من كلام العرب. و{أن تؤمنوا} مفعول من أجله، أي يخرجون لإيمانكم أو كراهة إيمانكم، {إن كنتم خرجتم}: شرط جوابه محذوف لدلالة ما تقدّم عليه، وهو قوله: {لا تتخذوا عدوي}، ونصب جهاداً وابتغاء على المصدر في موضع الحال، أي مجاهدين ومبتغين، أو على أنه مفعول من أجله.{تسرون}: استئناف، أي تسرون وقد علمتم أني أعلم الإخفاء والإعلان، وأطلع الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك، فلا طائل في فعلكم هذا. وقال ابن عطية: {تسرون} بدل من {تلقون}. انتهى، وهو شبيه ببدل الاشتمال، لأن الإلقاء يكون سراً وجهراً، فهو ينقسم إلى هذين النوعين. وأجاز أيضاً أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: أنتم تسرون. والظاهر أن {أعلم} أفعل تفضيل، ولذلك عداه بالباء. وأجاز ابن عطية أن يكون مضارعاً عدى بالباء قال: لأنك تقول علمت بكذا. {وأنا أعلم}: جملة حالية، والضمير في {ومن يفعله منكم}، الظاهر أنه إلى أقرب مذكور، أي ومن يفعل الأسرار. وقال ابن عطية: يعود على الاتخاذ، وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل، أو على الظرف على تقدير اللزوم، والسواء: الوسط.ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء، وشرح ما به الولاية من الإلقاء بالمودة بينهم، وذكر ما صنع الكفار بهم أولاً من إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ذكر صنيعهم آخراً لو قدروا عليه من أنه إن تمكنوا منكم تظهر عداوتهم لكم، ويبسطوا أيديهم بالقتل والتعذيب، وألسنتهم بالسب؛ وودوا لو ارتددتم عن دينكم الذي هو أحب الأشياء إليكم، وهو سبب إخراجهم إياكم. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف أورد جواب الشرط مضارعاً مثله، ثم قال {وودوا} بلفظ الماضي؟ قلت: الماضي، وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإنه فيه نكتة كأنه قيل: وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعاً. انتهى. وكأن الزمخشري فهم من قوله: {وودوا} أنه معطوف على جواب الشرط، فجعل ذلك سؤالاً وجواباً. والذي يظهر أن قوله: {وودوا} ليس على جواب الشرط، لأن ودادتهم كفرهم ليست مترتبة على الظفر بهم والتسلط عليهم، بل هم وادون كفرهم على كل حال، سواء أظفروا بهم أم لم يظفروا، وإنما هو معطوف على جملة الشرط والجزاء، أخبر تعالى بخبرين: أحدهما اتضاح عداوتهم والبسط إليهم ما ذكر على تقدير الظفر بهم، والآخر ودادتهم كفرهم، لا على تقدير الظفر بهم.ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة، فكتب إلى أهلها بما كتب ليرعوه في قرابته، قال تعالى: {لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم}: أي قراباتكم الذين توالون الكفار من أجلهم، وتتقربون إليهم محاماة عليهم. ويوم معمول لينفعكم أو ليفصل. وقرأ الجمهور؛ {يفصل} بالياء مخففاً مبنياً للمفعول. وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر: كذلك إلا أنه مشدد، والمرفوع، إما {بينكم}، وهو مبني على الفتح لإضافته إلى مبني، وإما ضمير المصدر المفهوم من يفصل، أي يفصل هو، أي الفصل. وقرأ عاصم والحسن والأعمش: يفصل بالياء مخففاً مبنياً للفاعل؛ وحمزة والكسائي وابن وثاب: مبنياً للفاعل بالياء مضمومة مشدداً؛ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: كذلك إلا أنه بالنون مشدداً؛ وهما أيضاً وزيد بن علي: بالنون مفتوحة مخففاً مبنياً للفاعل؛ وأبو حيوة أيضاً: بالنون مضمومة، فهذا ثماني قراءات.ولما نهى عن موالاة الكفار، ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا. وقرأ الجمهور: إسوة بكسر الهمزة، وعاصم بضمها، وهما لغتان. {والذين معه}، قيل: من آمن به. وقال الطبري وغيره: الأنبياء معاصروه، أو كانوا قريباً من عصره، لأنه لم يرو أنه كان له أتباع مؤمنون في مكافحته لهم ولنمروذ. ألا تراه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجراً من بلد نمروذ: ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك؟ والتأسي بإبراهيم عليه السلام هو في التبرؤ من الشرك، وهو في كل ملة وبرسولنا عليه الصلاة والسلام على الإطلاق في العقائد وأحكام الشرع. وقرأ الجمهور؛ {برآء} جمع بريء، كظريف وظرفاء؛ وعيسى: براء جمع بريء أيضاً، كظريف وظراف؛ وأبو جعفر: بضم الباء، كتؤام وظؤار، وهم اسم جمع الواحد بريء وتوأم وظئر، ورويت عن عيسى. قال أبو حاتم: زعموا أن عيسى الهمداني رووا عنه براء على فعال، كالذي في قوله تعالى: {إنني برآء مما تعبدون} في الزخرف، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد والجمع. وقال الزمخشري: وبراء على إبدال الضم من الكسر، كرخال ورباب. انتهى. فالضمة في ذلك ليست بدلاً من كسرة، بل هي ضمة أصلية، وهو قريب من أوزان أسماء الجموع، وليس جمع تكسير، فتكون الضمة بدلاً من الكسرة، إلا قول إبراهيم استثناء من قوله: {أسوة حسنة}، قاله قتادة والزمخشري. قال مجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وغيرهم: المعنى أن الأسوة لكم في هذا الوجه لا في الوجه الآخر، لأنه كان لعلمه ليست في نازلتكم.وقال الزمخشري: فإن قلت: فإن كان قوله: {لأستغفرن لك} مستثنى من القول الذي هو {أسوة حسنة}، فما بال قوله: {فما أملك لك من الله من شيء}، وهو غير حقيق بالاستثناء؟ ألا ترى إلى قوله: {فمن يملك لكم من الله شيئاً}؟ قلت: أراد استثناء جملة قوله لأبيه، والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار. انتهى. وقال الزمخشري: أولاً بعد أن ذكر أن الاستثناء هو من قوله: {أسوة حسنة} في مقالات قال: لأنه أراد بالأسوة الحسنة، فهو الذي حق عليهم أن يأتسوا به ويتخذوه سنة يستنون بها. انتهى. والذين يظهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره: أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إلا قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك}، فليس فيه أسوة حسنة، فيكون على هذا استثناء متصلاً.وأما أن يكون قول إبراهيم مندرجاً في أسوة حسنة، لأن معنى الأسوة هو الاقتداء والتأسي، فالقول ليس مندرجاً تحته، لكنه مندرج تحت مقالات إبراهيم عليه السلام. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، لم تبق جملة إلا كذا. انتهى. وقيل: هو استثناء منقطع المعنى، لكن قول إبراهيم لأبيه {لأستغفرن لك}، فلا تأسوا به فيه فتستغفروا وتفدوا آباءكم الكفار بالاستغفار. {ربنا عليك توكلنا} وما بعده، الظاهر أنه من تمام قول إبراهيم متصلاً بما قبل الاستثناء، وهو من جملة ما يتأسى به فيه، وفصل بينهما بالاستثناء اعتناء بالاستثناء ولقربه من المستثنى منه، ويجوز أن يكون أمراً من الله للمؤمنين، أي قولوا ربنا عليك توكلنا، علمهم بذلك قطع العلائق التي بينهم وبين الكفار.{ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا}، قال ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا. وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم أو بعذاب من عندك، فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون، فيفتنوا لذلك. وقال قريباً منه قتادة وأبو مجلز، وقول ابن عباس أرجح لأنه دعاء لأنفسهم، وعلى قول غيره دعاء للكافرين، والضمير في فيهم عائد على إبراهيم والذين معه، وكررت الأسوة تأكيداً، وأكد ذلك بالقسم أيضاً، ولمن يرجو بدل من ضمير الخطاب، بدل بعض من كل.وروي أنه لما نزلت هذه الآية، عزم المسلمون على إظهار عداوات أقربائهم الكفار، ولحقهم هم لكونهم لم يؤمنوا حتى يتوادوا، فنزل {عسى الله} الآية مؤنسة ومرجئة، فأسلم الجميع عام الفتح وصاروا إخواناً. ومن ذكر أن هذه المودة هي تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأنها كانت بعد الفتح فقد أخطأ، لأن تزويجها كان وقت هجرة الحبشة، وهذه الآيات سنة ست من الهجرة، ولا يصح ذلك عن ابن عباس إلا أن يسوقه مثالاً، وإن كان متقدماً لهذه الآية، لأنه استمر بعد الفتح كسائر ما نشأ من المودات، قاله ابن عطية. وعسى من الله تعالى واجبة الوقوع، {والله قدير} على تقليب القلوب وتيسير العسير، {والله غفور} لمن أسلم من المشركين.{لا ينهاكم الله} الآية، قال مجاهد: نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا، فكانوا في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة. وقيل: في مؤمنين من أهل مكة وغيرها تركوا الهجرة. وقال الحسن وأبو صالح: في خزاعة وبين الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب، كانوا مظاهرين للرسول محبين فيه وفي ظهوره. وقيل: فيمن لم يقاتل، ولا أخرج ولا أظهر سوأ من كفار قريش. وقال قرة الهمداني وعطية العوفي: في قوم من بني هاشم منهم العباس. وقال عبد الله بن الزبير: في النساء والصبيان من الكفرة. وقال النحاس والثعلبي: أراد المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة.وقيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّها نفيلة بنت عبد العزى، وهي مشركة، بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول، فنزلت الآية، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخلها منزلها وتقبل منها وتكفيها وتحسن إليها. قال ابن عطية: وكانت المرأة فيما روي خالتها فسمتها أمّاً؛ وفي التحرير: أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه طلق امرأته نفيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت في المدة التي فيها الهدنة وأهدت إلى أسماء قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها، فنزلت الآية. و{أن تبروهم}، و{أن تولوهم} بدلان مما قبلهما، بدل اشتمال.
|