الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة قول العالم لا أدري فيما لا يدري: قال محمد بن رشد: كان يلزم العالم أن يقول لا أدري إذا سئل عما لا يدرى، فإن الذي يجهل من العلم أكثر من الذي يدري. قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85]. ولا ينبغي أن يتكلم في شيء من العلم إلا بعد روية وتدبر. وقد قال بعض العلماء: إذا علمت فقل، وما أستؤثر عليك بعلمه فكله إلى عالمه، وبالله التوفيق. .مسألة العزلة عن الناس وكراهة الدخول في الفتن: قال محمد بن رشد: أبو الجهيم هذا هو، والله أعلم، أبو الجهيم أيضا من الصحابة. روي عنه أنه قال: «أقبل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نحو بئر حمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا حتى أتى على جدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد السلام عليه». ويحتمل أن يكون أبا جهيم عبد الله بن جهيم الذي روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في «المار بين يدي المصلي أنه لو علم ما عليه في المرور بين يديه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه». وعبد الله بن عمرو بن العاص مشهور من فضلاء الصحابة وعلمائهم، قرأ الكتب واستأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن يكتب حديثه فأذن له، «قال: يا رسول الله، أكتب كما أسمع منك في الرضا والغضب، قال: نعم فإني لا أقول إلا حقا». وقال أبو هريرة: ما كان أحد أحفظ لحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب. وكان يسرد الصوم ولا ينام من الليل فشكاه أبوه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن لعينك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا قم ونم وصم وأفطر صم ثلاثة أيام من كل شهر فإنه صوم الدهر. قال: إني أطيق أكثر من ذلك، فلم يزل يراجعه في الصيام حتى قال له لا صومَ أفضلُ من صومِ داوودَ كان يصوم يوما ويفطر يوما». فتمادى على ذلك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ونازل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة القرآن من شهر إلى سبع وراجعه في ذلك بقوله: إني أطيق أكثر من ذلك، حتى قال له: لا تقرأه في أقل من سبع وبعضهم يقول في أقل من خمس. والذي عتب عليه فيه أبو جهيم وحلف من أجله ألا يكلمه شهوده صفين مع معاوية. وقد اعتذر من ذلك وأقسم أنه لم يرم فيها برمح ولا سهم، وأنه إنما شهدها لعزم أبيه عليه في ذلك، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: «أطع أباك». وروي عنه أنه يقول: ما لي ولصفين، ما لي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني لم أحضر شيئا منها، وأستغفر الله عز وجل من ذلك وأتوب إليه، إلا أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ فندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية، وجعل يستغفر الله من ذلك ويتوب إليه، ولم يدخل فيما دخل إليه من ذلك إلا وهو يرى باجتهاده أنه سائغ له، ثم رأى البصيرة في خلاف ذلك فندم واستغفر الله مخافة أن يكون قصر في الاجتهاد، فهو محمود في كلتا الحالتين إن شاء الله. وقد مضى هذا بمعناه في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن عبد الله بن عمر: قال محمد بن رشد: هذا بين من تواضع عبد الله بن عمر وفضله وتركه لسير الملوك المترفين في الدنيا، وبالله التوفيق. .مسألة في التلطف في سؤال العالم ومن المتظاهرتين على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أزواجه: قال محمد بن رشد: كانت حفصة مصافية لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وكانتا متظاهرتين متعاونتين على نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء عن ابن عباس أنه قال: «كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع نسوة ولكل واحدة منهن بيت وحجرة، ولكل امرأة منهن يوم وليلة من نفسه». فلما كان يوم عائشة الذي يأتيها فيه زارت حفصة أباها عمر رَحِمَهُ اللَّهُ فاغتنم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلوة بيتها فدعا جاريته مارية القبطية إلى بيت حفصة. فلما جاءت حفصة أبصرت بابها مغلقا فأحست أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فجلست حتى فتح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الباب، فقالت: قد عرفت من معك، فقال لها لتكتمن علي، فقالت: نعم، قال: فإنها علي حرام، يعني مارية، وأخبرك أن أبا بكر سيملك أمر أمتي من بعدي، وأن أباك من بعده، فانطلقت إلى عائشة فأخبرتها بما استكتمها، ونزل جبريل عَلَيْهِ السَّلَامُ فأخبره بذلك، فغضب عَلَيْهِ السَّلَامُ، فلما أتته عرفها ما فعلت، فقالت يا رسول الله من أنبأك أني قلت هذا لعائشة؟ قال أنبأني العليم الخبير. فأتته عائشة فقالت: يا رسول الله هذا فعلت في يومي، فأما أيام نسائك فتتمها، فقال عَلَيْهِ السَّلَامُ: من أخبرك بهذا؟ قالت: حفصة، فطلق حفصة تطليقة واعتزل نساءه في مشربة مارية، فمكث تسعة وعشرين يوما ينتظر ما ينزل فيهم، وماج الناس في ذلك، وأتى عبد الله بن عمر أخته فوجدها تلطم وجهها، فقال لها مالك؟ فقالت: طلقني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع إلى أبيه فأخبره بذلك. فلما مضت تسع وعشرون ليلة نزلت هذه الآيات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، أي من نكاح مارية، {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] الآية. وكذلك روى قتادة أنه قال: حرم جاريته فكانت يمينا. وقال بعضهم: حلف وحرم، وقال إسماعيل فقد يمكن أن يكون حرمها بيمين بالله. وروي أنه حرمها، فقالت: يا رسول الله، كيف تحرم عليك الحلال؟ فحلف بالله ألا يصيبها. وجاء في التفسير عن عبد الله بن عتبة وابن أبي مليكة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب عسلا عند زينب بنت جحش، فأجمعت عائشة وحفصة- رحمهما الله- أن تقولا له إنا نشم عليك ريح المغافير. والمغافير: صمغ متغير الرائحة، ويقال إنها بقلة، واحدها مُغْفور- مضموم الميم- فلما صار إلى كل واحدة منهما قالت له: إني أشم منك ريح المغافير، فحرم النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ شرب العسل، وقيل: إنه حلف على ذلك. ولعل القصتين جميعا قد كانتا، إلا أن أمر الجارية أشبه، لقوله سبحانه: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] ولقوله عز وجل: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] فكان ذلك في الأمة أشبه، لأن الرجل يغشى أمته في سر ولا يشرب العسل في سر، وفي تحريم الأمة مرضاة لهن. وفي الصحيح من الحديث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطلق واحدة من نسائه، «وأن عمر بن الخطاب لما قيل له إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلق نساءه دخل على حفصة فإذا هي تبكي، فقال: أطلقكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: لا أدري، وهو ذا معتزل في هذه المشربة، فاستأذن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في الحجرة، قال فقلت: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ قال: لا» وكان أقسم ألا يدخل على نسائه شهرا، فعاتبه الله عز وجل في ذلك وجعل له كفارة في حديث طويل من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب، قال الزهري: فأخبرني عروة «عن عائشة قالت: فلما مضت تسع وعشرون دخل علي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عائشة إني ذاكر لك شيئا فلا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: ثم قرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} [الأحزاب: 28] الآية، فقلت: أفي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة». وفي حديث آخر أنها قالت له: «يا رسول الله، لا تخبر أزواجك أني أخبرتك فقال عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنما بعثني الله معلما ولم يبعثني معنتا» وبالله التوفيق. .مسألة أحكام التناجي: قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله، إنما نهي الثلاثة أن يتناجى اثنان منهم دون الواحد من أجل أن ذلك يحزنه على ما جاء في حديث ابن مسعود، ويحزنه ويسوؤه على ما جاء في حديث ابن عمر. فإذا تناجى الجماعة دون الواحد كان ذلك على الواحد أشد في الإساءة والحزن وأبين في سوء الأدب معه وقلة المراعاة له. وقد روي أن عبد الله بن عمر حدث أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث» فقيل له فإن كانوا أربعة قال: لا بأس بذلك، معناه لا بأس أن يتناجى الاثنان منهم دون الاثنين وإن كان الاثنان لا يتناجيان. وأما أن يتناجى منهم الثلاثة دون الواحد فلا يجوز لوجود معنى الكراهية في ذلك التي من أجلها كان النهي. وقد قيل إن ذلك إنما يكره في السفر وحيث لا يعرف المتناجيان ولا يوثق بهما ويخشى الغدرة منهما. ومن حجة من ذهب إلى ذلك ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان دون صاحبهما» وهذا لا حجة فيه، إذ ليس في النهي عن ذلك في السفر ما يدل على إباحته في الحضر، فالصواب أن تحمل الأحاديث التي ليس فيها ذكر السفر على عمومها في السفر والحضر. ويحتمل حديث عبد الله بن عمر الذي فيه ذكر السفر على تأكيد النهي عن ذلك في السفر، بدليل قوله فيه: لا يحل. فإذا خشي المتناجيان دون صاحبهما أن يظن بهما أو يخشى منهما أنهما يتناجيان في غدره فلا يحل لهما أن يتناجيا دونه، كان ذلك في السفر أو في الحضر. وإذا أمن ذلك فهو مكروه لهما من أجل أن ذلك يحزنه ويسوؤه، كان ذلك أيضا في السفر أو الحضر، وبالله التوفيق. .مسألة وصية لقمان لابنه: قال محمد بن رشد: قد تقدم قبل هذا من وصيته مثل هذا، فمن الحظ لكل مسلم الأخذ بوصيته والمحافظة عليها. .مسألة كراهة سفر المرأة مع غير ذي محرم منها: قال محمد بن رشد: قوله: إن ذلك ليكره لفظ وقع منه على سبيل التجاوز، بل لا يحل ذلك لها ولا يجوز، لورود النص في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من رواية أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها». واختلف أهل العلم في المرأة الصرورة إذا لم يكن لها زوج يحج بها ولا ذو محرم تحج معه هل يسقط عنها فرض الحج أم لا؟ فذهب مالك إلى أنه لا يسقط عنها وتخرج في جماعة من النساء وناس من المؤمنين لا تخافهم على نفسها، بدليل إجماعهم على أنها إذا أسلمت في بلد الحرب تجب عليها الهجرة إلى بلد الإسلام وإن لم يكن معها ذو محرم، فهذا مخصوص من عموم قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإجماع، وحجها مع غير ذي محرم إذا لم يكن لها ذو محرم تحج معه مخصوص بالقياس على ما أجمعوا عليه، وذلك صحيح. وخالفه في ذلك أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فقالوا: يسقط الفرض عنها بعدم ذي المحرم. وقد اختلف في حد السفر الذي لا يجوز للمرأة أن تسافر إلا مع ذي محرم، فقيل البريد فما فوقه، وقيل اليوم، وقيل يوم وليلة، وقيل ليلتان، وقيل ثلاثة أيام، وأتت بذلك كله عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآثار. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية أبي هريرة أنه قال: «لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم» فتعلق قوم بعموم هذا الحديث فقالوا: لا تسافر المرأة سفرا قريبا ولا بعيدا إلا مع ذي محرم منها، وبالله التوفيق. .مسألة طرح البرغوث والقملة في النار: قال محمد بن رشد: قد مضى مثل هذا قبل هذا والتكلم عليه فأغنى ذلك عن إعادته، وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن عيسى ابن مريم: قال محمد بن رشد: هو كما قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ بدليل ما جاء في كتاب الله عز وجل من صفتهم، قال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] الآية. وقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، أي خيارا عدولا، وقال عز وجل لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ولا يؤمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يشاور إلا أولي العلم والنهى والديانة والفضل، وبالله التوفيق. .مسألة صفة أرباب العلم: قال محمد بن رشد: قوله: إن أرباب العلم هم الذين يعملون بما يعلمون صحيح بين في المعنى، لأن من لم يعمل بما علم لم ينتفع بعلمه وهو في التمثيل كرجل بيده مال لغيره أذن له في إنفاقه فلا يقال فيه إنه ربه إذ لا ينتفع بشيء منه. وقد جاء في الحديث: «من شر الناس منزلة يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه» لأن علمه يكون عليه حسرة وندامة. وأما قوله: إن الطمع ينفيه من صدورهم، فمعناه أن الحرص على بلوغ شهوات الدنيا يدخلهم في المكروه فيذهلون به عن التوقي مما يجب عليهم التوقي منه، فإنه ينفي عن صدورهم بالطمع استعمال العلم لا العلم، فهو مجاز من القول. وقد مضى هذا في رسم المحرم من سماع ابن القاسم. وبالله التوفيق. .مسألة التحدث بالأحاديث المختلفة: قال محمد بن رشد: يريد بحديثين مختلفين لا يمكن الجمع بينهما ولا ينسخ أحدهما بالآخر، لأن ما هذا سبيله من الأحاديث فالأصح في النقل منهما هو الذي يجب أن يحدث به وبالله التوفيق. .مسألة ترك إحفاء الشوارب: قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم سئل عن تأخير صلاة العشاء في الحرس من سماع ابن القاسم فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وبالله التوفيق. .مسألة السفر في طلب العلم: قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على السفر في طلب العلم في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، ومضى القول فيه أيضا في قراءة القرآن على كل حال، وبالله التوفيق. .مسألة العلم يذهب بذهاب العلماء: قال محمد بن رشد: هذا مما أخبر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيكون فكان على ما أخبر، والله ولي العصمة والتوفيق برحمته. .مسألة يخرج بالشيء إلى المسكين فلا يجد: قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم سأل تأخير صلاة العشاء في الحرس فأغنى ذلك عن إعادته هنا؟ وبالله التوفيق لا شريك له. .مسألة التحذير من اتباع الهوى والزيغ البعيد: قال محمد بن رشد: إنما حذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من اتباع الهوى لقول الله عز وجل: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] الزيغ البعيد هو الإغراق في القياس والغلو في الدين، وكلاهما مذمومان لأنك لا تكاد تجد الإغراق في القياس إلا مخالفا للسنة، والغلو في الدين منهي عنه، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77]. وقد مضى هذا في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن عمر بن عبد العزيز: قال محمد بن رشد: إنما قال، والله أعلم، لست بمبتدع ولكني متبع جوابا لمن سأله الحكم بخلاف ما مضى عليه العمل. ومعنى قوله لست بقاض ولكني منفذ، أي لست أقضي بحكمي وإنما أنفذ ما أمرني به ربي في كتابه وعلى لسان رسوله عَلَيْهِ السَّلَامُ. وقوله: لست بخير من أحدكم إلا أني أثقلكم حملا تواضع منه وفضل رَحِمَهُ اللَّهُ وبه التوفيق. .مسألة وصية لقمان لابنه: قال محمد بن رشد: وصيته هذه لابنه مثل ما أمر الله تعالى بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقيل: إن هذه الآية ناسخة لقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102]، وقيل: إنها ليست بناسخة لها وإنما هي مبينة لمعناها، لأن تقوى الله حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وبالله التوفيق. .مسألة حكاية عن عمر بن عبد العزيز: قال محمد بن رشد: هذا كله بين في فضل عمر بن عبد العزيز وتواضعه، إذ لم ينكر على زياد ترك تخصيصه بالسلام وتسميته إياه بما خصه الله به من الإمارة على العادة في ذلك، وزهده في الدنيا وتقلله منها، بدليل ما أمر به لبنيه من الطيقان وأقداح الفخار، وبالله التوفيق. .مسألة التسمي بياسين: قال محمد بن رشد: قيل في ياسين إنه اسم من أسماء الله عز وجل وإنه أقسم به وبالقرآن الحكيم، وقيل إنه اسم من أسماء القرآن أقسم الله به أيضا. على هذين القولين لا يجوز لأحد أن يتسمى بياسين. وروي عن ابن عباس أنه قال: معنى ياسين يا إنسان بالحبشية، فعلى هذا يجوز أن يتسمى الرجل بياسين. وقال مجاهد هو مفتاح افتتح الله عز وجل به كلامه، فعلى هذا تجوز التسمية به أيضا. ولهذا الاختلاف الحاصل في ياسين كره مالك لأحد أن يتسمى به، وبالله التوفيق. .مسألة المرأة تموت بجمع: قال محمد بن رشد: المرأة تموت بجمع هي أحد الشهداء السبعة سوى المقتول في سبيل الله، على ما جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك. واختلف في المرأة تموت بجمع: فقيل هي المرأة تموت وولدها في بطنها على ما قاله مالك وهو المشهور من الأقوال، وقيل هي المرأة البكر التي تموت قبل أن تطمث، وقيل هي المرأة التي تموت بالمزدلفة حاجة، لأن جمعا من أسماء المزدلفة، وبالله التوفيق. .مسألة تفسير الأب وإرم ذات العماد: ما الأب؟ فقال هذا لعمر الله التكلف، وقال يقال: إن إرم ذات العماد هي دمشق. قال محمد بن رشد: الذي قيل في الأب أنه ما تأكله البهائم من العشب والنبات، والفاكهة ما يأكله الناس من ثمر الأشجار كلها: النخل والرمان وغيرهما من الأشجار. وذهب أبو حنيفة إلى أن الرطب والرمان ليسا من الفاكهة، واحتج بقول الله عز وجل: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68]، ولا حجة له في ذلك، لأنه إنما أعيد ذكرهما وإن كانا من الفاكهة تأكيدا لهما لشرفهما على سائر الفواكه، مثل قوله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فأعاد ذكر جبريل وميكائيل وإن كانا من الملائكة تأكيدا لهما. وأما قوله في إرم ذات العماد إنه يقال إنها دمشق، ففي ذلك اختلاف كثير: قيل في إرم إنها اسم بلد، فقال قوم: هي الإسكندرية، وقال قوم: هي دمشق، وقيل بل إرم أمة، وقيل بل هي قبيلة من عاد، وقيل بل إرم اسم رجل هو جد عاد فعاد هو عاد بن عوص ابن إرم؛ وقيل بل هو أبوه فهو عاد بن إرم. وقال الفضل: أكثر الكوفيين لا يجوز أن يكون إرم اسما لأرض ولا لمدينة من جهة إجماعهم على صرف عاد، فلا تكون الأرض ولا المدينة نعتا للإنسان ولا لقبيلة، ولا يجوز أن ينسب إليها وهو منون. قال: وأيضا فإن كانت دمشق فمحال أن لا يكون في البلاد مدن مثلها، وإن كانت أرض فمحال أن تكون أرض ليس مثلها أرض في البلاد. والذي أراه، والله أعلم، أن إرم جد عاد كان شديدا فتشبهوا به فصار إرم نعتا لهم كاللقب، كما يقال: زيد أسد وعمرو نعجة. ومعنى ذات العماد أنهم كانوا أهل عمود أي أخبية وماشية، فإذا كان الربيع انتجعوا، وإذا هاجت الأرض وجف العشب رجعوا إلى منازلهم. والعماد جمع عمد، وعمد جمع عمود. وقيل معنى ذات العماد أي ذات العدة وكانوا أعطوا بسطة في الخلق لم يعطها غيرهم: كان الرجل منهم في غاية القوة وكان أطولهم ستين ذراعا وأقصرهم اثني عشر ذراعا. وقال بعض نقلة الأخبار إنه كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستون ذراعا، وجلهم ما بين المائة إلى الثمانين. وقوله: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر: 8] على هذا القول راجع إلى القبيلة لما كان فيهم من الشدة وعظم الخلق. قال أبو جعفر الطبري: ومن ذهب إلى أن إرم اسم لبلدتهم وقال: إن الهاء في مثلها لذات العماد فقد غلط، لأن العماد واحد مذكر، والتي للأنثى، ولا يوصف المذكر بالتي، ولو كان ذلك من صفة العماد لقيل الذي لم يخلق مثلها في البلاد، وبالله التوفيق.
|