الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} الدخول: معروف، وفعلة: دخل يدخل، وهو مما جاء على يفعل بضم العين. وكان القياس فيه أن يفتح، لأن وسطه حرف حلق، كما جاء الكسر في ينزع وقياسه أيضاً الفتح. القرية: المدينة، من قريت: أي جمعت. سميت بذلك لأنها مجتمع الناس على طريق المساكنة. وقيل: إن قلواقيل لها قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة. وقيل: أقل العدد الذي تسمى به قرية ثلاثة فما فوقها، ومنه، قريت الماء في الحوض، والمقراة: الحوض، ومنه القرى: وهو الضيافة، والقرى: المجرى، والقرى: الظهر. ولغة أهل اليمن: القرية، بكسر القاف، ويجمعونها على قِرى بكسر القاف نحو: رشوة ورشا. وأما قرية بالفتح فجمت على قرى بضم القاف، وهو جمع على غير قياس. قيل: ولم يسمع من فعله المعتل اللام إلا قرية وقرى، وتروة وترى، وشهوة وشهى. الباب: معروف، وهو المكان الذي يدخل منه، وجمعه أبواب، وهو قياس مطرد، وجاء جمعه على أبوبة في قوله: هتاك أخبية ولاج أبوبة *** لتشاكل أخبية، كما قالوا: لا دريت ولا تليت، وأصله تلوت، فقلبت الواو ياء لتشاكل دريت. سجداً: جمع ساجد، وهو قياس مطرد في فاعل وفاعلة الوصفين الصحيحي اللام. وقولوا: كل أمر من ثلاثي اعتلت عينه فانقلبت ألفاً في الماضي، تسقط تلك العين منه إذا أسند لمفرد مذكر نحو: قل وبع، أو لضمير مؤنث نحو: قلن وبعن، فإن اتصل به ضمير الواحدة نحو: قولي، أو ضمير الاثنين نحو: قولا، أو ضمير الذكور نحو: قولوا، ثبتت تلك العين، وعلة الحذف والإثبات مذكورة في النحو. وقد جاء حذفها في الشعر، فجاء قوله: قلى وعشا. حطة: على وزن فعلة من الحط، وهو مصدر كالحط، وقيل: هو هيئة وحال: كالجلسة والقعدة، والحط: الإزالة، حططت عنه الخراج: أزلته عنه. والنزول: حططت. وحكى: بفناء زيد نزلت به، والنقل من علو إلى أسفل، ومنه انحطاط القدر. وقال أحمد بن يحيى، وأبان بن تغلب، الحطة: التوبة. وأنشدوا: فاز بالحطة التي جعل الله *** بها ذنب عبده مغفوراً أي فاز بالتوبة، وتفسيرهما الحطة بالتوبة إنما هو تفسير باللازم لا بالمرادف، لأن من حط عنه الذنب فقد تيب عليه. الغفر والغفران: الستر، وفعله غفر يغفر، بفتح الغين في الماضي وكسرها في المضارع. والغفيرة: المغفرة، والغفارة: السحاب وما يلبس به سية القوس، وخرقة تلبس تحت الخمار، ومثله المغفر والجماء، الغفير: أي جماعة يستر بعضهم بعضاً من الكثرة. وقوله عمر لمن قال له: لم حصبت المسجد؟ هو أغفر للنخامة، كل هذا راجع لمعنى الستر والتغطية. الخطيئة: فعيلة من الخطا، والخطأ: العدول عن القصد، يقال خطئ الشيء: أصابه بغير قصد، وأخطأ: إذا تعمد، وأما خطايا: فجمع خطية مشددة عند الفراء، كهدية وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه: أصله خطائيّ، مثل: صحائف، وزنة، فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فصار: خطآء، فوقعت همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا، كهدايا ومطايا. وعند الخليل أصله: خطايئ، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي، المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قوله سيبويه. وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي هي لام الكلمة، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في هذه المسألة في (كتاب التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا. الإحسان والإنعام والإفضال: نظائر، أحسن الرجل: أتى بالحسن، وأحسن الشيء: أتى به حسناً: وأحسن إلى عمر وأسدي إليه خيراً. التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه، ويتعدّى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت ديناراً بدرهم: أي جعلت ديناراً عوض الدرهم، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول: بدلت زيداً ديناراً بدرهم: أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم، وقد يجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى: {فأولئك يبدّل الله سيئاتهم} أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقد وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل، والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد. الرجز: العذاب، وتكسر راؤه وتضم، والضم لغة بني الصعدات، وقد قرئ بهما في بعض المواضع، قال رؤبة: كم رامنا من ذي عديد مبزي *** حتى وقينا كيده بالرجز والرجز، بالضم: اسم صنم مشهور، والرجزاء: ناقة أصاب عجزها داء، فإذا نهضت ارتعشت أفخاذها، قال الشاعر: هممت بخير ثم قصرت دونه *** كما ناءت الرجزاء شدّ عقالها قيل: الرجز مشتق من الرجازة، وهي صوف تزين به الهوادج، كأنه وسمهم، قال الشاعر: ولو ثقفاها ضرجت بدمائها *** كما ضرجت نضو القرام الرجائز الاستسقاء: طلب السقي، والطلب أحد المعاني التي سبق ذكرها في الاستفعال في قوله: {وإياك نستعين} العصا: مؤنث، والألف منقلبة عن واو، قالوا: عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذاً، قالوا: أعص، أصله أعصوو على فعول قياساً، قالوا: عصى، أصله عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر: ألا إن لا تكن إبل فمعزى *** كائن قرون جلتها العصى الحجر: هو هذا الجسم الصلب المعروف عند الناس، وجمع على أحجار وحجار، وهما جمعان مقيسان فيه، وقالوا: حجارة بالتاء، واشتقوا منه، قالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جداً. الانفجار: انصداع شيء من شيء، ومنه انفجر، والفجور: وهو الانبعاث في المعصية كالماء، وهو مطاوع فعل فجره فانفجر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها انفعل، وقد تقدّم ذكرها. اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: اثن، ولا اثنة، ولامهما محذوفة، وهي ياء، لأنه من ثنيت. العشرة، بإسكان الشين، لغة الحجاز، وبكسرها لغة تميم، والفتح فيها شاذ غير معروف، وهو أوّل العقود، واشتقوا منه فقالوا: عشرهم يعشرهم، ومنه العشر والعشر، والعشر: شجر لين، والإعشار: القطع لا واحد لها، ووصل بها المفرد، قالوا: برمة أعشار. العين: لفظ مشترك بين منبع الماء والعضو الباصر، والسحابة تقبل من ناحية القبلة، والمطر يمطر خمساً أو ستاً، لا يقلع، ومن له شرف في الناس، والثقب في المزادة والذهب وغير ذلك، وجمع على أعين شاذ، أو عيون قياساً، وقالوا: في الأشراف من الناس: أعيان، وجاء ذلك قليلاً في العضو الباصر، قال الشاعر: أسمل أعياناً لها ومآقيا *** أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول الشاعر: وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي *** منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب الكوفيين. مشرب: مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان، ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت لامه: كسرت ودخل، أو أعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها النحويون. العثو، والعثى: أشدّ الفساد، يقال: عثا يعثو عثواً، وعثى يعثى عثياً، وعثا يعثى عثياً: لغة شاذة، قال الشاعر: لولا الحياء وأن رأسي قد عثا *** فيه المشيب لزرت أمّ القاسم وثبوت العثى دليل على أن عثى ليس أصلها عثو، كرضي الذي أصله رضو، خلافاً لزاعمه. وعاث يعيث عيثاً ومعاثاً، وعث يعث كذلك، ومنه عثة الصوف: وهي السوسة التي تلحسه. الطعام: اسم لما يطعم، كالعطاء، اسم لما يعطي، وهو جنس. الواحد: هو الذي لا يتبعض، والذي لا يضم إليه ثان. يقال: وحد يحد وحداً وحدة إذا انفرد. الدعاء: التصويت باسم المدعوّ على سبيل النداء، والفعل منه دعا يدعو دعاء. الإنبات: الهمزة فيه للنقل، وهو: الإخراج لما شأنه النمو. البقل: جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والبهائم، يقال منه بقلت الأرض وأبقلت: أي صارت ذات بقل، ومنه: الباقلاء، قاله ابن دريد. القثاء: اسم جنس واحدة قثاءة، بضم القاف وكسرها، وهو هذا المعروف. وقال الخليل: هو الخيار، ويقال: أرض مقثأة: أي كثيرة القثاء. الفوم، قال الكسائي والفراء والنضر بن شميل أمية بن وغيرهم: هو الثوم، أبدلت الثاء فاء، كما قالوا، في مغفور: مغثور، وفي جدث: جدف، وفي عاثور: عافور. قال الصلت: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة *** فيها القراديس والفومان والبصل وأنشد مؤرج لحسان: وأنتم أناس لئام الأصول *** طعامكم الفوم والحوقل يعني: الفوم والبصل، وهذا كما أبدلوا بالفاء الثاء، قالوا في الأثافي: الأثاثي، وكلا البدلين لا ينقاس، أعني إبدال الثاء فاء والفاء ثاء. وقال أبو مالك وجماعة: الفوم: الحنطة، ومنه قول أحيحة بن الجلاح: قد كنت أحسبني كأغنى واحد *** قدم المدينة عن زراعة فوم قيل: وهي لغة مصر، وهو اختيار المبرد. وقال الفراء: وهي لغة قديمة. وقال ابن قتيبة والزجاج: هي الحبوب التي تؤكل. وقال أبو عبيدة وابن دريد: هي السنبلة، زاد أبو عبيدة بلغة أسد. وقيل: الحبوب التي تخبز. وقيل: الخبز، تقول العرب: فوموا لنا، أي اخبزوا، واختاره ابن قتيبة قال: تلتقم الفالح لم يفوّم *** تقمماً زاد على التقمم وقال قطرب: الفوم: كل عقدة في البصل، وكل قطعة عظيمة في اللحم، وكل لقمة كبيرة. وقيل: إنه الحمص، وهي لغة شامية، ويقال لبائعه: فامي، مغير عن فومي للنسب، كما قالوا: شهلي ودهري. العدس: معروف، وعدس وعدس من الأسماء الأعلام، وعدس: زجر للبغل. البصل: معروف. أدنى: أفعل التفضيل من الدنوّ، وهو القرب، يقال: منه دنا يدنو دنواً. وقال علي بن سليمان الأخفش: هو أفعل من الدناءة، وهي: الخسة والرداءة، خففت الهمزة بإبدالها ألفاً. وقال أبو زيد في المهموز: دنؤ الرجل، يدنأ دناءة ودناء، ودنأ يدنأ. وقال غيره: هو أفعل من الدون، أي أحط في المنزلة، وأصله أدون، فاصر وزنه: أفلع، نحو: أولى لك، هو أفعل من الويل، أصله أويل فقلب. المصر: البلد، مشتق من مصرت الشاة، أمصرها مصراً: حلبت كل شيء في ضرعها، وقيل المصر: الحد بين الأرضين، وهجر يكتبون: اشترى الدار بمصورها: أي بحدودها. وقال عديّ بن زيد: وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به *** بين النهار وبين الليل قد فصلا السؤال: الطلب، ويقال: سأل يسأل سؤالاً، والسؤل: المطلوب، وسال يسال: على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. {سلهم أيّهم بذلك زعيم}، قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجرى مجرى العلم. الذلة: مصدر ذلّ يذلّ ذلة وذلاً، وقيل: الذلة كأنها هيئة من الذل، كالجلسة، والذل: الخضوع وذهاب الصعوبة. المسكنة: مفعلة من السكون، ومنه سمى المسكين لقلة حركاته وفتور نشاطه، وقد بنى من لفظه فعل، قالوا: تمسكن، كما قالوا: تمدرع من المدرعة، وقد طعن على هذا النقل وقيل: لا يصح وإنما الذي صح تسكن وتدرّع. باء بكذا: أي رجع، قاله الكسائي: أو اعترف، قاله أبو عبيدة، واستحق، قاله أبو روق؛ أو نزل وتمكن، قاله المبرد؛ أو تساوى، قاله الزجاج، وأنشدوا لكل قول ما يستدل به أمن كلام العرب، وحذفنا نحن ذلك. النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنى مفعل، كسميع من أسمع، وجمع على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبئ، وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئاً. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل من فعل، كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل. وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع، قالوا: والنبي: الطريق الظاهر، قال الشاعر: لما وردن نبياً واستتب بنا *** مسحنفر لخطوط المسح منسحل قال الكسائي: النبي: الطريق، سمي به لأنه يهتدي به، قالوا: وبه سمي الرسول لأنه طريق إلى الله تعالى. العصيان: عدم الانقياد للأمر والنهي والفعل، منه: عصى يعصي، وقد جاء العصى في معنى العصيان. أنشد بن حماد في تعليقه عن أبي الحسن بن الباذش مما أنشده الفراء: في طاعة الرب وعصى الشيطان *** الاعتداء: افتعال من العدو، وقد مرّ شرحه عند قوله: {بعضكم لبعض عدوّ} {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية}. القائل: هو الله تعالى، وهل ذلك على لسان موسى أو يوشع عليهما السلام، قولان: وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي، نحو: دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعراب الشجرة من قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: {ولا تقربا هذه} مفعول به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه. والقرية هنا بيت المقدس، في قول الجمهور، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدّي والربيع وغيرهم. وقيل: أريحا، قاله ابن عباس أيضاً، وهي بأرض المقدس. قال أبو زيد عمر بن شبة النمري: كانت قاعدة ومسكن ملوك، وفيها مسجد هو بيت المقدس، وفي المسجد بيت يسمى إيليا. وقال الكواشي: أريحا قرية الجبارين، كانوا من بقايا عاد، يقال لهم: العمالية ورأسهم: عوج بن عنق، وقيل: الرملة، قاله الضحاك؛ وقيل: أيلة، وقيل: الأردن؛ وقيل: فلسطين؛ وقيل: البلقاء؛ وقيل: تدمر، وقيل: مصر؛ وقيل: قرية بقرب بيت المقدس غير معينة أمروا بدخولها؛ وقيل: الشام. روي ذلك عن ابن كيسان، وقد رجح القول الأوّل لقوله في المائدة: {ادخلوا الأرض المقدّسة} قيل: ولا خلاف، أن المراد في الآيتين واحد. وردّ هذا القول بقوله: فبدّل لأن ذلك يقتضي التعقيب في حياة موسى، لكنه مات في أرض التيه ولم يدخل بيت المقدس. وأجاب من قال إنها بيت المقدس بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن القول كان على لسان موسى، وهذا الجواب وهم، لأنه قد تقدّم أن المراد في هذه الآية وفي التي في المائدة من قوله: ادخلوا الأرض المقدّسة واحد، والقائل ذلك في آية المائدة قطعاً. ألا ترى إلى قوله: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة}، وقولهم: {قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين} قال وهب: كانوا قد ارتكبوا ذنوباً، فقيل لهم: {ادخلوا} الآية. وقال غيره: ملوا المنّ والسلوى، فقيل لهم: اهبطوا مصراً، وكان أوّل ما لقوا أريحا. وفي قوله: {هذه القرية} دليل على أنهم قاربوها وعاينوها، لأن هذه إشارة لحاضر قريب. قيل: والذي قال لهم ذلك هو يوشع بن نون، فإنه نقل عنهم أنهم لم يدخلوا البيت المقدّس إلا بعد رجوعهم من قتال الجبارين، ولم يكن موسى {معهم حين} دخلوها، فإنه مات هو وأخوه في التيه. وقيل: لم يدخلا التيه لأنه عذاب، والله لا يعذب أنبياءه. {فكلوا منها حيث شئتم رغداً}: تقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في قصة آدم في قوله: {وكلا منها رغداً حيث شئتما}، إلا أن هناك العطف بالواو وهنا بالفاء، وهناك تقديم الرغد على الظرف، وهنا تقديم الظرف على الرغد، والمعنى فيهما واحد، إلا أن الواو هناك جاءت بمعنى الفاء، قيل: وهو المعنى الكثير فيها، أعني أنه يكون المتقدّم في الزمان والمعطوف بها هو المتأخر في الزمان، وإن كانت قد ترد بالعكس، وهو قليل. وللمعية والزمان، وهو دون الأول، ويدل أنها بمعنى الفاء ما جاء في الأعراف من قوله: {فكلا} بالفاء، والقضية واحدة. وأما تقديم الرغد هناك فظاهر، فإنه من صفات الأكل أو الآكل، فناسب أن يكون قريباً من العامل فيه ولا يؤخر عنه، ويفصل بينهما بظرف وإن لم يكن فاصلاً مؤثراً المنع لاجتماعهما في المعمولية لعامل واحد، وأما هنا فإنه أخر لمناسبة الفاضلة بعده، ألا ترى أن قوله: {فكلوا منها حيث شئتم رغداً} وقوله: {وادخلوا الباب سجداً}، فهما سجعتان متناسبتان؟ فلهذا، والله أعلم، كان هذان التركيبان على هذين الوضعين. {وادخلوا الباب}: الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب القرية، والباب أحد أبواب بيت المقدس، ويدعى الآن: باب حطة، قاله ابن عباس؛ أو الثامن، من أبواب بيت المقدس، ويدعى باب التوبة، قاله مجاهد والسدي؛ أو باب القرية التي أمروا بدخولها، أو باب القبة التي كان فيها موسى وهارون يتعبدان، أو باب في الجبل الذي كلم الله عليه موسى. {سجداً} نصب على الحال من الضمير في ادخلوا، قال ابن عباس: معناه ركعاً، وعبر عن الركوع بالسجود، كما يعبر عن السجود بالركوع، قيل: لأن الباب كان صغيراً ضيقاً يحتاج الداخل فيه إلى الانحناء، وبعد هذا القول لأنه لو كان ضيفاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركعاً، فلا يحتاج فيه إلى الأمر، وهذا لا يلزم، لأنه كان يمكن أن تكون الحال لازمة بمعنى أنه لا يمكن أن يقع الدخول إلا على هذه الحال، والحال اللازمة موجودة في كلام العرب. وقيل: معناه خضعاً متواضعين، واختاره أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل في المنتخب، ونذكر وجه اختياره لذلك. وقيل: معناه السجود المعروف من وضع الجبهة على الأرض، والمعنى: ادخلوا ساجدين شكراً لله تعالى، إذ ردهم إليها. وهذا هو ظاهر اللفظ. قال أبو عبد الله بن أبي الفضل: وهذا بعيد، لأن الظاهر يقتضي وجوب الدخول حال السجود، فلو حملناه على ظاهره لامتنع ذلك، فلما تعذر على حقيقة السجود وجب حمله على التواضع، لأنهم إذا أخذوا في التوبة، فالتائب عن الذنب لا بد أن يكون خاشعاً مستكيناً، وما ذهب إليه لا يلزم، لأن أخذ الحال مقارنة، فتعذر ذلك عنده، وليس بمتعذر لأنه لا يبعد أن أمروا بالدخول وهم ساجدون، فيضعون جباههم على الأرض وهم داخلون. وتصدق الحال المقارنة بوضع الجبهة على الأرض إذا دخلوا. وأما إذا جعلنا الحال مقدرة فيصح ذلك، لأن السجود إذ ذاك يكون متراخياً عن الدخول، والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب سيبويه مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وإذا أمكن حمل السجود على المتعارف فيه كثيراً، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى. وقال الزمخشري: أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب، شكراً لله وتواضعاً، وما ذكره ليس مدلول الآية لأنهم لم يؤمروا بالسجود في الآية عند الانتهاء إلى الباب، بل أمروا بالدخول في حال السجود. فالسجود ليس مأموراً به، بل هو قيد في وقوع المأمور به، وهو الدخول، والأحوال نسب تقييدية، والأوامر نسب إسنادية، فتناقضتا، إذ يستحيل أن يكون الشيء تقييدياً إسنادياً، لأنه من حيث التقييد لا يكتفي كلاماً ومن حيث الإسناد يكتفي، فظهر التناقض. وفي كيفية دخولهم الباب أقوال: قال ابن عباس وعكرمة: دخلوا من قبل أستاههم، وقال ابن مسعود: دخلوا مقنعي رؤوسهم، وقال مجاهد: دخلوا على حروف أعينهم، وقال مقاتل: دخلوا مستلقين، وقيل: دخلوا منزحفين على ركبهم عناداً وكبراً، والذي ثبت في البخاري ومسلم أنهم دخلوا الباب يزحفون على أستاههم. فاضمحلت هذه التفاسير، ووجب المصير إلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وقولوا حطة}، حطة: مفر، ومحكي القول لا بد أن يكون جملة، فاحتيج إلى تقدير مصحح للجملة، فقدر مسألتنا حطة هذا تقديراً لحسن بن أبي الحسن. وقال الطبري: التقدير دخولنا الباب كما أمرنا حطة، وقال غيرهما: التقدير أمرك حطة. وقيل: التقدير أمرنا حطة، أي أن نحط في هذه القرية ونستقر فيها. قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله: صبر جميل فكلانا مبتلى *** والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي: صبراً جميلاً فكلانا مبتلي *** بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر: إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة *** معتقة مما تجيء به التجر روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة، وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها يقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو: قلت شعراً وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقري من الرجوع، وحطة ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو الإسناد المعنوي. وإذا كان من الإسناد اللفظي لم يترتب على النطق به فائدة أصلاً إلا مجرد الامتثال للأمر بالنطق بلفظ، فلا فرق بينه وبين الألفاظ الغفل التي لم توضع لدلالة على معنى. ويبعد أن يرتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ مفرد لم يدل به على معنى كلام. أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع، ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكى به الجمل لا المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى: {يقال له إبراهيم} إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله: سمعت الناس ينتجعون غيثا *** وجدنا في كتاب بني تميم *** أحق الخيل بالركض المعار فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل، لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة. وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها. واختلفت أقوال المفسرين في حطة، فقال الحسن: معناه حط عنا ذنوبنا، وقال ابن عباس وابن جبير ووهب: أمروا أن يستغفروا، وقال عكرمة: معناها لا إله إلا الله، وقال الضحاك: معناه وقولوا هذا الأمر الحق، وقيل: معناه نحن لا نزال تحت حكمك ممتثلون لأمرك، كما يقال قد حططت في فنائك رحلي. وقد تقدمت التقادير في إضمار ذلك المبتدأ قبل حطة وهي أقاويل لأهل التفسير. وقد روي عن ابن عباس أنهم أمروا بهذه اللفظة بعينها، قيل: والأقرب خلافه، لأن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الأقرب أنهم أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم والخضوع، حتى لو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، لكان الخضوع حاصلاً، لأن المقصود من التوبة أما بالقلب فبالندم وأما باللسان فبذكر لفظ يدل على حصول الندم في القلب، وذلك لا يتوقف على ذكر لفظة بعينها. {يغفر}، نافع: بالياء مضمومة، ابن عامر: بالتاء، أبو بكر من طريق الجعفي: يغفر، الباقون: نغفر. فمن قرأ بالياء مضمومة فلأن الخطايا مؤنث، ومن قرأ بالياء مفتوحة فالضمير عائد على الله تعالى ويكون من باب الالتفات، لأن صدر الآية {وإذ قلنا} ثم قال: {يغفر}، فانتقل من ضمير متكلم معظم نفسه إلى ضمير الغائب المفرد، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على القول الدال عليه وقولوا، أي نغفر القول ونسب الغفران إليه مجازاً لما كان سبباً للغفران، ومن قرأ بالنون، وهي قراءة باقي السبعة، فهو الجاري على نظام ما قبله من قوله: {وإذ قلنا}، وما بعده من قوله: {وسنزيد}، فالكلام به في أسلوب واحد، ولم يقرأ أحد من السبعة إلا بلفظ {خطاياكم}، وأمالها الكسائي. وقرأت طائفة: تغفر بفتح التاء، قيل: كأن الحطة تكون سبب الغفران، يعني قائل هذا وهو ابن عطية، فيكون الضمير للحطة وهذا ليس بجيد، لأن نفس اللفظة بمجردها لا تكون سبباً للغفران. وقد بينا ذلك قبل، فالضمير عائد على المقالة المفهومة من: {وقولوا}، ونسب الغفران إليها على طريق المجاز، إذ كانت سبباً للغفران. وقرأ الجحدري وقتادة: تغفر بضم التاء وإفراد الخطيئة. وروي عن قتادة: يغفر بالياء مضمومة. وقرأ الأعمش: يغفر بالياء مفتوحة وإفراد الخطيئة. وقرأ الحسن: يغفر بالياء مفتوحة والجمع المسلم. وقرأ أبو حياة: تغفر بالتاء مضمومة وبالجمع المسلم. وحكى الأهوازي أنه قرأ: خطاياكم بهمز الألف وسكون الألف الأخيرة. وحكى عنه أيضاً العكس. وتوجيه هذا الهمز أنه استثقل النطق بألفين مع أن الحاجز حرف مفتوج والفتحة تنشأ عنها الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فهمز إحدى الألفين ليزول هذا الاستثقال، وإذ كانوا قد همزوا الألف المفردة بعد فتحه في قوله: وخندف هامة هذا العألم *** فلأن يهمزوا هذا أولى، وهذا توجيه شذوذ. ومن قرأ بضم الياء أو التاء كان: خطاياكم، أو خطياتكم، أو خطيتكم مفعولاً لم يسم فاعله، ومن قرأ بفتح التاء أو الياء أو بالنون، كان ذلك مفعولاً، وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام في نظيره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}، وذكرنا الخلاف في ذلك. وهنا تقدمت أوامر أربعة: {ادخلوا}، {فكلوا}، {وادخلوا الباب}، {وقولوا حطة}، والظاهر أنه لا يكون جواباً إلا للآخرين، وعليه المعنى، لأن ترتب الغفران لا يكون على دخول القرية ولا على الأكل منها، وإنما يترتب على دخول الباب لتقييده بالحال التي هي عبادة وهي السجود، وبقوله: {وقولوا حطة} لأن فيه السؤال بحط الذنوب، وذلك لقوة المناسبة وللمجاورة. ويدل على ترتب ذلك عليها ما في الأعراف من قوله تعالى: {وقولوا حطة}، {وادخلوا الباب سجداً}، {نغفر}، والقصة واحدة. فرتب الغفران هناك على قولهم حطة، وعلى دخول الباب سجداً، لما تضمنه الدخول من السجود. وفي تخالف هاتين الجملتين في التقديم والتأخير دليل على أن الواو لا ترتب وإنها لمطلق الجمع. وقرأ من الجمهور: بإظهار الراء من نغفر عند اللام، وأدغمها قوم قالوا وهو ضعيف. {وسنزيد}: هنا بالواو، وفي الأعراف {سنزيد}، والتي في الأعراف مختصرة. ألا ترى إلى سقوط رغداً؟ والواو من: {وسنزيد}، وقوله: {فأرسلنا عليهم} بدل، {فأنزلنا على الذين ظلموا}، وإثبات ذلك هنا، وناسب الإسهاب هنا والاختصار هناك. والزيادة ارتفاع عن القدر المعلوم، وضده النقص. {المحسنين}، قيل: الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة، وقيل: المحسنين منهم، فقيل: معناه من أحسن منهم بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات، وقيل: معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئاً بعد ذلك زدناه ثواباً ودرجات، وقيل: معناه من كان محسناً منهم زدنا في إحسانه، ومن كان مسيئاً مخطئاً نغفر له خطيئته، وكانوا على هذين الصنفين، فأعلمهم الله أنهم إذا فعلوا ما أمروا به من دخولهم الباب سجداً وقولهم حطة يغفر ويضاعف ثواب محسنهم. وقيل: المحسنون من دخل، كما أمر وقال: لا إله إلا الله، فتلخص أن المحسنين إما من غيرهم أو منهم. فمنهم إما من اتصف بالإحسان في الماضي، أي كان محسناً، أو في المستقبل، أي من أحسن منهم بعد، أو في الحال، أي وسنزيدكم بإحسانكم في امتثالكم ما أمرتم به من دخول الباب سجداً والقول حطة. وهذه الجملة معطوفة على: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم}، وليست معطوفة على نغفر فتكون جواباً، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الإعراف في قوله سنزيد؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً. والقول حطة، لكنها أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله. {فبدّل الذين ظلموا}: ظاهره انقسامهم إلى ظالمين وغير ظالمين، وأن الظالمين هم الذين بدلوا، فإن كان كلهم بدلوا، كان ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر إشعاراً بالعلة، وكأنه قيل: فبدّلوا، لكنه أظهره تنبيهاً على علة التبديل، وهو الظلم، أي لولا ظلمهم ما بدلوا، والمبدّل به محذوف تقديره: فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة. {قولاً غير الذي قيل لهم}: ولما كان محذوفاً ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا حطة، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم حطة قولاً غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل، على أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل، والمنصوب هو الحاصل. واختلف المفسرون في القول الذي قالوه بدل أن يقولوا: حطة، فقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ووهب وابن زيد: حنطة، وقال السدّي عن أشياخه: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة سوداء، وقال أبو صالح: سنبلة، وقال السدّي ومجاهد أيضاً: هطا شمهاثاً، وقيل: حطى شمعاثاً، ومعناها في هذين القولين: حنطة حمراء، وقيل: حنطة بيضاء مثقوبة فيها شعرة. وقيل: حبة في شعيرة، وقال ابن مسعود: حنطة حمراء فيها شعير، وقيل: حنطة في شعير، رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: حبة حنطة مقلوة في شعرة، وقيل: تكلموا بكلام النبطية على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وقيل: إنهم غيروا ما شرع لهم ولم يعملوا بما أنزل الله عليهم. والذي ثبت في صحيح البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بأنهم قالوا: حبة في شعرة، فوجب المصير إلى هذا القول واطراح تلك الأقوال، ولو صح شيء من الأقوال السابقة لحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، فيكون بعضهم قال: كذا، وبعضهم قال: كذا، فلا يكون فيها تضاد. ومعنى الآية: أنهم وضعوا مكان ما أمروا به من التوبة والاستغفار قولاً مغايراً له مشعراً باستهزائهم بما أمروا به، والإعراض عما يكون عنه غفران خطيآتهم. كل ذلك عدم مبالاة بأوامر الله، فاستحقوا بذلك النكال. {فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً}: كرر الظاهر السابق زيادة في تقبيح حالهم وإشعاراً بعلية نزول الرجز. وقد أضمر ذلك في الأعراف فقال: {فأرسلنا عليهم}، لأن المضمر هو المظهر. وقرأ ابن محيصن: رجزاً بضم الراء، وقد تقدّم أنها بالغة في الرجز. واختلفوا في الرجز هنا، فقال أبو العالية: هو غضب الله تعالى، وقال ابن زيد: طاعون أهلك منهم في ساعة سبعين ألفاً، وقال وهب: طاعون عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفاً، وقال ابن عباس: ظلمة وموت مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً وهلك سبعون ألفاً عقوبة. والذي يدل عليه القرآن أنه أنزل عليهم عذاب ولم يبين نوعه، إذ لا كبير فائدة في تعليق النوع. {من السماء}: إن فسر الرجز بالثلج كان كونه من السماء ظاهراً، وإن فسر بغيره فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء عليهم، أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء. {بما كانوا}، ما: مصدرية التقدير بكونهم. {يفسقون}. وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، وهو بعيد. وقرأ النخعي وابن وثاب وغيرهما بكسر السين، وهي لغة. قال أبو مسلم: هذا الفسق هو الظلم المذكور في قوله: {على الذين ظلموا}. وفائدة التكرار التأكيد، لأن الوصف دال على العلية، فالظاهر أن التبديل سببه الظلم، وأن إنزال الرجز سببه الظلم أيضاً. وقال غير أبي مسلم: ليس مكرر الوجهين: أحدهما: أن الظلم قد يكون من الصغائر، {ربنا ظلمنا}، ومن الكبائر: {إن الشرك لظلم عظيم} والفسق لا يكون إلا من الكبائر. فلما وصفهم بالظلم أوّلاً وصفهم بالفسق الذي هو لا بد أن يكون من الكبائر. والثاني: أنه يحتمل أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل ونزول الرجز عليهم من السماء، لا بسبب ذلك التبديل بل بالفسق الذي فعلوه قبل ذلك التبديل، وعلى هذا يزول التكرار. انتهى.. وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: {فبدّل الذين ظلموا}، وترتيب العذاب على هذا التبديل على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر. وقال قوم: يجوز ذلك إذا كانت الكلمة تسدّ سدّها، وعلى هذا جرى الخلاف في قراءة القرآن بالمعنى، وفي تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، وفي نقل الحديث بالمعنى. وذكروا أن في الآية سؤالات: الأول: قوله هنا، {وإذ قلنا}، وفي الأعراف: {وإذ قيل} وأجيب بأنه صرح بالفاعل في البقرة لإزالة الإبهام، وحذف في الأعراف للعلم به في سورة البقرة. الثاني: قال هنا: ادخلوا، وهناك اسكنوا. وأجيب بأن الدخول مقدّم على السكنى، فذكر الدخول في السورة المتقدّمة. والسكنى في المتأخرة. الثالث: هنا خطاياكم، وهناك: خطيئتكم. وأجيب بأن الخطايا جمع كثرة، فناسب حيث قرن به ما يليق بجوده، وهو غفران الكثير. والخطيئات جمع قلة لما لم يضف ذلك إلى نفسه. الرابع: ذكر هنا: رغداً وهناك: حذف. وأجيب بالجواب قبل. الخامس: هنا قدم دخول الباب على القول، وهناك عكس. وأجيب بأن الواو للجمع والمخاطبون بهذا مذنبون. فاشتغاله بحط الذنب مقدّم على اشتغاله بالعبادة، فكلفوا بقول حطة أولاً، ثم بالدخول وغير مذنبين. فاشتغاله أولاً بالعبادة ثم بذكر التوبة ثانياً على سبيل هضم النفس وإزالة العجب، فلما احتمل الانقسام ذكر حكم كل واحد منهما في سورة بأيهما بدأ. السادس: إثبات الواو في وسنزيد هنا، وحذفها هناك. وأجيب بأنه لما تقدم أمران كإن المجيء بالواو مؤذناً بأن مجموع الغفران والزيادة جزاء واحد لمجموع الأمرين، وحيث تركت أفاد توزع كل واحد على كل واحد من الأمرين، فالغفران في مقابلة القول، والزيادة في مقابلة ادخلوا. السابع: لم يذكر ههنا منهم وذكر هناك. وأجيب بأن أول القصة في الأعراف مبني على التخصيص بلفظ من قال: {ومن قوم موسى أمة} فذكر لفظ من آخراً الياطبق آخره أوله، وهنا لم تبن القصة على التخصيص. الثامن: هنا فأنزلنا، وهناك: فأرسلنا. وأجيب بأن الإنزال مفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية، وهذا إنما يحدث بالآخر. التاسع: هنا: يفسقون، وهناك: يظلمون. وأجيب بأنه لما بين هنا كون ذلك الظلم فسقاً اكتفى بذكر الظلم في سورة الأعراف لأجل ما تقدم من البيان هنا. قال بعض الناس: بنو إسرائيل خالفوا الله في قول وفعل، وأخبر تعالى بالمجازاة على المخالفة بالقول دون الفعل، وهو امتناعهم عن الدخول بصفة السجود. وأجاب بأن الفعل لا يجب إلا بأمر، والأمر قول فحصل بالمجازاة عن القول المجازاة بالأمرين جميعاً، والجزاء هنا إن كان قد وقع على هذه المخالفة الخاصة، فيفسقون يحتمل الحال، وإن كان قد وقع على ما مضى من المخالفات التي فسقوا بها، فهو مضارع وقع موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام. {وإذ استسقى موسى لقومه}: هذا هو الإنعام التاسع، وهو جامع لنعم الدنيا والدين. أما في الدنيا فلأنه أزال عنهم الحاجة الشديدة إلى الماء، ولولا هو لهلكوا في التيه، وهذا أبلغ من الماء المعتاد في الأنعام لأنهم في مفازة منقطعة. وأما في الدين فلأنه من أظهر الدلائل على وجود الصانع وقدرته وعلمه، وعلى صدق موسى عليه السلام، والاستسقاء طلب الماء عند عدمه وقلته. وقيل: مفعول استسقى محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف، وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله: {إذ استسقاه قومه} أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله: «وأبيض يستسقى الغمام بوجهه». *** ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان يسمع من كلامهم: استسقى زيد وبه الماء، وقد ثبت تعديه مرة إلى المستسقي منه ومرة إلى المستسقى، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت من لسان العرب. وذكر الله هذه النعمة من الاستسقاء غير مقيدة بمكان. وقد اختلف في ذلك، فقال أبو مسلم: كان ذلك على عادة الناس إذا قحطوا، وما فعله الله تعالى من تفجير الماء من الحجر فوق الإجابة بالسقياء وإنزال الغيث. وقال أكثر المفسرين: كان هذا الاستسقاء في التيه حين قالوا: من لنا بكذا، إلى أن قالوا: من لنا بالماء، فأمرالله موسى بضرب الحجر. وقيل ذلك عند خروجهم من البحر الذي انفلق، وقعوا في أرض بيضاء ليس فيها ظل ولا ماء، فسألوا أن يستسقى لهم، واللام قي لقومه لام السبب، أي لأجل قومه وثم محذوف يتم به معنى الكلام، أي لقومه إذ عطشوا، أو ما كان بهذا المعنى ومحذوف آخر: أي فأجبناه. {فقلنا اضرب بعصاك} قالوا: وهذه العصا هي المسؤول عنها في قوله: {وما تلك بيمينك يا موسى} وكانت فيها خصائص تذكر في موضعها. قيل: كانت نبعة، وقيل: عليقي، وهو شجر له شوك، وقيل: من آس الجنة طولها عشرة أذرع، طول موسى عليه السلام، لها شعبتان يتقدان في الظلمة، وكان آدم حملها معه من الجنة إلى الأرض، فتوارثها أصاغر عن أكابر حتى وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، وذلك أنه لما استرعاه قال له: اذهب فخذ عصاً، فذهب إلى البيت، فطارت هذه إلى يده، فأمره بردها، فأخذ غيرها، فطارت إلى يده، فتركها له. وقيل: دفعها إليه ملك من الملائكة في طريق مدين. {الحجر}: قال الحسن: لم يكن حجراً معيناً بل أي حجر ضرب انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز، حيث ينفجر الماء من أي حجر ضرب. وروي أنهم قالوا: لو فقد موسى عصاه متنا عطشاً، فأوحى الله إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون، فكانت تطيعه فلم يعتبروا. وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فينفجر، فعلى هذا تكون الألف واللام في الحجر للجنس. وقيل: إن الألف واللام للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مربع له أربعة أوجه، ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف خارجاً عن دوابهم، وسعة العسكر اثنا عشر ميلاً. وقيل: حجر أهبطه معه آدم من الجنة، فتوارثوه حتى وقع لشعيب، فدفعه إلى موسى مع العصا. وقيل: هو الحجر الذي وضع موسى عليه ثوبه حين اغتسل، إذ رموه بالأدرة، ففز، قال له جبريل عليه السلام: بأمر الله أرفع هذا الحجر، فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاة، قاله ابن عباس. وقيل: حجر أخذه من قعر البحر خفيف مربع مثل رأس الرجل، له أربعة أوجه، ينبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إليه، وكان يضعه في مخلاته، فإذا احتاجوا إلى الماء وضعه وضربه بعصاه. وقيل: كان رخاماً فيه اثنتا عشرة حفرة، تتبع من كل حفرة عين ماء عذب يأخذونه، فإذا فرغوا ضربه موسى بعصاه فذهب الماء. وقيل: حجر أخذه من جبل زبيد، طوله أربعة أذرع، قاله الضحاك. وقيل: حجر مثل رأس الشاة، يلقونه في جانب الجوالق إذا ارتحلوا، فيه من كل ناحية ثلاث عيون بعد أن يستمسك ماؤها بعد رحلتهم، فإذا نزلوا قرعه موسى بعصاه فعادت العيون بحسبها، قاله ابن زيد. وقيل حجر يحمله في مخلاته، أخذه، إذ قالوا: كيف بنا إذا أفضنا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحيثما نزلوا ألقاه فينفجر ماء. وقيل: حجر من الكذان فيه اثنتا عشرة عيناً، يسقي كل يوم ستمائة ألف، قاله أبو روق، وقيل: حجر ذراع في ذراع، قاله السدّي. وقيل: حجر مثل رأس الثور. وقيل: حجر كان ينفجر لهم منه الماء، لم يكونوا يحملونه، بل كانوا أي مكان نزلوا وجدوه فيه، وذلك أعظم في الإعجاز وأبلغ في الخارق، وقال مقاتل والكلبي: كانوا إذا قضوا حاجتهم من الماء اندرست تلك العيون، فإذا احتاجوا إلى الماء انفجرت. فهذه أقوال المفسرين في الحجر، وظاهرها أو ظاهر أكثرها التعارض. قال بعض من جمع في تفسير القرآن: الأليق أنِهِ الحجر الذي فرّ بثوب موسى عليه السلام، فإن الله أودع فيه حركة التنقل والسعي، أووكل به ملكاً يحمله ولا يستنكر ذلك. فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعرف حجراً كان يسلم عليّ» وقد رام هذا الرجل الجمع بين هذه الأقوال بأن يكون الحجر غير معين، بل أيّ حجر وجده ضربه، فوجد مرّة مربعاً، ومرّة كذاناً، ومرة رخاماً، وكذا باقيها. قال: فروى الراوي صفة ذلك الحجر الذي ضربه في تلك المنزلة قال: فيزول التغاير في الكيفيات، ويحصل التوفيق بين الروايات. وهذا الكلام كما ترى. وظاهر القرآن: أن الحجر ليس بمعين، إذ لم يتقدم ذكر حجر فيكون هذا معهوداً، وأن الاستسقاء لم يتكرّر، لا هو ولا الضرب ولا الانفجار، وأن هذه الكيفيات التي ذكروها لم يتعرّض لها لفظ القرآن، فيحتمل أن يكون ذلك متكرراً، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة، والواحدة هي المتحققة. {فانفجرت}: الفاء للعطف على جملة محذوفة، التقدير: فضرب فانفجرت، كقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} أي فضرب فانفلق. ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار مرتباً على ضربه، إذ لو كان يتفجر دون ضرب، لما كان للأمر فائدة، ولكان تركه عصياناً، وهو لا يجوز على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه، وحرف العطف من المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه، وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود، قال تعالى: {فأرسلون يوسف أيّها الصّدّيق} التقدير: فأرسلوه فقال: فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جاز حذفهما معاً، فلأن يجوز حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف، بل هي جواب شرط محذوف، قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: {فتاب عليكم} وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ، اه كلامه. وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا التقدير في قوله: {فتاب عليكم} بأن إضمار مثل هذا الشرط لا يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر، فقد تاب عليكم، وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهار قد، وما دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى، نحو قوله: {وإن يكذبونك فقد كذبت رسل من قبلك} وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى، استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن يضرب، وإذا كان مترتباً على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضياً نحو الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إليّ فقد أحسنت إليك، ويحتاج إلى تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني فغفر الله لك. وأيضاً فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع وتحقق، ولذلك قال: {قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا} وجعله جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلق على تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده، فما ذهب إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه، وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ؟ وجاء هنا: انفجرت وفي الاعراف: {انبجست} فقيل: هما سواء، انفجر وانبجس وانشق مترادفات. وقيل: بينهما فرق، وهو أن الانبجاس هو أوّل خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته. وقيل: الانبجاس خروجه من الصلب، والانفجار خروجه من اللين. وقيل: الانبجاس هو الرشح، والانفجار هو السيلان، وظاهر القرآن استعمالهما بمعنى واحد، لأن الآيتين قصة واحدة. {منه} متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء. الغاية والضمير عائد على الحجر المضروب، فانفجار الماء كان من الحجر لا من المكان، كما قال تعالى: {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} ولو كان هذا التركيب في غير كلام الله تعالى لأمكن أن يعود الضمير على الضرب، وهو المصدر المفهوم من الكلام قبله، وأن تكون من للسبب، أي فانفجرت بسبب الضرب، ولكن لا يجوز أن يرتكب مثل هذا في كلام الله تعالى، لأنه لا ينبغي أن يحمل إلا على أحسن الوجوه في التركيب وفي المعنى، إذ هو أفصح الكلام. وفي هذا الانفجار من الإعجاز ظهور نفس الماء من حجر لا اتصال له بالأرض، فتكون مادّته منها، وخروجه كثيراً من حجر صغير، وخروجه بقدر حاجتهم، وخروجه عند الضرب بالعصا، وانقطاعه عند الاستغناء عنه. {اثنتا عشرة}: التاء في اثنتا للتأنيث، وفي ثنتا للالحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. وقرأ الجمهور: عشرة بسكون الشين. وقرأ مجاهد، وطلحة، وعيسى، ويحيى بن وثاب، وابن أبي ليلى، ويزيد: بكسر الشين. وروى ذلك نعيم السعيدي عن أبي عمرو، والمشهور عنه الإسكان، وتقدّم أنها لغة تميم، وكسرهم لها نادر في قياسهم لأنهم يخففون فعلاً، يقولون في نمر: نمر. وقرأ ابن الفضل الأنصاري، والأعمش: بفتح الشين. وروي عن الأعمش: الإسكان، والكسر أيضاً. قال الزمخشري: الفتح لغة. وقال ابن عطية: هي لغة ضعيفة. وقال المهدوي: فتح الشين غير معروف، ويحتمل أن تكون لغة، وقد نص بعض النحويين على أن فتح الشين شاذ، وعشرة في موضع خفض بالإضافة، وهو مبني لوقوعه موقع النون، فهو مما أعرب فيه الصدر وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه رفعاً وانقلابها نصباً وجراً، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة نون اثنتين لم يصح إضافتها، فلا يقال: اثنتا عشرتك. وفي محفوظي أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني، ولم يجعل الإنقلاب دليل الإعراب. {عيناً}: منصوب على التمييز، وإفراد التمييز المنصوب في باب العدد لازم عند الجمهور، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطاً، وكان بينهم تضاغن وتنافس، فأجرى الله لكل سبط منهم عيناً يرده، لا يشركه فيه أحد من السبط الآخر، وذكر هذا العدد دون غيره يسمى التخصيص عند أهل علم البيان، وهو أن يذكر نوع من أنواع كثيرة لمعنى فيه لم يشركه فيه غيره، ومنه قوله تعالى: {وأنه هو رب الشعرى}، وسيأتي بيان ذلك التخصيص فيها، إن شاء الله تعالى، في موضعها، وقول الخنساء: يذكرني طلوع الشمس صخراً *** وأندبه بكل مغيب شمس اختصتهما من دون سائر الأوقات للغارة والقرى. قال بعض أهل اللطائف: خلق الله الحجارة وأودعها صلابة يفرق بها أجزاء كثيرة مما صلب من الجوامد، وخلق الأشجار رطبة الغصون، ليست لها قوّة الأحجار، فتؤثر فيها تفريقاً بأجزائها ولا تفجير العيون مائها، بل الأحجار تؤثر فيها. فلما أيدت بقوة النبوّة، انفلقت بها البحار، وتفرقت بها أجزاء الأحجار، وسالت بها الأنهار، {إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار} {قد علم كل أناس مشربهم}: جملة استئناف تدل على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدّاه لمشرب غيره، وكأنه تفسير لحكمة الانقسام إلى اثنتي عشرة عيناً، وتنبيه عليها. وعلم هنا متعدّية لواحد أجريت مجرى عرف، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان العرب. وكل أناس مخصوص بصفة محذوفة، أي من قومه الذين استسقى لهم. والمشرب هنا مكان الشرب وجهته التي يجري منها الماء. وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، والأول أولى، لأن دلالته على المكان بالوضع، ودلالته على الماء بالمجاز، وهو تسمية الشيء باسم مكانه وإضافة المشرب إليهم، لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم، وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كل لا على لفظها، ولا يجوز أن يعود على لفظها، فيقال: مشربه، لأن مراعاة المعنى هنا لازمة، لأن كل قد أضيفت إلى نكرة، ومتى أضيفت إلى نكرة وجب مراعاة المعنى، فتطابق ما أضيفت إليه في عود ضمير وغيره، قال تعالى: {يوم ندعوا كلّ أناس بإمامهم}، وقال الشاعر: وكلّ أناس قاربوا قيد فحلهم *** ونحن حللنا قيده فهو سارب وقال: وكل أناس سوف تدخل بينهم *** دويهية تصفرّ منها الأنامل وقال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت} وتقول: كل رجلين يقولان ذلك، ولا يجوز في شيء من هذا مراعاة لفظ كل، وثم محذوف تقديره: مشربهم منها: أي من الاثنتي عشرة عيناً. ونص على المشرب تنبيهاً على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة، وإن كان سرد الكلام قد علم كل أناس عينهم، لكن في ذكر المشرب ما ذكرناه من تسويغ الشرب لهم منها أنشئ لهم الأمر بالأكل من المن والسلوى، والشرب من هذه العيون، أو أمروا بالدوام على ذلك، لأن الإباحة كانت معلومة من غير هذا الأمر، والأمر بالواقع أمر بدوامه، كقولك للقائم: قم. {كلوا واشربوا}: هو على إضمار قول، أي وقلنا لهم، وهذا الأمر أمر إباحة. قال السلمي: مشرب كل أحد حيث أنزله رائده، فمن رائده نفسه مشربه الدنيا، أو قلبه فمشربه الآخرة، أو سره فمشربه الجنة، أو روحه فمشربه السلسبييل، أو ربه فمشربه الحضرة على المشاهدة حيث يقول: {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} طهرهم به عن كل ما سواه، وبدئ بالأكل لأنه المقصود أولاً، وثنى بالشرب لأن الاحتياج إليه حاصل عن الأكل، ولأن ذكر المن والسلوى متقدم على انفجار الماء. {من رزق الله}، من: لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتعبيض. ولما كان مأكولهم ومشروبهم حاصلين لهم من غير تعب منهم ولا تكلف، أضيفا إلى الله تعالى، وهذا التفات، إذ تقدم فقلنا: اضرب، ولو جرى على نظم واحد لقال: من رزقنا، إلا إن جعلت الإضمار قبل كلوا مسنداً إلى موسى، أي وقال موسى: {كلوا واشربوا} فلا يكون فيه التفات، ومن رزق الله متعلق بقوله: واشربوا، وهو من إعمال الثاني على طريقة اختيار أهل البصرة، إذ لو كان من أعمال الأول لأضمر في الثاني ما يحتاجه، فكان يكون: كلوا واشربوا منه، من رزق الله، ولا يجوز حذف منه إلا في ضرورة على ما نص بعضهم، والضرورة والقليل لا يحمل كلام الله عليهما. والرزق هنا هو المرزوق، وهو الطعام من المن والسلوى، والمشروب من ماء العيون. وقيل: هو الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب، وهذا القول يكون فيه من رزق الله، يجمع فيه بين الحقيقة والمجاز، لأن الشرب من الماء حقيقة، والأكل لا يكون إلا مما نشأ من الماء، لا أن الأكل من الماء حقيقة، فحمل الرزق على القدر المشترك بين الطعام والماء أولى من هذا القول. ولما كان مطعومهم ومشروبهم لا كلفة عليهم ولا تعب في تحصيله حسنت إضافته إلى الله تعالى، وإن كانت جميع الأرزاق منسوبة إلى الله تعالى، سواء كانت مما تسبب العبد في كسبها أم لا، واختص بالإضافة للفظ الله، إذ هو الاسم العلم الذي لا يشركه فيه أحد، الجامع لسائر الأسماء {ألله الذي خلقكم ثم رزقكم} {قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله} {أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده} و{من يرزقكم من السماء والأرض} {أإله مع الله} واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال، لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة، واقتضى أن يكون الرّزق مباحاً، فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحاً وحراماً، وأنه غير جائز. والجواب: إن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد به المن والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرّزق حلية جميع الرّزق، وفي هذه الآية دليل على جواز أكل الطيبات من الطعام، وشرب المستلذ من الشراب، والجمع بين اللونين والمطعومين، وكل ذلك بشرط الحل. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل، وأنه كان يشرب الماء البارد العذب، وكانت تنبذ له فيه الثمرات، وجمع بين القثاء والرطب، وسقى بعض نسائه الماء. وقد نقل عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يتركون اللذيذ من الطعام والشهي من الشراب رغبة فيما عند الله تعالى. {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}: لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله، ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار من مأكول أو مشروب، كان ذلك إنعاماً وإحساناً جزيلاً إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المآكل والمشارب، وأنه ينشأ عن ذلك القوة الغضبية، والقوّة الاستعلائية. نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك، وهو الفساد، حتى لا يقابلوا تلك النعم بما يكفرها، وهو الفساد في الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية: معناه ولا تسعوا. وقال قتادة: ولا تسيروا. وقيل: لا تتظالموا الشرب فيما بينكم، لأن كلّ سبط منكم قد جعل له شرب معلوم. وقيل: معناه: لا تؤخروا الغذاء، فكانوا إذا أخروه فسد. وقيل: معناه لا تخالطوا المفسدين. وقيل: معناه لا تتمادوا في فسادكم. وقيل: لا تطغوا، قاله ابن زيد. وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض. {في الأرض}: الجمهور على أنها أرض التيه، ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدر أن يوصلوا إليها فينالها فسادهم، ويجوز أن يريد الأرضين كلها. وأل: لاستغراق الجنس. ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرض بالفساد. مفسدين: حال مؤكدة. قال القشيري، في قوله تعالى: {وإذ استسقى} الآية أن الذي قدر على إخراج الماء من الصخرة الصمّاء كان قادراً على إروائهم بغير ماء، ولكن لإظهار أثر المعجزة فيه، واتصال محل الاستعانة إليه، وليكون لموسى عليه السلام في فضل الحجر مع نفسه شغل، ولتكليفه أن يضرب بالعصا، نوع من المعالجة، ثم أراد أن يكون كل سبط جارياً على سننه، غير مزاحم لصاحبه، وحين كفاهم ما طلبوه أمرهم بالشكروحفظ الأمر وترك احتقاب الوزر، فقال: {ولا تعثوا}. والمناهل مختلفة، وكل يرد مشربه: فمشرب فرات، ومشرب أجاج، ومشرب صاف، ومشرب رنق، وسياق كل قوم يقودهم، فالنفوس ترد مناهل المنى، والقلوب ترد مشارب التقى، والأرواح ترد مناهل الكشف، والمشاهدات والأسرار ترد مناهل الحقائق بالاختطاف من حقيقة الوحدة والذات. انتهى كلامه ملخصاً. {وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد}: لما سئموا من الإقامة في التيه، والمواظبة على مأكول واحد، لبعدهم عن الأرض التي ألفوها، وعن العوائد التي عهدوها، أخبروا عما وجدوه من عدم الصبر على ذلك وتشوفهم إلى ما كانوا يألفون، وسألوا موسى أن يسأل الله لهم. وأكثر أهل الظاهر من المفسرين على أن هذا السؤال كان معصية، قالوا: لأنهم كرهوا إنزال المن والسلوى، وتلك الكراهة معصية، ولأن موسى وصف ما سألوه بأنه أدنى وما كانوا عليه بأنه خير، وبأن قوله: {أتستبدلون} هو على سبيل الإنكار. والجواب، أن قولهم: {لن نصبر على طعام واحد} لا يدل على عدم الرضا به فقط، بل اشتهوا أشياء أخر. وأما الإنكار فلأنه قد يكون لما فيه من تفويت الأنفع في الدنيا، أو الأنفع في الآخرة. وأما الخيرية فسيأتي الكلام فيها، وإنما كان سؤالاً مباحاً، والدليل عليه أن قوله: {كلوا واشربوا} من قبل هذه الآية، عند إنزال المن وتفجير العين ليس بإيجاب بل هو إباحة، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: {لن نصبر على طعام واحد} معصية لأن من أبيح له صنوف من الطعام يحسن منه أن يسأل غيرها، إما بنفسه أو على لسان الرسول. ولما كان سؤال النبي أقرب للإجابة، سألوه عن ذلك، ولأن النوع الواحد أربعين سنة يمل ويشتهي إذ ذاك غيره، ولأنهم ما تعودوا ذلك النوع. ورغبة الإنسان فيما اعتاده، وإن كان خسيساً، فوق رغبة ما لم يعتده، وإن كان شريفاً، ولأن ذلك يكون سبباً لانتقالهم عن التيه الذي ملوه، لأن تلك الأطعمة لا توجد فيه، فأرادوا الحلول بغيره، ولأن المواظبة على طعام واحد سبب لنقص الشهوة وضعف الهضم وقلة الرغبة، والاستكثار من الأنواع بعكس ذلك. فثبت بهذا أن تبديل نوع بنوع يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء، وثبت أنه ليس في القرآن ما يدل على أنهم كانوا ممنوعين عنه، فثبت أنه لا يجوز أن يكون معصية. ومما يؤكد ذلك قوله: {اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم} هو كالإجابة لماطلبوا. ولو كانوا عاصين في ذلك السؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ووصف الطعام بواحد، وإن كان طعامين، لأنه المنّ والسلوى اللذان رزقوهما في التيه، لأنهم أرادوا بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداوم عليها كل يوم لا يبدلها قيل: لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً، يراد بالوحدة نفي التبدل والاختلاف. ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والسرف، ونحن قوم فلاحة أهل زراعات، فما نريد إلا ما ألفناه وضرينا به من الأشياء المتفاوتة، كالحبوب والبقول ونحوهما. ذكر هذين الوجهين في معنى الواحد الزمخشري. وقيل: أعاد على لفظ الطعام من حيث أنه مفرد لا على معناه. وقيل: كانوا يأكلون المن والسلوى مختلطين، فيصير بمنزلة اللون الذي يجمع أشياء ويسمى لوناً واحداً، قاله ابن زيد. وقيل: كان طعامهم يأتيهم بصفة الوحدة، نزل عليهم المن فأكلوا منه مدة حتى سئموه وملوه، ثم انقطع عنهم، فأنزل عليهم السلوى فأكلوها مدة وحدها. وقيل: أرادوا بالطعام الواحد السلوى، لأن المن كان شراباً، أو شيئاً يتحلون به، وما كانوا يعدون طعاماً إلا السلوى. وقيل: عبرعنهما بالواحد، كما عبر بالإثنين عن الواحد نحو: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} وإنما يخرج من أحدهما وهو الملح دون العذب. وقيل: قالوا ذلك عند نزول أحدهما. وقيل: معناه لن نصبر على أننا كلنا أغنياء، فلا يستعين بعضنا ببعض، ويكون قد كنى بالطعام الواحد عن كونهم نوعاً واحداً، وهو كونهم ذوي غنى، فلا يخدم بعضهم بعضاً، وكذلك كانوا في التيه، فلما خرجوا منه عادوا لما كانوا عليه من فقر بعض وغنى بعض. فهذه تسعة أقوال في معنى قوله: {على طعام واحد}. {فادع لنا ربك}: معناه: اسأله لنا، ومتعلق الدعاء محذوف، أي ادع لنا ربك بأن يخرج كذا وكذا. ولغة بني عامر: فادع بكسر العين، جعلوا دعا من ذوات الياء، كرمى يرمي، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم بما اقترحوه ولم يدعوا هم، لأن إجابة الأنبياء أقرب من إجابة غيرهم، ولذلك قالوا: ربك، ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم من مناجاته وتكليمه وإتيانه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا الذي هو محسن لك، فكما أحسن إليك في أشياء، كذلك نرجو أن يحسن إلينا في إجابة دعائك. {يخرج لنا}: جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع، وقد مر نظيره في {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وقيل: ثم محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر الذي هو اخرج. وقيل: جزم يخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. {مما تنبت الأرض}: مفعول يخرج محذوف ومن تبعيضة: أي مأكولاً مما تنبت، هذا على مذهب سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة، التقدير: ما تنبت، وما موصولة، والعائد محذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو البقاء: لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز، إذ المنبت هو الله تعالى، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات نسب الإنبات إليها. {من بقلها}: هذا بدل من قوله: {مما تنبت الأرض}، على إعادة حرف الجرّ، وهو فصيح في الكلام، أعني أن يعاد حرف الجرّ في البدل. فمن على هذا التقدير تبعيضية، كهي في مما تنبت، ويتعلق بيخرج، إمّا الأولى، وإمّا أخرى مقدّرة على الخلاف الذي في العامل في البدل، هل هو العامل الأول، أو ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني، وأجاز المهدويّ أيضاً، وابن عطية، وأبو البقاء أن تكون من في قوله: {من بقلها} لبيان الجنس، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص، ثم اختلفوا، فقال أبو البقاء: موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف تقديره: مما تنبته الأرض كائناً من بقلها، وقدّم ذكر هذا الوجه قال: ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما المهدوي، وابن عطية فزعما مع قولهما: إن من في {من بقلها} بدل من قوله: {مما تنبت}، وذلك لأن من في قوله {مما تنبت} للتبعيض، ومن في قوله {من بقلها} على زعمهما لبيان الجنس. فقد اختلف مدلول الحرفين، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين، فلا يجوز البدل إلا أن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله: {مما تنبت الأرض} لبيان الجنس، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان الجنس. والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض، وأمّا أن تكون لبيان الجنس، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما استدلّ به مثبت ذلك، والمراد بالبقل هنا: أطايب البقول التي يأكلها الناس، كالنعناع، والكرفس، والكرّاث، وأشباهها، قاله الزمخشري. وقرأ يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وغيرهما: وقثائها بضم القاف، وقد تقدّم أنها لغة. {وفومها}: تقدّم الكلام فيه، وللمفسرين فيه أقاويل ستة: أحدها: أنه الثوم، وبينته قراءة ابن مسعود: وثومها بالثاء، وهو المناسب للبقل والعدس والبصل. الثاني: قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدّي: أنه الحنطة. الثالث: أنه الحبوب كلها. الرابع: أنه الخبز، قاله مجاهد وابن عطاء وابن زيد. الخامس: أنه الحمص. السادس: أنه السنبلة. {وعدسها وبصلها}: وأحوال هذه الخمسة التي ذكروها مختلفة، فذكروا، أولاً: ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، إذ البقل منه ما هو بارد رطب كالهندبا، ومنه ما هو حار يابس كالكرفس والسداب، ومنه ما هو حار وفيه رطوبة عرضية كالنعناع. وثانياً القثاء، وهو بارد رطب. وثالثاً: الثوم، وهو حار يابس. ورابعاً: العدس، وهو بارد يابس. وخامساً: البصل، وهو حار رطب، وإذا طبخ صار بارداً رطباً، فعلى هذا جاء ترتيب ذكر هذه الخمسة. {قال أتستبدلون}: الضمير في قال ظاهر عوده على موسى، ويحتمل عوده على الرب تعالى، ويؤيده {اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم}، والهمزة في {أتستبدلون} للإنكار، والاستبدال: الاعتياض. وقرأ أبيّ: أتبدّلون، وهو مجاز لأن التبديل ليس لهم إنما ذلك إلى الله تعالى، لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدّلين، وكان المعنى: أتسألون تبديل. {الذي هو أدنى بالذي هو خير}، والذي: مفعول أتستبدلون، وهو الحاصل، والذي دخلت عليه الباء هو الزائل، كما قررناه في غير مكان. هو أدنى: صلة للذي، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين، إذ لا طول في الصلة، وأدنى: خبر عن هو، وهو: أفعل التفضيل، ومن وما دخلت عليه حذفاً للعلم، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً، فإن وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره: أدنى من ذلك الطعام الواحد، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً بعد ذلك، وهو قوله: {بالذي هو خير}، وأفرد: {الذي هو أدنى} لأنه أحال به على المأكول الذي هو {مما تنبت الأرض}، وعلى ما من قوله: {مما تنبت}، فيكون قد راعى المبدل منه، إذ لو راعى البدل لقال: أتستبدلون اللاتي هي أدنى، وقد تقدّم القول في أدنى عند الكلام على المفردات، وذكرنا الأقاويل الثلاثة فيها. وقرأ زهير الفرقبي، ويقال له زهير الكسائي: أدنأ بالهمز، ووقع البعض من جمع في التفسير، وهم في نسبة هذه القراءة للكسائي، فقال: وقرأ زهير والكسائي شاذاً: أدنأ، فظن أن هذه قراءة الكسائي، وجعل زهيراً والكسائي شخصين، وإنما هو زهير الكسائي يعرف بذلك، وبالفرقبي، فهو رجل واحد. فأما تفسير: الأدنى والخير هنا ففيه أقاويل: أحدها: قال الزجاج: تفاضل الأشياء بالقيم، وهذه البقول لا خطر فيها ولا علو قيمة، والمنّ والسلوى هما أعلا قيمة وأعظم خطراً، واختار هذا الزمخشري، قال: أقرب منزلة وأهون مقداراً، والدنو والقرب يعبر بهما عن قلة المقدار فيقال: هو أدنى المحل وقريب المنزلة، كما يعبر بالعبد عن عكس ذلك فيقال: بعيد المحل بعيد المنزلة، يريدون الرفعة والعلو. انتهى كلامه، وهو من كلام الزجاج. والثاني: أن المنّ والسلوى هو الذي منّ الله به وأمرهم بأكله، وفي استدامة ما أمر الله به وشكر نعمته أجر وذخر في الآخرة، والذي طلبوه عار من هذه الخصال فكان أدنى من هذا الوجه. الثالث: أن التفضيل يقع من جهة الطيب واللذة، والمن والسلوى لا شك أنهما أطيب من البقول التي طلبوها. الرابع: أن المنّ والسلوى لا كلفة في تحصيله ولا تعب ولا مشقة، والبقول لا تحصل إلا بعد مشقة الحرث والزرع والخدمة والسقي، وما حصل بلا مشقة خير مما حصل بمشقة. الخامس: أن المنّ والسلوى لا شك في حله وخلوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخللها العيوب والغصوب ويدخلها الحرام والشبهة، وما كان حلاً خالصاً أفضل مما يدخله الحرام والشبهة. السادس: أن المنّ والسلوى يفضلان ما سألوه من جنس الغذاء ونفعه. وملخص هذه الأقوال: هل الأدنوية والخيرية بالنسبة إلى القيمة، أو امتثال الأمر وما يترتب عليه، أو اللذة، أو الكلفة، أو الحل، أو الجنس؟ أقوال ستة. وأما قراءة زهير فهي من الدناءة. وقد تقدم أن أدنى غير المهموز قيل إن أصلها الهمزة فسهل كهذه القراءة، ومن قال بالقلب وإن أصله أدون، فالدناءة والدون راجعان إلى معنى واحد، وهو الخِسة، وهو من جهة المعنى أحسن مقابلة لقوله: {بالذي هو خير}. ومن جعل أدنى بمعنى أقرب، لأن الأدون والأدنأ يقابلهما الخير، والأدنى بمعنى الأقرب يقابله الأبعد، وحذف من ومعمولها بعد قوله: هو خير، لما ذكرناه في قوله: هو أدنى، من وقوع أفعل التفضيل خبراً وتقديره: منه، أي من: {الذي هو أدنى}. وكانت هاتان الصلتان جملتين إسميتين لثبوت الجملة الإسمية، وكان الخير أفعل التفضيل، لأنه لا دلالة فيها على تعيين زمان، بل في ذلك إثبات الأدنوية والخيرية من غير تقييد بزمان، بخلاف الجملة الفعلية، فإنه كان يتعين الزمان، أو يتجوز في ذلك، إن لم يقصد التعيين، فكان الوصل بما هو حقيقة في عدم الدلالة على التعيين أفصح، وكانت صلة ما في قوله: مما تنبت، جملة فعلية، لأن الفعل عندهم يشعر بالتجدد والحدوث، والإنبات متجدد دائماً، فناسب كل مكان ما يليق به من الصلة. {اهبطوا مصراً}: في الكلام حذف على تقدير أن القائل: {أتستبدلون} هو موسى، وتقدير المحذوف، فدعا موسى ربه فأجابه، {قال اهبطوا} وتقدّم معنى الهبوط، ويقال: هبط الوادي: حل به، وهبط منه: خرج، وكان القادم على بلد ينصبّ عليه. وقرئ اهبطوا، بضم الباء، وهما لغتان، والأفصح الكسر، والجمهور على صرف مصراً هنا. وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وأبان بن تغلب: بغير تنوين، وبين كذلك في مصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله، وبعض مصاحف عثمان. فأما من صرف فإنه يعني مصراً من الأمصار غير معين، واستدلوا بالأمر بدخول القرية، وبأنهم سكنوا الشام بعد التيه، وبأن ما سألوه من البقل وغيره لا يكون إلا في الأمصار، وهذا قول قتادة والسدي ومجاهد وابن زيد. وقيل: هو مصر غير معين لكنه من أمصار الأرض المقدسة، بدليل: ادخلوا الأرض المقدسة. وقيل: أراد بقوله: مصراً وإن كان غير معين مصر فرعون، وهو من إطلاق النكرة، ويراد بها المعين، كما تقول: ائتني برجل، وأنت تعني به زيداً. قال أشهب، قال لي مالك: هي مصر قريتك مسكن فرعون. وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الإسم العلم. والمراد بقوله: {أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتاً} قالوا: وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة أحد السببين، لخفة الإسم لسكون وسطه، قاله الأخفش، أو صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف. وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الإسم بكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى النحويون من الصرف في قوله: لم تتلفع بفضل مئزرها دعد *** ولم تسق دعد في العلب وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن الوسط، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى بن عمر منع صرفه قياساً على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا مصروفاً، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب اطراحه. وقال الحسن بن بحر: المراد بقوله مصراً، البيت المقدس، يعني أن اللفظ، وإن كان نكرة، فالمراد به معين، كما قلنا في قول من قال: إنه أراد به وإن كان نكرة مصر المعينة. وأمّا من قرأ مصر بغير تنوين، فالمراد مصر العلم، وهي دار فرعون. واستبعد بعض الناس قول من قال: إنها مصر فرعون، قال: لأنهم من مصر خرجوا، وأمروا بالهبوط إلى الأرض المقدسة لقتال الجبارين فأبوا، فعذبوا بالتيه أربعين سنة لتخلفهم عن قتال الجبارين، ولقولهم: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} فماتوا جميعاً في التيه، وبقي أبناؤهم، فامتثلوا أمرالله، وهبطوا إلى الشام، وقاتلوا الجبارين، ثم عادوا إلى البيت المقدّس. ولم يصرّح أحد من المفسرين والمؤرخين أنهم هبطوا من التيه إلى مصر. انتهى كلامه. فتلخص من قراءة التنوين: أن يكون المراد مصراً غير معين لا من الشام ولا من غيره، أو مصراً غير معين من أمصار الشام، أو معيناً، وهو بيت المقدس، أو مصر فرعون، فهذه أربعة أقوال. {فإن لكم ما سألتم}: هذه الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه موجودة. وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب: سألتم: بكسر السين، وهذا من تداخل اللغات، وذلك أن في سأل لغتين: إحداهما: أن تكون العين همزة فوزنه فعل. والثانية: أن تكون العين واواً تقول: سأل يسأل، فتكون الألف منقلبة عن واو، ويدل على أنه من الواو، وقولهم: هما يتساولان، كما تقول: يتجاوبان، وحين كسر السين توهم أنه فتحها، فأتى بالعين همزة، قال الشاعر: إذا جئتهم وسأيلتهم *** وجدت بهم علة حاضره الأصل ساءلتهم، والمعروف إبدال الهمزة ياء، فتقول: سايلتهم، فجمع بين العوض وهو الياء، وبين المعوض منه وهو الهمزة لكنه لما اضطر قدم الهمزة قبل ألف فاعل. وقال ابن جني: يحتمل أن يكون إبدال الهمزة في سألتم ياء، كما أبدلت ألفاً في قوله: سألت هذيل رسول الله فاحشة *** فانكسر السين قبل الياء، ثم تنبه للهمز فهمز. والمعنى: ما سألتم من البقول والحبوب التي اخترتموها على المن والسلوى. وقيل: ما سألتم من اتكالكم على تدبير أنفسكم في مصالح معاشكم وأحوال أقواتكم. {وضربت عليهم الذلة والمسكنة}: معنى الضرب هنا: الإلزام والقضاء عليهم، من ضرب الأمير البعث على الجيش، وكقول العرب: ضربة لازم، ويقال: ضرب الحاكم على اليد، وضرب الدهر ضرباته، أي ألزم إلزاماته، وقيل: معناه الإحاطة بهم والاشتمال عليهم مأخوذ من ضرب القباب. ومنه قول الفرزدق: ضربت عليك العنكبوت بنسجها *** وقضى عليك بها الكتاب المنزل وقيل: معناه التصقت بهم، من ضربت الحائط بالطين: ألصقته به. وقيل: معناه جعلت من ضربت الطين خزفاً، أي جعلت عليهم الذلة والمسكنة. أما الذلة فقيل: هي هوانهم بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدّونها عن يد وهم صاغرون، وقيل: هي ما ألزموا به من إظهار الزيّ ليعلم أنهم يهود، ولا يلتبسوا بالمسلمين، وقيل: فقر النفس وشحها، فلا ترى ملة من الملل أذل وأحرص من اليهود. وأما المسكنة: فالخشوع، فلا يرى يهودي إلا وهو بادي الخشوع، أو الخراج، وهو الجزية، قاله الحسن وقتادة، أو الفاقة والحاجة، قاله أبو العالية، أو ما يظهرونه من سوء حالهم مخافة أن تضاعف عليهم الجزية، أو الضعف، فتراه ساكن الحركات قليل النهوض. واستبعد صاحب المنتخب قول من فسر الذلة بالجزية، لأن الجزية لم تكن مضروبة عليهم من أول أمرهم. وقيل: هو من المعجزات، لأنه أخبر عنه صلى الله عليه وسلم. فكان كما أخبر، والمضروب عليهم الذلة والمسكنة اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله الجمهور، أو الذين كفروا بآيات الله وقتلوا الأنبياء بغير حق. والقائلون: {أدع لنا ربك} ومن تابعهم من أبنائهم أقوال ثلاثة. {وباؤا بغضب من الله}: تقدم تفسيره باء، فعلى من قال: باء: رجع، تكون الباء للحال، أي مصحوبين بغضب، ومن قال: استحق، فالباء صلة نحو: لا يقرأن بالسور: أي استحقوا غضباً، ومن قال: نزل وتمكن أو تساووا، والباء ظرفية، فعلى القول الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق، وعلى الثالث بنفس باء. وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب، فعلى هذا تتعلق بباء، ويكون مفعول باء محذوفاً، أي استحقوا العذاب بسبب غضب الله عليهم. وباء يستعمل في الخير: {لنبوئنهم من الجنة غُرَفاً} {ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق} {نتبوأ من الجنة حيث نشاء} وفي الشر: {وباؤا بغضب من الله} {أن تبوأ بإثمي وإثمك} {فباؤا بغضب على غضب} وقد جاء استعمال المعنيين في الحديث: «أبوء بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي» وقال بعض الناس: باء لا تجيء إلا في الشر. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو ما يحل بهم من العذاب في الآخرة. ويكون باؤوا في معنى يبوؤون، نحو {أزفت الآزفة} {اقتربت الساعة} {من الله} يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤوا إذا كان باء بمعنى رجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف ويكون في موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن، ويبعد الوجه الأول، وفي وصف الغضب بكونه من الله تعظيم للغضب، وتفخيم لشأنه. {ذلك بأنهم} الإشارة إلى المباءة بالغضب، أو المباءة. والضرب وهو مبتدأ، والجار والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم. {كانوا يكفرون بآيات الله}: الآيات المعجزات التسع وغيرها التي أتى بها موسى، أو التوراة، أو آيات منها، كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فيها الرّجم، أو القرآن، أو جميع آيات الله المنزلة على الرسل، أقوال خمسة، وإضافة الآيات إلى الله لأنها من عنده تعالى. {ويقتلون النبيين}: قتلوا يحيى وشعيا وزكريا. وروي عن ابن مسعود قتل بنو إسرائيل سبعين نبياً، وفي رواية ثلاثمائة نبي في أول النهار، وقامت سوق قتلهم في آخره. وعلى هذا يتوجه قراءة من قرأ: يقتلون بالتشديد لظهور المبالغة في القتل، وهي قراءة علي. وقرأ الحسن: وتقتلون بالتاء، فيكون ذلك من الالتفات. وروي عنه بالياء كالجماعة، ولا فرق في الدلالة بين النبيين والأنبياء، لأن الجمعين إذا دخلت عليهما أل تساويا بخلاف حالهما إذا كانا نكرتين، لأن جمع السلامة إذ ذاك ظاهر في القلة، وجمع التكسير على أفعلاء ظاهر في الكثرة. وقرأ نافع: بهمز النبيين والنبئ والأنبياء والنبوءة، إلا أن قالون أبدل وأدغم في الأحزاب في: {إن وهبت نفسها للنبي} إن أراد وفي {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن} في الوصل. وقرأ الجمهور بغير همز، وقد تقدّم الكلام عليه في المفردات. {بغير الحق}: متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل: ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا الوجهين هو توكيد، ولم يرد هذا على أن قتل النبيين ينقسم إلى قتل بحق وقتل بغير حق، بل ما وقع من قتلهم إنما وقع بغير حق، لأن النبي معصوم من أن يأتي أمراً يستحق عليه فيه القتل، وإنما جاء هذا القيد على سبيل التشنيع لقتلهم، والتقبيح لفعلهم مع أنبيائهم، أي بغير الحق عندهم، أي لم يدّعوا في قتلهم وجهاً يستحقون به القتل عندهم. وقيل: جاء ذلك على سبيل التأكيد كقوله: {ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق، ولم يأت نبي قط بما يوجب قتله، وإنما قتل منهم من قتل كراهة له وزيادة في منزلته. قال ابن عباس وغيره: لم يقتل نبي قط من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر. قيل: وعرّف الحق هنا لأنه أشير به إلى المعهود في قوله عليه السلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» وأما المنكر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا ما يعرفه المسلمون ولا غيره. {ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}، ذلك: رد على الأول وتكرير له، فأشير به لما أشير بذلك الأول، ويجوز أن تكون إشارة إلى الكفر والقتل المذكورين، فلا يكون تكريراً ولا توكيداً، ومعناه: أن الذي حملهم على جحود آيات الله وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم، فجسرهم هذا على ذلك، إذا المعاصي يريد الكفر. {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم} وقولهم {قلوبنا غلف بل طبع الله عليهم بكفرهم} وقد تقدّم تفسير العصيان والاعتداء لغة، وقد فسر الاعتداء هنا أنه تجاوزهم ما حدّ الله لهم من الحق إلى الباطل. وقيل: التمادي على المخالفة وقتل الأنبياء. وقيل: العصيان بنقض العهد والاعتداء بكثرة قتل الأنبياء. وقيل: الاعتداء بسبب المخالفة والإقامة على ذلك الزمن الطويل أثر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسائة سنة حين كثر فيهم أولاد السبايا، واختلفوا بعد عيسى بمائة سنة». وقيل: هو الاعتداء في السبت، قال تعالى: {وقلنا لهم لا تعدوا في السبت} وما: في قوله {بما عصوا} مصدرية، أي ذلك بعصيانهم، ولم يعطف الاعتداء على العصيان لئلا يفوت تناسب مقاطع الآي، وليدل على أن الاعتداء صار كالشيء الصادر منهم دائماً. ولما ذكر تعالى حلول العقوبة بهم من ضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وبين علة ذلك، فبدأ بأعظم الأسباب في ذلك، وهو كفرهم بآيات الله.. ثم ثنى بما يتلو ذلك في العظم وهو قتل الأنبياء، ثم أعقب ذلك بما يكون من المعاصي، وما يتعدى من الظلم. قال معنى هذا صاحب المنتخب، ويظهر أن قوله ذلك بأنهم كانوا يكفرون ويقتلون، تعليل لضرب الذلة والمسكنة والمباءة بالغضب، وأن الإشارة بقوله {ذلك بما عصوا} إشارة إلى الكفر والقتل، وبما تعليل لهما فيعود العصيان إلى الكفر، ويعود الاعتداء إلى القتل، فيكون قد ذكر شيئين وقابلهما بشيئين. كما ذكر أولاً شيئين وهما: الضرب والمباءة، وقابلهما بشيئين وهما: الكفر والقتل، فجاء هذا لفاً ونشراً في المؤمنين، وذلك من محاسن الكلام وجودة تركيبه، ويخرج بذلك عن التأكيد الذي لا يصار إليه إلا عند الحاجة، وذلك بأن يكون الكلام يبعد أن يحمل على التأسيس. وقد تضمنت هذه الآيات من لطائف الامتنان وغرائب الإحسان لبني إسرائيل فصولاً، منها: أنهم أمروا بدخول القرية التي بها يتحصنون، والأكل من ثمراتها ما يشتهون، ثم كلفوا النزر من العمل والقول، وهو دخول بابها ساجدين، ونطقهم بلفظة واحدة تائبين، ورتب على هذا النزر غفران جرائمهم العظيمة وخطاياهم الجسيمة، فخالفوا في الأمرين فعلاً وقولاً، جرياً على عادتهم في عدم الامتثال، فعاقبهم على ذلك بأشد النكال. ثم ذكر تعالى ما كان عليه موسى عليه السلام من العطف عليهم وسؤال الخير لهم، وذلك بأن دعا الله لهم بالسقيا، فأحاله على فعل نفسه بأن أنشأ لهم، من قرع الصفا بالعصا، عيوناً يجري بها ما يكفيهم من الماء، معيناً على الوصف الذي ذكره تعالى من كون تلك العيون على عدد الأسباط، حتى لا يقع منهم مشاحة ولا مغالبة، وأعلمهم بأن ذلك منه رزق، وأمروا بالأكل منه والشرب، ثم نهوا عن الفساد، إذ هو سبب لقطع الرزق. ثم ذكر تعالى تبرمهم من الرزق الذي امتن به عليهم، فلجوا في طلب ما كان مألوفهم إلى نبيهم فقالوا: {ادع لنا ربك}، وذلك جري على عادته معهم، إذ كان يناجي ربه فيما كان عائداً عليهم بصلاح دينهم ودنياهم، وذكر توبيخه لهم على ما سألوه من استبدال الخسيس بالنفيس، وبما لا نصب في اكتسابه ما فيه العناء الشاق، إذ ما طلبوه يحتاج إلى استفراغ أوقاتهم المعدة لعبادة ربهم في تحصيله، ومع ذلك فصارت أغذية مضرة مؤذية جالبة أخلاطاً رديئة، ينشأ عنها طمس أنوار الأبصار والبصائر، بخلاف ما رزقهم الله، إذ هو شيء واحد جيد، ينشأ عنه صحة البدن وجودة الإدراك. كان الخليل بن أحمد، رحمه الله، يستف دقيق الشعير، ويشرب عليه الماء العذب، وكان ذهنه أشرق أذهان أهل زمانه، وكان قوي البدن يغزو سنة ويحج أخرى. ثم أمروا بالحلول فيما فيه مطلبهم والهبوط إلى معدن ما سألوه، ثم أخبر تعالى بما عاقبهم به من جعلهم أذلاء مساكين ومبائتهم بغضبه، وإن ذلك متسبب عن كفرهم بالآيات التي هي سبب الإيمان، لما احتوت عليه من الخوارق التي أعجزت الإنس والجان، وعن قتلهم من كان سبباً لهدايتهم، وهم الأنبياء، إذ باتباعهم يحصل العز في الدنيا والفوز في الأخرى، وأن الذي جرّ الكفر والقتل إليهم هو العصيان والاعتداء اللذان كانا سبقاً منهم قبل تعاطي الكفر والقتل. إن الأمور صغيرها *** مما يهيج له العظيم وقال: والشر تحقره وقد ينمى...
|