الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (114- 138): {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)}{الكرب العيظم}: تعبد القبط لهم، ثم خوفهم من جيش فرعون، ثم البحر بعد ذلك، والضمير في {ونصرناهم} عائد على موسى وهارون وقومهما؛ وقيل: عائد على موسى وهارون فقط، تعظيماً لهما بكناية الجماعة. و{هم}: يجوز أن يكون فصلاً وتوكيداً أو بدلاً. و{الكتاب المستبين}: التوراة، كما قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} و{الصراط المستقيم}: هو الإسلام وشرع الله. و{إلياس}، قال ابن مسعود وقتادة: هو إدريس عليه السلام. ونقلوا عن ابن مسعود، وابن وثاب، والأعمش، والمنهال بن عمر، والحكم بن عتيبة الكوفي أنهم قرأوا: وإن إدريس لمن المرسلين، وهو محمولة عندي على تفسيره، لأن المستفيض عن ابن مسعود أنه قرأ: {وإن إلياس}، وأيضاً تفسيره إلياس بأنه إدريس لعله لا يصح عنه، لأن إدريس في التاريخ المنقول كان قبل نوح. وفي سورة الأنعام ذكر إلياس، وأنه ذرية إبراهيم، أو من ذرية نوح على ما يحتمله قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا} {ومن ذريته داود} وذكر في جملة هذه الذرية إلياس، وقيل: إلياس من أولاد هارون. قال الطبري: هو إلياس بن ياسين ابن فنحاص بن العيزار بن هارون. وقرأ الجمهور: {وإن إلياس}، بهمزة قطع مكسورة. وقرأ عكرمة، والحسن: بخلاف عنهما؛ والأعرج، وأبو رجاء، وابن عامر، وابن محيصن: بوصل الألف، فاحتمل أن يكون وصل همزة القطع، واحتمل أن يكون اسمه ياسا، ودخلت عليه أل، كما دخلت على أليسع. وفي حرف أبيّ ومصحفه: وإن إيليس، بهمزة مكسورة، بعدها ياء ساكنة، بعدها لام مكسورة، بعدها ياء ساكنة وسين مفتوحة. وقرئ: وإن أدراس، لغة في إدريس، كأبراهام في إبراهيم.{أتدون بعلاً}: أي أتعبدون بعلاً، وهو علم لصنم لهم، قاله الضحاك والحسن وابن زيد. قيل: وكان من ذهب، طوله عشرون ذراعاً، وله أربعة أوجه، فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وهم أهل بعلبك من بلاد الشام، وبه سميت مدينتهم بعلبك. وقال عكرمة، وقتادة: البعل: الرب بلغة اليمن. وسمع ابن عباس رجلاً ينشد ضالة، فقال له رجل: أنا بعلها، فقال ابن عباس: الله أكبر، أتدعون بعلاً؟ ويقال: من بعل هذه الدار، أي ربها؟ والمعنى على هذا: أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله؟ وقالت فرقة: إن بعلاً اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها. وقرئ: أتدعون بعلاء، بالمد على وزن حمراء، ويؤنس هذه القراءة قول من قال: إنه اسم امرأة.وقرأ الكوفيون، وزيد بن عليّ: {الله ربَّكم وربَّ آبائكم}، بالنصب في الثلاثة بدلاً من {أحسن}، أو عطف بيان إن قلنا إن إضافة التفضيل محضة؛ وباقي السبعة بالرفع، أي هو الله؛ أو يكون استئنافاً مبتدأ وربكم خبره.وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب، وإذا قطع رفع. {فكذبوه}: أي كذبه قومه، إما في قوله: {الله ربكم} هذه النسب، أو فكذبوه فيما جاء به من عند الله من الأمر بالتوحيد وترك الصنم والايمان بما جاءت به الرسل. ومحضرون: مجموعون للعذاب. {إلا عباد الله المخلصين}: استثناء يدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، فهو استثناء متصل من ضمير {فكذبوه}، ولا يجوز أن يكون استثناء من {فإنهم لمحضرون}، لأنهم كانوا يكونون مندرجين فيمن كذب، ويكونون {عباد الله المخلصين}، وذلك لا يمكن ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعاً، إذ يصير المعنى: لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون للعذاب، ولا مسيس لهؤلاء الممسوسين بالآية التي فيها قصة إلياس هذه.وقرأ زيد بن عليّ، ونافع، وابن عامر: على آل ياسين. وزعموا أن آل مفصولة في المصحف، وياسين اسم لإلياس. وقيل: اسم لأبي إلياس، لأنه إلياس بن ياسين، وآل ياسين هو ابنه إلياس. وقيل: ياسين هو اسم محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ باقي السبعة: {على الياسين}، بهمزة مكسورة، أي الياسين، جمع المنسوبين إلى الياس معه، فسلم عليهم. وهذا يدل على أن من قومه من كان اتبعه على الدين، وكل واحد ممن نسب إليه كأنه إلياس، فلما جمعت، خففت ياء النسبة بحذف إحداهما كراهة التضعيف، فالتفى ساكنان: الياء فيه وحرف العلة الذي للجمع، فحذفت لالتقائهما، كما قالوا: الأشعرون والأعجمون والخبيبون والمهلبون. وحكى أبو عمرو أن منادياً نادى يوم الكلاب: ههلك اليزيديون. وقال الزمخشري: لو كانا جمعاً، لعرف بالألف واللام. وقرأ أبو رجاء، والحسن: على الياسين، بوصل الألف على أنه جمع يراد به إلياس وقومه المؤمنون، وحذفت ياء النسب، كما قالوا: الأشعرون، والألف واللام دخلت على الجمع، واسمه على هذا ياس. وقرأ ابن مسعود، ومن ذكر معه أنه قرأ إدريس: سلام على إدراسين. وعن قتادة: وإن إدريس. وقرأ: على إدريس. وقرأ ابن عليّ: إيليس، كقراءته وإن إيليس لمن المرسلين. {إلا عجوزاً}: هي امرأة لوط، وكانت كافرة، إما مستترة بالكفر، وإما معلنة به. وكان نكاح الوثنيات عندهم جائزاً. {مصبحين}: أي داخلين في الأصباح. والخطاب في {وإنكم} لقريش، وكانت متاجرهم إلى الشأم على مدائن قوم لوط. {أفلا تعقلون}، فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل..تفسير الآيات (139- 157): {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)}العراء: الأرض الفيحاء لا شجر فيها ولا يعلم، قال الشاعر:اليقطين: يفعيل كاليفصيد، من قطن: أقام بالمكان، وهو بالمكان، وهو ما كان من الشجر لا يقوم على ساق من عود، كشجر البطيخ والحنظل والقثاء. الساحة: الفناء، وجمعها سوح، قال الشاعر: {وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكّرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين}.يونس بن متى من بني إسرائيل. وروي أنه نبئ وهو ابن ثمان وعشرين سنة، بعثه الله إلى قومه، فدعاهم للإيمان فخالفوه، فوعدهم بالعذاب، فأعلمهم الله بيومه، فحدده يونس لهم. ثم إن قومه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا، فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم. وتقدم شرح قصته، وأعدنا طرف منها ليفيد ما بين الذكرين. قيل: ولحق يونس غضب، فأبق إلى ركوب السفينة فراراً من قومه، وعبر عن الهروب بالإباق، إذ هو عبد الله، خرج فاراً من غير إذن من الله. وروي عن ابن مسعود أنه لما أبعدت السفينة في البحر، ويونس فيها، ركدت. فقال أهلها: إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه، فلنقترع. فأخذوا لكل سهماً، على أن من طفا سهمه فهو، ومن غرق سهمه فليس إياه، فطفا سهم يونس. فعلوا ذلك ثلاثاً، تقع القرعة عليه، فأجمعوا على أن يطرحوه. فجاء إلى ركن منها ليقع منها، فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له. فانتقل إلى الركن الآخر، فوجدها حتى استدار بالمركب وهي لا تفارقه، فعلم أن ذلك من عند الله، فترامى إليها فالتقمته. ففي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك، كما في قصته في سورة الأنبياء في قوله: {إذ ذهب مغاضباً} هو ما بعد هذا، وقوله: {فنادى في الظلمات} جمل محذوفة أيضاً. وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها.{فساهم فكان من المدحضين}: من المغلوبين، وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاستهام. وقرئ: {وهو مليم}، بفتح الميم، وقياسه ملوم، لأنه من لمته ألومه لوماً، فهو من ذوات الواو، ولكنه جيء به على أليم، كما قالوا: مشيب ومدعى في مشوب، ومدعو بناء على شيب ودعى.{من المسبحين}: من الذاكرين الله تعالى بالتسبيح والتقديس. والظاهر أنه يريد ما ذكر في قوله في سورة الأنبياء: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} وقال ابن جبير: هو قوله سبحان الله. وقالت فرقة: تسبيحه صلاة التطوع؛ فقال ابن عباس، وقتادة، وأبو العالية: صلاته في وقت الرخاء تنفعه في وقت الشدة. وقال الضحاك بن قيس على منبره: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس كان عبداً ذاكراً، فلما أصابته الشدة نفعه ذلك. قال الله عز وجل: {فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}. وقال الحسن: تسبيحه: صلاته في بطن الحوت. وروي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه يقول: لأبنين لك مسجداً حيث لم ينبه أحد قبلي.وروي أن الحوت سافر مع السفينة رافعاً رأسه ليتنفس ويونس يسبح، ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر، فلفظه سالماً لم يتغير منه شيء، فأسلموا. والظاهر أن قوله للبث في بطنه إلى يوم البعث، وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة. وذكر في مدة لبثه في بطن الحوت أقوالاً متكاذبة، ضربناً عن ذكرها صفحاً. {وهو سقيم}: روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، قاله ابن عباس والسدي. وقال ابن عباس، وأبو هريرة، وعمرو بن ميمون: اليقطين: القرع خاصة، قيل: وهي التي أنبتها الله عليه، وتجمع خصالاً، برد الظل، ونعومة الملمس، وعظم الورق، والذباب لا يقربها. قيل: وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب، وقال أمية بن أبي الصلت: وفيما روي: إنك لتحب القرع، قال: أجل، هي شجرة أخي يونس. وقيل: هي شجرة الموز، تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر على ثمارها. ومعنى {أنبتنا عليه شجرة}، في كلام العرب: ما كان على ساق من عود، فيحتمل أن يكون الله أنبتها ذات ساق يستظل بها وبورقها، خرقاً للعادة، فنبت وصح وحسن وجهه، لأن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده.{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون}، قال الجمهور: رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها، ذكرها آخر القصص تنبيهاً على رسالته، ويدل عليه: {فآمنوا فمتعناهم}، وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام حتى أبق. وقال ابن عباس، وقتادة: هي رسالة أخرى بعد أن نبذه بالعراء، وهي إلى أهل نينوى من ناحية الموصل. وقال الزمخشري: المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه، وهم أهل نينوى. وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جري إليه إلى الأولين، أو إلى غيرهم. وقيل: أسلموا فسألوه أن يرجع إليهم فأبى، لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيماً فيهم، فقال لهم: إن الله باعث إليكم نبياً.وقرأ الجمهور: {أو}، قال ابن عباس بمعنى بل. وقيل: بمعنى الواو وبالواو، وقرأ جعفر بن محمد. وقيل: للإبهام على المخاطب. وقال المبرد وكثير من البصريين: المعنى على نظر البشر، وحزرهم أن من وراءهم قال: هم مائة ألف أو يزيدون، وهذا القول لم يذكر الزمخشري غيره. قال: أو يزيدون في مرأى الناظر، إذا رآها الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. والغرض الوصف بالكثرة، والزيادة ثلاثون ألفاً، قاله ابن عباس؛ أو سبعون ألفاً، قاله ابن جبير؛ أو عشرون ألفاً، رواه أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا صح بطل ما سواه.{فآمنوا}: روي أنهم خرجوا بالأطفال والأولاد والبهائم، وفرقوا بينها وبين الأمهات، وناحوا وضجوا وأخلصوا، فرفع الله عنهم. والتمتع هنا هو بالحياة، والحين آجالهم السابقة في الأزل، قاله قتادة والسدي. والضمير في {فاستفتهم}، قال الزمخشري: معطوف على مثله في أول السورة، وإن تباعدت بينهما المسافة. أمر رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولاً، ثم ساق الكلام موصولاً بعضه ببعض، ثم أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى. انتهى. ويبعد ما قاله من العطف.وإذا كانوا عدوا الفصل بجملة مثل قولك: كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً، من أقبح التركيب، فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة؟ فالقول بالعطف لا يجوز، والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله، حيث جعلوا لله الإناث في قولهم: الملائكة بنات الله، مع كراهتهم لهن، ووأدهم إياهن، واستنكافهم من ذكرهن. وارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر: التجسيم، لأن الولادة مختصة بالأجسام؛ وتفضيل أنفسهم، حيث نسبوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى؛ واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله، حيث أنثوهم، وهم الملائكة.بدأ أولاً بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله: {ألربك البنات}، وعدل عن قوله: {ألربكم}، لما في ترك الإضافة إليهم من تحسينهم وشرف نبيه بالإضافة إليه. وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة يقتضي المشاهدة، فأنكر عليهم بقوله: {أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون}: أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئاً من حالهم، كما قال في الأخرى: {أشهدوا خلقهم} وكما قال {ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم} ثم أخبر عنهم ثالثاً بأعظم الكفر، وهو ادعاؤهم أنه تعالى قد ولد، فبلغ إفكهم إلى نسبة الولد. ولما كان هذا فاحشاً قال: {وإنهم لكاذبون}. واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم ولد الله، ويكون تأكيد لقوله: {من إفكهم}، واحتمل أن يعم هذا القول. فإن قلت: لم قال: {وهم شاهدون}، فخص علمهم بالمشاهدة؟ قلت: ما هو إلا استهزاء وتجهيل كقوله: {أشهدوا خلقهم} وذلك أنهم كما لم يعلموا ذلك بطريق المشاهدة، لم يعلموه بخلق الله علمه في قلوبهم ولا بإخبار صادق، لا بطريق استدلال ولا نظر.ويجوز أن يكون المعنى أنهم يقولون ذلك، كالقائل قولاً عن ثلج صدر وطمأنينة نفس لإفراط جهلهم، كأنهم قد شاهدوا خلقه. وقرأ: {ولد الله}: أي الملائكة ولده، والولد فعل بمعنى مفعول يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. تقول: هذه ولدي، وهؤلاء ولدي. انتهى.وقرأ الجمهور: {أصطفى}، بهمزة الاستفهام، على طريقة الإنكار والاستبعاد. وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة، وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة: بوصل الألف، وهو من كلام الكفار. حكى الله تعالى شنيع قولهم، وهو أنهم ما كفاهم أن قالوا ولد الله، حتى جعلوا ذلك الولد بنات الله، والله تعالى اختارهم على البنين. وقال الزمخشري: بدلاً عن قولهم ولد الله، وقد قرأ بها حمزة والأعمش، وهذه القراءة، وإن كان هذا محملها، فهي ضعيفة؛ والذي أضعفها أن الإنكار قد اكتنف هذه الجملة من جانبيها، وذلك قوله: {وإنهم لكاذبون}، {ما لكم كيف تحكمون}. فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين سببين، وليست دخيلة بين نسيبين، بل لها مناسبة ظاهرة مع قولهم ولد الله. وأما قوله: {وإنهم لكاذبون}، فهي جملة اعتراض بين مقالتي الكفر، جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم. {ما لكم كيف تحكمون}: تقريع وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة. وقرأ طلحة بن مصرف: تذكرون، بسكون الذال وضم الكاف. {أم لكم سلطان}: أي حجة نزلت عليكم من السماء، وخبر بأن الملائكة بنات الله. {فأتوا بكتابكم}، الذي أنزل عليكم بذلك، كقوله: {أم أنزلنا عليهم سلطاناً} فهو يتكلم بما كانوا به يشركون.
|