الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)} جملة معترضة بين جملة: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب} [البقرة: 145] الخ، وبين جملة: {ولكل وجهةٌ} [البقرة: 148] الخ اعتراضَ استطرادٍ بمناسبة ذكر مطاعن أهل الكتاب في القبلة الإسلامية، فإن طعنهم كان عن مكابرة مع علمهم بأن القبلة الإسلامية حق كما دلّ عليه قوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} [البقرة: 144]، فاستُطرد بأن طعنهم في القبلة الإسلامية ما هو إلاّ من مجموع طَعنهم في الإسلام وفي النبي صلى الله عليه وسلم والدليلُ على الاستطراد قوله بعده: {ولكل وجهةٌ هو موليها} [البقرة: 148]، فقد عاد الكلام إلى استقبال القبلة. فالضمير المنصوب في {يَعْرِفُونه} لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريراً لمضمون قوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم}، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعادٍ مناسببٍ لضمير الغيبة، لكنه قد علم من الكلام السابق وتكرر خطابه فيه من قوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} [البقرة: 143]، وقوله: {قد نرى تقلب وجهك} [البقرة: 144]، وقوله: {فلنولينك قبلة} [البقرة: 144]، وقوله: {فول وجهك} [البقرة: 144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صِدْقَهُ، وإما أن يعود إلى {الحق في قوله السابق: ليكتمون الحق} فيشمل رسالة الرسول وجميعَ ما جاء به، وإما إلى العلم في قوله: {من بعد ما جاءك من العلم} [البقرة: 145]. والتشبيه في قوله: {كما يعرفون أبناءهم} تشبيه في جلاء المعرفة وتحققها فإن معرفة المرء بعلائِقه معرفة لا تقبل اللبس، كما قال زهير: فهن ووادي الرس كاليد للفم *** تشبيهاً لشدة القرب البيّن. وخص الأبناء لشدة تعلق الآباء بهم فيكون التملي من رؤيتهم كثيراً فتتمكن معرفتهم فمعرفة هذا الحق ثابتة لجميع علمائهم. وعدل عن أن يقال يعلمونه إلى {يعرفونه} لأن المعرفة تتعلق غالباً بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين: 24] وقال زهير: فَلأْياً عَرَفْتُ الدَّار بعد توهم وتقول عرفت فلاناً ولا تقول عرفت عِلْم فلان، إلاّ إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تُعدى أفعال الظن والعلم، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا، فالمعنى يعرفون الصفات الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاماته المذكورة في كتبهم، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد. والمراد بقوله: {الذين أتيناهم الكتاب} أحبارُ اليهود والنصارى ولذلك عُرِّفوا بأنهم أوتوا الكتاب أي علموا علم التوراة وعلم الإنجيل. وقوله: {وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} تخصيص لبعض الذين أوتوا الكتاب بالعناد في أمر القبلة وفي غيره مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وذم لهم بأنهم يكتموددن الحق وهم يعلمونه وهؤلاء مُعظم الذين أوتوا الكتاب قبل ابن صُوريا وكعب بن الأَشْرف فبقي فريق آخر يعلمون الحق ويعلنون به وهم الذين آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام من اليهود قبل عبد الله بن سَلاَم، ومن النصارى مثل تميم الدَّاري وصهيب. أما الذين لا يعلمون الحق فضلاً عن أن يكتموه فلا يعبأ بهم في هذا المقام ولم يدخلوا في قوله: {الذين أتيناهم الكتاب} ولا يشملهم قوله: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}.
{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)} تذييل لجملة: {وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق} [البقرة: 146]، على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق، وحَذفُ المسند إليه في مثل هذا مما جرى على متابعة الاستعمال في حذف المسند إليه بعد جريان ما يَدل عليه مِثل قولهم بعد ذكر الديار «رَبْعٌ قَواءٌ» وبعد ذكر الممدوح «فتى» ونحو ذلك كما نبه عليه صاحب «المفتاح». وقوله: {فلا تكونن من الممترين} نهي عن أن يكون من الشاكِّين في ذلك والمقصود من هذا. والتعريف في {الحق} تعريف الجنس كما في قوله: {الحمد لله} [الفاتحة: 2] وقولهم الكرم في العرب هذا التعريف لجزئي الجملة الظاهر والمقدَّر يفيد قصر الحقيقة على الذي يكتمونه وهو قصر قلب أي لا ما يظهرونه من التكذيب وإظهار أن ذلك مخالف للحق. والامتراء افتعال من المِراء وهو الشك، والافتعالُ فيه ليس للمطاوعة ومصدر المِرْية لا يعرف له فعل مجرَّد بل هو دائماً بصيغة الافتعال. والمقصود من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ولئن اتبعت} [البقرة: 120]، وقوله: {فلا تكونن من الممترين} تحذير الأمة وهذه عادة القرآن في كل تحذير مُهِم ليكون خطاب النبي بمثل ذلك وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى وأولاهم بكرامته دليلاً على أن من وقع في مثل ذلك من الأمة قد حقت عليه كلمة العذاب، وليس له من النجاة باب، ويجوز أن يكون الخطاب في قوله: {من ربك} وقوله: {فلا تكونن} خطاباً لغير معيَّن من كل من يصلح ها الخطاب.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} عطف على جملة: {الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146]، فهو من تمام الاعتراض، أو عطف على جملة: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} [البقرة: 145] مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجُمل، ذلك أنه بعد أن لُقِّن الرسول عليه الصلاة والسلام ما يجيب به عن قولهم {مَا وَلاَّهُم عن قبلتهم}، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأَيْأَسَهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طَيَّاً لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة، كما يقال في المخاطبات «دَعْ هذا» أو «عَدِّ عن هذا»، والمعنى أن لكل فريق اتجاهاً من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق. وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله: {فاستبقوا الخيرات}، فقوله: {أين ما تكونوا} في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات. فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخُطب بذكر مقدِّمة ومقْصَد وبياننٍ لَه وتَعْلِيل وتَذْيِيل. و (كل) اسم دال على الإحاطة والشمول، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين كل وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه. وحذف ما أضيف إليه (كل) هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف (أُمَّة) لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى: {أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله} [البقرة: 285] أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى: {ولكل جعلنا مولى} [النساء: 33] في سورة النساء، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة، فالتقدير ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى: {كل له قانتون} [البقرة: 116]. والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فِعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر. وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيهاً بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس، ولفظ {وجهة} في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن، وقريب منه قوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} [المائدة: 48]. وضمير {هو} عائد للمضاف إليه (كُل) المحذوف. والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير هو موليها نفسه أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى: {ما ولاهم عن قبلتهم} [البقرة: 142] والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها. وقراءة الجمهور «موليها» بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر «هو مُوَلاَّها» بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة، وقيل المراد لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم فإنكم على الخيرات، وقيل المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم، فإنكم على الخيرات، وقيل المراد لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة، وقيل المراد لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها. ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها. وقوله: {فاستبقوا الخيرات} تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد. فالمنافسة تكون في مصادفة الحق. والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلاّ أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى: {واستبقا الباب} [يوسف: 25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا. فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات. والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران: 133]، {والسابقون السابقون، أولئك المقربون، في جنات النعيم} [الواقعة: 10 12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد: 10] وقال موسى: {وعجلت إليك رب لترضى} [طه: 84]. وقوله: {أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعاً} جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله، والمعنى فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعاً خيرهم وشرهم و(كان) تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء. والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة. قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك بن مروان: أَتَاكَ بيَ اللَّهُ الذي نَوَّر الهُدَى *** ونُورٌ وإِسْلاَم علَيك دَليل أراد سخرني إليك، وفي الحديث: «اللهم اهْدِ دَوْساً وأْت بها» أي اهدها وقربها للإِسلام ويستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى: {إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله} [لقمان: 16]. وتجيء أقوال في تفطسير {أينما تكونوا} على حسب الأقوال في تفسير {ولكلِّ وجهة} بأن يكون المعنى تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم، لا استقبال الجهات أو المعنى إنكم إنما تستقبلون ما يُذَكِّركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يَعْلم الله ذلك من كل مكان، أو هو ترهيب أي في أيَّة جهة يأتتِ الله بكم فيثيت ويعاقِب، أوْ هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت، إلى غير ذلك من الوجوه. وقوله: {إن الله على كل شيء قدير} تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)} عُطف قولُه: {ومن حيث خرجت} على قوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] عَطْف حكم على حكم من جنسِه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تَهاوُن في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر، فالمراد من {حَيث خرجتَ} من كل مكان خرجتَ مسافراً لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، وفي معظم هاته الآية مع قوله: {وإنه للحق من ربك} زيادةُ اهتمام بأمر القبلة يؤكد قوله في الآية السابقة: {الحق من ربك} [البقرة: 147]. وقوله: {وما الله بغافل عما تعملون} زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة. وقوله بعده: {ومن حيث خرجت} عطف على الجملة التي قبله، وأعيد لفظ الجملة السالِفة ليبنَى عليه التعليل بقوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجةٌ}. وقوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} عطف على قوله: {ومن حيث خرجت} الآية. والمقصد التعميم في هذا الحكم في السفر للمسلمين لئلا يتوهم تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وسلم وحصل من تكرير مُعظم الكلمات تأكيد للحكم ليترتب عليه قوله {لئلا يكون للناس عليكم حجة}. وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبةَ مرتين. وتكرر أنَّه الحقُّ ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريراً للحق في نفوس المسلمين، وزيادةً في الرد على المنكرين التأكيد، من زيادة {ومن حيثُ خرجتَ}، ومن جُمَل معترضة، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال: وهي جملة {وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون الآيات}، وجملة: {وإنه للحق من ربك} وجملة: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} الآيات، وفيه إظهار أحَقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلاّ تصميماً، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقُّق في معنى الكلام. وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حَفَّ به، ما يدفع قليل السآمة العارضةِ لسماع التكرار، فذُكر قوله: {وإنه للحق من ربك وما الله بغافل} الخ، وذُكر قوله: {لئلا يكون للناس} الخ. والضمير في {وإنه للحَق من ربك} راجع إلى مضمون الجملة وهو حكم التحويل فهو راجع إلى ما يؤخذ من المقام، فالضمير هنا كالضمير في قوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} [البقرة: 146]. وقرأ الجمهور {عما تعملُون} بمثناة فوقية على الخطاب، وقرآه أبو عَمْرو بياء الغيبة. وقوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} علة لقوله: {فولوا} الداللِ على طلب الفعل وامتثاله، أي شرعت لكم ذلك لندحض حجة الأمم عليكم، وشأن تعليل صيغ الطلب أن يكون التعليل للطلب باعتبار الإتيان بالفعل المطلوب. فإن مدلول صيغة الطلب هو إيجاد الفعل أو الترك لا الإعلامُ بكون الطالب طالباً وإلاّ لما وجب الامتثال للآمر فيكتفى بحصول سماع الطلب لكن ذلك ليس مقصوداً. والتعريف في (الناس) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبَل قبلة اليهود والنصارى، وأهلَ الكتاب، والحجة أن يقولوا إنَّ محمداً اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه. ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم، أي ليكون هذا الدين مخالفاً في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه. ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فَضُل بها الإسلام غيرَه لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلاّ الذين أوتوا العلم، وعلى هذا يكون قوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} ناظراً إلى قوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق} [البقرة: 144]، وقوله: {الذين آتيناهم الكتاب يعلافونه} [البقرة: 146]. وقد قيل في معنى حجة الناس معاننِ أُخَرُ أَرَاها بعيدة. والحجة في كلام العرب ما يقصد به إثبات المخالف، بحيث لا يجد منه تفصياً، ولذلك يقال للذي غلَب مخالفه بحجته قد حَجَّه، وأما الاحتجاج فهو إتيان المحتج بما يظنه حجة ولو مغالطة يقال احتج ويقال حَاجَّ إذا أتى بما يظنه حجة قال تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} [البقرة: 258]، فالحجة لا تطلق حقيقة إلاّ على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف، وأما إطلاقها على الشبهة فمجاز لأنها تُورَد في صورة الحجة ومنه قوله تعالى: {حجتهم داحضة عند ربهم} [الشورى: 16]، وهذا هو فقه اللغة كما أشار إليه «الكشاف»، وأما ما خالفه من كلام بعض أهل اللغة فهو من تخليط الإطلاق الحقيقي والمجازي، وإنما أرادوا التفصي من ورود الاستثناء وأشكل عليهم الاستثناء لأن المستثنى محكوم عليه بنقيض حكم المستثنى منه عند قاطبة أهل اللسان والعلماء، إلاّ خلافاً لا يلتفت إليه في علم الأصول، فصار هذا الاستثناء مقتضياً أن {الذين ظلموا} لهم عليكم حجة، فأجاب صاحب «الكشاف» بأنه إنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مَساق البرهان أي فاستثناء {الذين ظلموا} يقتضي أنهم يأتون بحجة أي بما يشبه الحجة، فحرف {إلاَّ} يقتضي تقدير لفظ حجة مستعملاً في معناه المجازي، وإطلاق اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ليس ببدع لاسيما مع الإتيان بلفظ يخالف الأول على أنه قد يجعل الاستثناء منقطعاً بمعنى لكن الذين ظلموا يشغبون عليكم فلا تخشوهم. وجملة {ولأتم نعمتي} تعليل ثان لقوله: {فولوا وجوهكم شطره} معطوف على قوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} بذلك الاعتبار الذي بيناه آنفاً وهو أنه تعليل الامتثال فالمعنى أمرتكم بذلك لأتم نعمتي عليكم باستيفاء أسباب ذلك الإتمام ومنها أن تكون قبلتكم إلى أفضل بيت بني لله تعالى، ومعلوم أن تمام النعمة بامتثال ما أمرنا به وجماع ذلك الاستقامة وبها دخول الجنة. وقد روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إتمام النعمة دخول الجنة»، أي غاية إتمام النعمة علينا دخول الجنة ولم يكن ذلك في تفسير هذه الآية ولكنه من جملة معناها () فالمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافراً من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصاً، فهو قريب من قوله تعالى: {فأتمهن} [البقرة: 124] أي امتثلهن امتثالاً تاماً وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضاً آخر، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال. وقوله: {ولعلكم تهتدون} عطف على {ولأتم} أي أمرتكم بذلك رجاء امتثالكم فيحصل الاهتداء منكم إلى الحق. وحرف لعل في قوله: {ولعلكم تهتدون} مجاز في لازم معنى الرجاء وهو قرب ذلك وتوقعه. ومعنى جعل ذلك القرب علة أن استقبالهم الكعبة مؤذن بأنهم يكونون معتدين في سائر أمورهم لأن المبادئ تدل على الغايات فهو كقوله: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً} [البقرة: 143] كما قدمناه وقال حبيب: إِنَّ الهلالَ إذا رأيت نماءه *** أيقنتَ أن سيصيرُ بدراً كاملاً
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)} تشبيهن للعلتين من قوله: {لأتم} [البقرة: 150] وقوله: {ولعلكم تهتدون} [البقرة: 150] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وجعل الإرسال مشبهاً به لأنه أسبق وأظهر تحقيقاً للمشبه أي إن المبادئ دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث «كما صليت على إبراهيم» ونكر (رسول) للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة، فالخطاب في قوله: {فيكم} وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيراً لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولاً بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيراً لهدايتهم، وهذا على نحو دعوة إبراهيم: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} [البقرة: 129] وقد امتن الله على عموم المؤمنين منالعرب وغيرهم بقوله: {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران: 164] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى: ولذلك علق بفعل {أرسلنا} حرفُ فِي ولم يعلَّق به حرف إلى كما في قوله: {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} [المزمل: 15]، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم، والمسلمون يومئذٍ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذٍ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمانَ الفارسي وبلال الحبشي وعبدِ الله بن سَلاَم الإسرائيلي، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده، ويدركون إعجاز القرآن، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم، وهذه المزية ينالها كل من تعلَّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواتراً، ويسهل انتشاره سريعاً. والرسول المُرسَل فهو فَعُول بمعنى المفعول مثل ذَلول، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالى: {فقولا إنا رسول رب العالمين} [الشعراء: 16] في سورة الشعراء. وقوله: {يتلوا عليكم أياتنا} أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولاً آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة، وسماه ثانياً كتاباً باعتبار كونه كتاب شريعة، وقد تقدم نظيره آنفاً عند قوله تعالى: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} [البقرة: 129]. عبر بيتلو لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين. وقوله: {ويزكيكم} الخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالاتتٍ وطهاراتتٍ تعترضُها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تكوين، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات} [التين: 4 6]، وفي الحديث: «بُعثت لأُتمم حُسْن الأخلاق» ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة. وقوله: {ويعلمكم الكتاب والحكمة} أي يعلمكم الشريعة فالكاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزاً ويعلمكم أصولَ الفضائل، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد، وتقدم نظيره في دعوة إبراهيم وسيأتي أيضاً عند قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269] في هذه السورة. وقدمت جملة: {ويزكيكم على جملة: ويعلمكم الكتاب والحكمة هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم: {يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة: 129]، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلاً للبشارة بها. فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج، مع ما في ذلك التخالف من التفنن. وقوله: {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك. وإنما أعاد قوله: {ويعلمكم} مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصاً على المغايرة لئلا يظن أن: {ما لم تكونوا تعلمون} هو الكتاب والحكمة، وتنصيصاً على أن: {ما لم تكونوا} مفعولاً لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبراً له فيضل فهمه في ذلك الترقب، واعلم أأن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامل كان عاطفه عاملاً على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذٍ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل.
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)} الفاء للتفريع عاطفة جملة الأمر بذكر الله وشكره على جمل النعم المتقدمة أي إذ قد أنعمت عليكم بهاته النعم فأنا آمركم بذكري. وقوله: {فاذكروني أذكركم} فعلان مشتقان من الذكر بكسر الذال ومن الذكر بضمها والكل مأمور به لأننا مأمورون بتذكر الله تعالى عند الإقدام على الأفعال لنذكر أوامره ونواهيه قال تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} [آل عمران: 135] وعن عمر بن الخطاب أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، ومأمورون بذكر اسم الله تعالى بألسنتنا في جمل تدل على حمده وتقديسه والدعوة إلى طاعته ونحو ذلك، وفي الحديث القدسي: " وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ". والذكر في قوله: {أذكركم} يجيء على المعنيين، ولا بد من تقدير في قوله: {فاذكروني} على الوجهين لأن الذكر لا يتعلق بذات الله تعالى فالتقدير اذكروا عظمتي وصفاتي وثنائي وما ترتب عليها من الأمر والنهي، أو اذكروا نعمي ومحامدي، وهو تقدير من دلالة الاقتضاء، وأما {أذكركم} فهو مجاز، أي أعاملكم معاملة من ليس بمغفول عنه بزيادة النعم والنصر والعناية في الدنيا، وبالثواب ورفع الدرجات في الآخرة، أو أخلق ما يفهم منه الناس في الملأ الأعلى وفي الأرض فضلكم والرضى عنكم، نحو قوله {كنتم خير أمة} [آل عمران: 110]، وحسن مصيركم في الآخرة، لأن الذكر بمعنييه الحقيقيين مستحيل على الله تعالى. ثم إن تعديته للمفعول أيضاً على طريق دلالة الاقتضاء إذ ليس المراد تذكر الذوات ولا ذكر أسمائها بل المراد تذكر ما ينفعهم إذا وصل إليهم وذكر فضائلهم. وقوله: {واشكروا لي} أمر بالشكر الأعم من الذكر من وجه أو مطلقاً، وتعديته للمفعول باللام هو الأفصح وتسمى هذه اللام لام التبليغ ولام التبيين كما قالوا نصح له ونصحه كقوله تعالى: {فتعساً لهم} [محمد: 8] وقول النابغة: شَكَرتُ لك النُّعْمَى وأثنيتُ جاهداً وعطَّلْتُ أَعراض العُبَيْدِ بننِ عَامر وقوله: {ولا تكفرون} نهي عن الكفران للنعمة، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير. قال ابن عرقة: «ليس عطف قوله: {ولا تكفرون} بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق (أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له) فيصدق بشكره يوماً واحداً فلما قال {ولا تكفرون} أفاد النهي عن الكفر دائماً» اه، يريد لأن الفعل في سياق النهي يعم، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهي أخو النفي.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)} هذه جمل معترضة بين قوله تعالى: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150] وما اتصل به من تعليله بقوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجة} [البقرة: 150] وما عطف عليه من قوله {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] إلى قوله: {واشكروا لي ولا تكفرون} [البقرة: 152] وبين قوله: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب} [البقرة: 177] لأن ذلك وقع تكملة لدفع المطاعن في شأن تحويل القبلة فله أشد اتصال بقوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجةً} المتصل بقوله: {وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره} [البقرة: 150]. وهو اعتراض مُطْنِبٌ ابتُدئ به إعداد المسلمين لما هم أهله من نصر دين الله شكراً له على خَولهم من النعم المعدودة في الآيات السالفة من جعلهم أمة وسطاً وشهداء على الناس، وتفضيلِهم بالتوجه إلى استقبال أفضل بقعة، وتأييدهم بأنهم على الحق في ذلك، وأمْرِهم بالاستخفاففِ بالظالمين وأَنْ لا يخشوهم، وتبْشيرهم بأنه أتم نعمته عليهم وهداهم، وامتن عليهم بأنه أرسل فيهم رسولاً منهم، وهداهم إلى الامتثال للأحكام العظيمة كالشكر والذكر، فإن الشكر والذكر بهما تهيئة النفوس إلى عظيم الأعمال، من أجل ذلك كله أَمرهم هنا بالصبر والصلاة، ونبههم إلى أنهما عون للنفس على عظيم الأعمال، فناسب تعقيبها بها، وأيضاً فإن ما ذكر من قوله: {لئلا يكون للناس عليكم حجةً} مشعر بأن أناساً متصدُّون لشغبهم وتشكيكهم والكيد لهم، فأُمروا بالاستعانة عليهم بالصبر والصلاة. وكلها متماسكة متناسبة الانتقال عدا آية: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى قوله: {شاكر عليم} [البقرة: 158] فسيأتي تبييننا لموقعها. وافتُتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعاراً بخبرٍ مهم عظيم، فإن شأن الأَخبار العظيمة التي تَهُول المخاطبَ أن يقدَّم قبلَها ما يهيءُ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفْجَأَها. وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيُعقب بالنَّدْب إلى عمل عظيم وبلْوى شديدة، وذلك تهيئةٌ للجهاد، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى، فإن ابتداء المغازي كان قُبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بُوَاطَ والعُشَيْرَةِ وبدْرٍ الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال، وكانت بَدْرٌ الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] أن ما وقع في حديث البراء بن عازب من قول الراوي أن ناساً قُتلوا قبل تحويل القبلة، أنه توهم من أحد الرواة عن البراء، فإن أَوَّلَ قَتْل في سبيل الله وقع في غزوة بدر وهي بعد تحويل القبلة بنحو شهرين، والأصح ما في حديث الترمذي عن ابن عباس قال «لما وُجِّه النبي إلى الكعبة قالوا يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس» الحديث فلم يقل: (الذين قتلوا). فالوجه في تفسير هذه الآية أنها تهيئة للمسلمين للصبر على شدائد الحرب، وتحبيبٌ للشهادة إليهم. ولذلك وقع التعبير بالمضارع في قوله: {لمن يقتل في سبيل الله المشعر بأنه أمرٌ مستقبل وهم الذين قتلوا في وقعة بدر بُعَيد نزول هذه الآية. وقد تقدم القول في نظير هذه الآية عند قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلوات وإنها لكبيرة} [البقرة: 45] الآية إلاَّ أنا نقول هنا إن الله تعالى قال لبني إسرائيل: {إنها لكبيرة} علماً منه بضعف عزائمهم عن عظائم الأعمال وقال هنالك {إلاَّ على الخاشعين} ولم يذكر مثل هذا هنا، وفي هذا إيماء إلى أن المسلمين قد يُسر لهم ما يصعب على غيرهم، وأنهم الخاشعون الذين استثناهم الله هنالك، وزاد هنا فقال: {إن الله مع الصابرين} فبشرهم بأنهم ممن يمتثل هذا الأمر ويعد لذلك في زمرة الصابرين. وقوله {إن الله مع الصابرين} تذييل في معنى التعليل أي اصبروا ليكون الله معكم لأنه مع الصابرين. وقوله: {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء} عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكراً عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية، فقوله: {ولا تقولوا} نهي عن القول الناشئ عن اعتقاد، ذلك لأن الإنسان لا يقول إلاّ ما يَعتقد فالمعنى ولا تعتقدوا، والظاهر أن هذا تكميل لقوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] كما تقدَّم من حديث البراء فإنه قال: " قتل أناس قبل تحويل القبلة " فأعقب قوله: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} بأن فضيلة شهادتهم غير منقوصة. وارتفع {أمواتٌ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي لا تقولوا هم أموات. و {بل} للإضراب الإبطالي إبطالاً لمضمون المنهي عن قوله، والتقدير بل هم أحياء، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ، فقوله: «أحْيَآء» هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد {بل} الإضرابية. وإنما قال: {ولكن لا تشعرون} للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة، ولذلك ورد في الحديث " إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها ". والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} عطف: ولنبلونكم وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الاموال والانفس والثمرات} على قوله: {استعينوا بالصبر والصلوات} [البقرة: 153] عَطْفَ المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل، ولك أن تجعل قوله: {ونبلونكم} عطفاً على قوله: {ولأُتم نعمتي عليكم} [البقرة: 150] الآيات ليُعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقيناً بأن اتِّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حُظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده {وبشر الصابرين} وجعل قوله: {يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلوات} [البقرة: 153] الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبراً بقوله: {وبشر الصابرين}. وجيءَ بكلمة (شيءٍ) تهويناً للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قوله: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل: 112] ولذلك جاء هنا بكلمة (شيءٍ) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أن استعار لها اللباس الملازم لللاَّبس، لأن كلمة (شيء) من أسماء الأجناس العالية العامَّة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة (شيء) قبل اسم ذلك الجنس إلاّ لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غَناءَها، فما ذكر كلمة شيء إلاّ والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السّريّ مخاطباً لأبي إسحاق الصابي: فشيئاً من دَممِ العُنْقُو *** دِ أَجعله مكان دَمي () فقول الله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} عُدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسممِ جنسسٍ كما إذا أُتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذٍ يدل على مطلق التنويع نحو قول قُحَيط العِجْلي: فلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللعْنَ فيها *** ومَنْعُكها بشيء يستطاع فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمَعْنًى من المعاني من غلبة أو معازَّةٍ أو فداء أو نحو ذلك اه. وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفاً لدلالة المقام، كقوله تعالى: {فمن عفى له من أخيه شيء} [البقرة: 178] فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر، وقول عمر بن أبي ربيعة: ومِنْ ماليءٍ عينيه من شيءٍ غيرهِ *** إذَا راح نحو الجمرَةِ البيضُ كالدمى أي من محاسن امرأة غير امرأته. وقول أبي حَيَّة النُّمَيْري: إذا ما تقاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌ *** تَقاضَاه شيءٌ لا يَمَلُّ التقاضيا أي شيء من الزمان، ومن ذلك قوله تعالى: {لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً} [آل عمران: 10] أي من الغَنَاء. وكَأَنَّ مراعاة هذين الاستعمالين في كلمة شيء هو الذي دعَا الشيخَ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» إلى الحكم بحسن وقع كلمة شيء في بيت ابن أبي ربيعة وبيتتِ أبي حية النميري، وبِقلَّتها وتضاؤُلها في قول أبي الطيب: لو الفَلكُ الدوَّار أبْغَضْتَ سَعْيَهُ *** لعَوَّقَهُ شيءٌ عن الدَّوَرَانِ لأنها في بيت أبي الطيب لا يتعلق بها معنى التقليل كما هو ظاهر ولا التنويع لقلة جدوى التنويع هنا إذ لا يجهل أحد أن معوِّقَ الفلك لا بد أن يكون شيئاً. والمراد بالخوف والجوع وما عطف عليهما معانيها المتبادرة وهي ما أصاب المسلمين من القلة وتألب المشركين عليهم بعد الهجرة، كما وقع في يوم الأحزاب إذ جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأما الجوع فكما أصابهم من قلة الأزواد في بعض الغزوات، ونقص الأموال ما ينشأ عن قلة العناية بنخيلهم في خروجهم إلى الغزو، ونقص الأنفس يكون بقلة الولادة لبعدهم عن نسائهم كما قال النابغة: شعب العلافيات بين فروجهم *** والمحصنات عوازب الأطهار وكما قال الأعشى يمدح هوذة بن علي صاحب اليمامة بكثرة غزواته: أفى كل عام أنت حاشم غزوة *** تَشُد لأقصاها عزيم عزائكا مورِّثةٍ مالاً وفي المَجْدِ رِفْعَةً *** لما ضاع فيها من قُروء نسائك وكذلك نقص الأنفس بالاستشهاد في سبيل الله، وما يصيبهم في خلال ذلك وفيما بعده من مصائب ترجع إلى هاته الأمور. والكلام على الأموال يأتي عند قوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] في هذه السورة وعند قوله: {إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم} [آل عمران: 10] في سورة آل عمران. وجملة: {وبشر الصابرين} معطوفة على {ولنبلونكم}، والخطاب للرسول عليه السلام بمناسبة أنه ممن شمله قوله: {ولنبلونكم} وهو عطف إنشاء على خبر ولا ضير فيه عند من تحقق أساليب العرب ورأى في كلامهم كثرة عطف الخبر على الإنشاء وعكسه. وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريماً لشأنه، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، فلذلك كان من لطائف القرآن إسنادُ البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول، وإسنادُ البِشارة بالخير الآتي من قِبَل الله إلى الرسول. والكلام على الصبر وفضائله تقدم في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلوات} [البقرة: 45]. ووصفُ الصابرين بأنهم: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا} الخ لإفادة أن صبرهم أكمل الصبر إذ هو صبر مقترن ببصيرة في أمر الله تعالى إذ يعلمون عند المصيبة أنهم مِلْك لله تعالى يتصرف فيهم كيف يشاء فلا يجزعون مما يأتيهم، ويعلمون أنهم صائرون إليه فيثيبهم على ذلك، فالمراد من القول هنا القولُ المطابق للاعتقاد إذ الكلام إنما وُضع للصدق، وإنما يكون ذلك القول معتبراً إذا كان تعبيراً عما في الضمير فليس لمن قال هاته الكلمات بدون اعتقاد لها فضل وإنما هو كالذي ينعق بما لا يَسْمَع، وقد علَّمهم الله هذه الكلمة الجامعة لتكون شعارهم عند المصيبة، لأن الاعتقاد يقوى بالتصريح لأن استحضار النفس للمدرَكات المعنوية ضعيف يحتاج إلى التقوية بشيء من الحِسّ، ولأن في تصريحهم بذلك إعلاناً لهذا الاعتقاد وتعليماً له للناس. والمصيبة يأتي الكلام عليها عند قوله تعالى: {فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي} [النساء: 72] في سورة النساء. والتوكيد بإنّ في قولهم: {إنا لله} لأن المقام مقام اهتمام، ولأنه ينزل المصاب فيه منزلة المنكر كونه مِلْكاً لله تعالى وعبداً له إذ تنسيه المصيبة ذلك ويحول هولها بينه وبين رشده، واللام فيه للملك. والإتيان باسم الإشارة في قوله: {أولئك عليهم صلوات من ربهم} للتنبيه على أن المشار إليه هو ذلك الموصوف بجميع الصفات السابقة على اسم الإشارة، وأن الحكم الذي يرد بعد اسم الإشارة مترتب على تلك الأوصاف مثل: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5] وهذا بيان لجزاء صبرهم. والصلوات هنا مجاز في التزكيات والمغفرات ولذلك عطفت عليها الرحمة التي هي من معاني الصلاة مجازاً في مثل قوله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56]. وحقيقة الصلاة في كلام العرب أنها أقوال تنبئ عن محبة الخير لأحد، ولذلك كان أشهر معانيها هو الدعاء وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {ويقيمون الصلاة} [البقرة: 3] ولأجل ذلك كان إسناد هذا الفعل لمن لا يُطلب الخير إلاّ منه متعيناً للمجاز في لازم المعنى وهو حصول الخير، فكانت الصلاة إذا أسندت إلى الله أو أضيفت إليه دالةً على الرحمة وإيصال ما به النفع من رحمة أو مغفرة أو تزكية. وقوله: {وأولئك هم المهتدون} بيان لفضيلة صفتهم إذا اهتدوا لِمَا هو حقُّ كل عبْد عارف فلم تزعجهم المصائب ولم تكن لهم حاجباً عن التحقق في مقام الصبر، لعلمهم أن الحياة لا تخلو من الأكدار، وأما الذين لم يهتدوا فهم يجعلون المصائب سبباً في اعتراضهم على الله أو كفرهم به أو قول ما لا يليق أو شكهم في صحة ما هم عليه من الإسلام، يقولون لو كان هذا هو الدين المرضيَّ للَّه لما لَحِقَنا عذاب ومصيبة، وهذا شأن أهل الضلال الذين حذَّرنا الله أمْرَهم بقوله: {وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه} [الأعراف: 131] وقال في المنافقين: {وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} [النساء: 78]، والقول الفصل أن جزاء الأعمال يظهر في الآخرة، وأما مصائب الدنيا فمسببة عن أسباب دنيوية، تعرض لعروض سببها، وقد يجعل الله سبب المصيبة عقوبة لعبده في الدنيا على سوء أدب أو نحوه للتخفيف عنه من عذاب الآخرة، وقد تكون لرفع درجات النفس، ولها أحوال ودقائق لا يعلمها إلاّ الله تعالى وقد يطلع عليها العبد إذا راقب نفسه وحاسبها، ولله تعالى في الحالين لُطف ونكاية يظهر أثر أحدهما للعارفين.
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)} هذا كلام وقع معترضاً بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع، كما جاء في حديث عائشة الآتي، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدَها، لأن الحج لم يكن قد فُرِض، وهي من الآيات التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلحاقها ببعض السُّوَر التي نزلت قبل نزولها بمدة، والمناسبةُ بينها وبين ما قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقعُ الاعتراض في أثناء الاعتراض، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم عليه السلام تذكيراً بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جِراباً من تمر وسِقاءً فيه ماء، فلما نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظُر إليه يَتَلَوَّى فانطلقتْ كراهيةَ أن تنظُرَ إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك سَعَى الناسُ بينهما، فسَمِعَت صوتاً فقالت في نفسها صه ثم تسمَّعَتْ فسَمِعَتْ أيضاً فقالت قد أَسْمَعْتَ إن كان عندَكَ غُواث، فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم فبحثَ بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعَتْ ولَدَها»، فيحتمل أن إبراهيم سَعَى بين الصفا والمروة تذكُّراً لشكر النعمة وأمَرَ به إسماعيل، ويحتمل أن إسماعيل ألحقهُ بأفعال الحج، أو أن من جاء من أبنائه فَعَل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة. وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عَمْرو ابن لُحَيَ إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إِسَافاً والآخر يُسمى نَائِلَةَ، كان أحدهما موضوعاً قرب جدارِ الكعبة والآخر موضوعاً قرب زمزم، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم، وكان العرب يذبحون لهما، فلما جَدَّد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثَرَتْها جُرْهُمُ حين خروجِهم من مكة وبنَى سقاية زمزم نقل ذينك الصنمين فوضع إِسافاً على الصفا ونائلةَ على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصناماً صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمُشَلَّللِ قُرْب قُدَيْد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجاً من أن يطوفوا بغير صنمهم، في البخاري فيما علَّقه عن معمر إلى عائشة قالت «كان رجال من الأنصار مِمَّن كان يُهل لمناة قالوا يا نبيء الله كُنا لا نطوف بين الصفا والمروة «تعظيماً لمناة». فلما فتحت مكة وأزيلت الأصنام وأبيح الطواف بالبيت وحج المسلمون مع أبي بكر وسعت قريش بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي بين الصفا والمروة وسأل جمع منهم النبي صلى الله عليه وسلم هل علينا من حرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله هذه الآية. وقد روى مالك رحمهُ الله في «الموطأ» عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال قلت لعائشة وأنا يومئذٍ حديث السن أرأيتتِ قولَ الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، فما على الرجُل شيء أن لا يَطَّوَّف بهما فقالت عائشة كَلاَّ لو كان كما تقول لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، إنما أنزلت هاته الآية في الأنصار كانوا يُهلون لمناة وكانت مناةُ حذوَ قُديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله: {إن الصفا والمروة}» الآية. وفي البخاري عن أنس كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكْنا عنهما فأنزل الله {إن الصفا والمروة}، وفيه كلام معمر المتقدم أنهم كانوا في الجاهلية لا يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة. فتأكيد الجملة بإنَّ لأن المخاطبين مترددون في كونهما من شعائر الله وهم أَمْيَلُ إلى اعتقاد أن السعي بينهما من أحوال الجاهلية، وفي «أسباب النزول» للواحدي أن سؤالهم كان عام حجة الوداع، وبذلك كله يظهر أن هذه الآية نزلت بعد نزول آية تحويل القبلة بسنين فوضعها في هذا الموضع لمراعاة المناسبة مع الآيات الواردة في اضطراب الفرق في أمر القبلة والمناسك. والصفا والمروة اسمان لجُبَيْلَين متقابلين فأما الصفا فهو رأس نهاية جبل أبي قبيس، وأما المَرْوَة فرأس هو منتهى جبلُ قعَيقِعَان. وسُمي الصفا لأن حجارته من الصَّفا وهو الحجر الأملس الصُّلْب، وسميت المَروةُ مَروةً لأن حجارها من المَرْو وهي الحجارة البيضاء اللينة التي توري النار ويذبح بها لأن شَذْرها يخرج قطعاً محددة الأطراف وهي تضرب بحجارة من الصفا فتتشقق قال أبو ذؤيب: حتى كأنِّي للحَوَادِث مَرْوَة *** بِصَفَا المُشقَّرِ كلَّ يوم تفرع وكأن الله تعالى لطف بأهل بمكة فجعل لهم جبلاً من المروة للانتفاع به في اقتداحهم وفي ذبائحهم، وجعل قبالته الصفا للانتفاع به في بنائهم. والصفا والمروة بقرب المسجد الحرام وبينهما مسافة سبعمائة وسبعين ذراعاً وطريق السعي بينهما يمر حذو جدار المسجد الحرام، والصفا قريب من باب يسمى باب الصفا من أبواب المسجد الحرام ويصعد الساعي إلى الصفا والمروة بمثل المدرجة. والشعائر جمع شعيرة بفتح الشين وشعارة بكسر الشين بمعنى العلامة مشتق من شعر إذا علم وفطن، وهي فعيلة بمعنى مفعولة أي معلم بها ومنه قولهم أشعر البعير إذا جعل له سمة في سنامه بأنه معد للهدي. فالشعائر ما جعل علامة على أداء عمل من عمل الحج والعمرة وهي المواضع المعظمة مثل المواقيت التي يقع عندها الإحرام، ومنها الكعبة والمسجد الحرام والمقام والصفا والمروة وعرفة والمشعر الحرام بمزدلفة ومنى والجمار. ومعنى وصف الصفا والمروة بأنهما من شعائر الله أن الله جعلهما علامتين على مكان عبادة كتسمية مواقيت الحج مواقيت فوصفهما بذلك تصريح بأن السعي بينهما عبادة إذ لا تتعلق بهما عبادة جعلا علامة عليها غير السعي بينهما، وإضافتهما إلى الله لأنهما علامتان على عبادته أو لأنه جعلهما كذلك. وقوله: {فمن حج البيت} تفريع على كونهما من شعائر الله، وأن السعي بينهما في الحج والعمرة من المناسك فلا يريبه ما حصل فيهما من صُنع الجاهلية لأن الشيء المقدس لا يزيل تقديسه ما يحف به من سيء العوارض، ولذلك نبه بقوله {فلا جناح} على نفي ما اختلج في نفوسهم بعد الإسلام كما في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها. والجناح بضم الجيم الإثم مشتق من جنح إذا مال لأن الإثم يميل به المرء عن طريق الخير، فاعتبروا فيه المَيل عن الخير عكس اعتبارهم في حنف أنه ميل عن الشر إلى الخير. والحج اسم في اللغة للقصد وفي العرف غلب على قصد البيت الحرام الذي بمكة لعبادة الله تعالى فيه بالطواف والوقوف بعرفة والإحراممِ ولذلك صار بالإطلاق حقيقة عرفية في هذا المعنى جِنْساً بالغلبة كالعَلَم بالغلبة ولذلك قال في «الكشاف» «وهما (أي الحج والعُمرة) في المعاني كالنجْم والبيت في الذَّوات»، فلا يحتاج إلى ذكر مضاف إليه إلاّ في مقام الاعتناء بالتنصيص ولذلك ورد في القرآن مقطوعاً عن الإضافة نحو {الحجُّ أَشْهُرٌ معلومات} إلى قوله: {ولا جدال في الحج} [البقرة: 197]، وورد مضافاً في قوله: {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران: 97] لأنه مقام ابتداء تشريع فهو مقام بيان وإطناب. وفِعْل حَج بمعنى قصد لم ينقطع عن الإطلاق على القصد في كلام العرب فلذلك كان ذكر المفعول لزيادة البيان. وأما صحة قولك حج فلان وقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب عليكم الحج فحُجُّوا " بدون ذكر المفعول فذلك حذفٌ للتعويل على القرينة فغلبة إطلاق الفعل على قصد البيت أقل من غلبة إطلاق اسم الحج على ذلك القصد. والعمرة اسم لزيارة البيت الحرام في غير وقت الحج أو في وقته بدون حضور عرفة فالعمرة بالنسبة إلى الحج مثل صلاة الفذ بالنسبة لصلاة الجماعة، وهي بصيغة الاسم علم الغلبة على زيارة الكعبة، وفعلُها غلب على تلك الزيارة تبعاً لغلبة الاسم فساواه فيها ولذلك لم يذكر المفعول هنا ولم يسمع. والغلبة على كل حال لا تمنع من الإطلاق الآخر نادراً. ونفي الجناح عن الذي يطوف بين الصفا والمروة لا يدل على أكثر من كونه غير منهي عنه فيصدق بالمباح والمندوب، والواجب والرُّكننِ، لأن المأذون فيه يصدق بجميع المذكورات فيُحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر ولذلك قالت عائشة لعروة «لو كان كما تقول لقال فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما»، قال ابن العربي في «أحكام القرآن» إن قول القائل لا جناج عليك أن تفعل إباحة للفعل وقوله لا جناح عليك أن لا تفعل إباحة لترك الفعل فلم يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ولا فيه دليل عليه وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان تحرج منه في الجاهلية أو لمن كان يطوف به في الجاهلية قصداً للأصنام التي كانت فيه اه. ومراده أَنَّ لا جناح عليك أن تفعل نص في نفي الإثم عن الفاعل وهو صادق بالإباحة والندب والوجوب فهو في واحد منها مجمل، بخلاف لا جناح عليك أن لا تفعل فهو نص في نفي الإثم التالي وهو صادق بحرمة الفعل وكراهيته فهو في أحدهما مجمل، نعم إن التصدي للإِخبار بنفي الإثم عن فاعل شيء يبدو منه أن ذلك الفعل مظنة لأن يكون ممنوعاً هذا عرف استعمال الكلام فقولك لا جناح عليك في فعل كذا ظاهر في الإباحة بمعنى استواء الوجهين دون الندب والوجوب إذ لا يعمد أحد إلى واجب أو فرض أو مندوب فيقول فيه إنه لا جناح عليكم في فعله، فمن أجْل ذلك فهم عروة بن الزبير من الآية عدم فرضية السعي، ولقد أصاب فهماً من حيث استعمال اللغة لأنه من أهل اللسان، غير أن هنا سبباً دعا للتعبير بنفي الإثم عن الساعي وهو ظن كثير من المسلمين أن في ذلك إثماً، فصار الداعي لنفي الإثم عن الساعي هو مقابلة الظن بما يدل على نقيضه مع العلم بانتفاء احتمال قصد الإباحة بمعنى استواء الطرفين بما هو معلوم من أوامر الشريعة اللاحقة بنزول الآية أو السابقة لها، ولهذا قال عروة فيما رواه " وأنا يومئذٍ حديثُ السن " يريد أنه لا علم له بالسنن وأسبابا النزول، وليس مراده من حداثة سنه جهلَه باللغة لأن اللغة يستوي في إدراك مفاداتها الحديث والكبير، ولهذا أيضاً قالت له عائشة «بئسما قلتَ يا ابنَ أختي» تريد ذَم كلامه من جهة ما أداه إليه من سوء فهم مقصد القرآن لو دام على فهمه ذلك، على عادتهم في الصراحة في قول الحق، فصار ظاهر الآية بحسب المتعارف مؤولاً بمعرفة سبب التصدي لنفي الإثم عن الطائف بين الصفا والمروة. فالجناح المنفي في الآية جُناح عَرَض للسعي بين الصفا والمروة في وقت نصب إساف ونائلةَ عليهما وليس لذات السعي، فلما زال سببه زال الجناح كما في قوله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يُصلحا بينهما صلحاً والصلح خير} [النساء: 128] فنفى الجناح عن التصالح وأثبت له أنه خير فالجناح المنفي عن الصلح ما عَرَض قبله من أسباب النشوز والإعراضضِ، ومثله قوله: {فمن خاف من موس جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه} [البقرة: 182] مع أن الإصلاح بينهم مرغب فيه وإنما المراد لا إثم عليه فيما نقصَ من حق أحد الجانبين وهو إثم عارض. والآية تدل على وجوب السعي بين الصفا والمروة بالإخبار عنهما بأنهما من شعائر الله فلأجل هذا اختلفت المذاهب في حكم السعي فذهب مالك رحمه الله في أَشْهَر الروايتين عنه إلى أنه فرض من أركان الحج وهو قول الشافعي وأحمد والجمهور، ووجهه أنه من أفعال الحج وقد اهتم به النبي صلى الله عليه وسلم وبادر إليه كما في حديث «الصحيحين» و«الموطأ» فلما تردد فعله بين السنية والفرضية قال مالك بأنه فرض قضاء لحق الاحتياط ولأنه فعل بسائر البدن من خصائص الحج ليس له مثيل مفروض فيُقاس على الوقوف وطواف الإفاضة والإحراممِ، بخلاف ركعتي الطواف فإنهما فعل ليس من خصائص الحج لأنه صلاة، وبخلاف ترك لبس المخيط فإنه تَرْك، وبخلاف رَمي الجمار فإنه فعل بعضو وهو اليد. وقولي ليس له مثيل مفروض لإخراج طواف القودم فإنه وإن كان فعلاً بجميع البدن إلا أنه به مثيل مفروض وهو الإفاضة فأغنى عن جعله فرضاً، ولقوله في الحديث: " اسْعَوْا فإن الله كتب عليكم السعي " والأمرُ ظاهر في الوجوب، والأصل أن الفرض والواجب مترادفان عندنا في الحج، فالواجب دون الفرض لكن الوجوب الذي هو مدلول الأمر مساوٍ للفرض. وذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب ينجبر بالنسك واحتج الحنفية لذلك بأنه لم يثبت بدليل قطعي في الدلالة فلا يكون فرضاً بل واجباً لأن الآية قطعية المتن فقط والحديث ظني فيهما، والجواب أن مجموع الظواهر من القول والفعل يدل على الفرضية وإلاّ فالوقوف بعرفة لا دليل على فرضيته وكذلك الإحرام فمتى يثبت هذا النوع المسمى عندهم بالفرض؟ وذهب جماعة من السلف إلى أنه سنة. وقوله: {ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} تذييل لما أفادته الآية من الحث على السعي بين الصفا والمروة بمفاد قوله: {من شعائر الله}، والمقصد من هذا التذييل الإتيان بحكم كلي في أفعال الخيرات كلها من فرائض ونوافل أو نوافل فقط فليس المقصود من {خيراً} خصوص السعي لأن خيراً نكرة في سياق الشرط فهي عامة ولهذا عطفت الجملة بالواو دون الفاء لئلا يكون الخير قاصراً على الطواف بين الصفا والمروة بخلاف قوله تعالى في آية الصيام في قوله: {وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خيرٌ له} [البقرة: 184] لأنه أريد هنالك بيان أن الصوم مع وجود الرخصة في الفطر أفضلُ من تركه أو أن الزيادة على إطعام مسكين أفضل من الاقتصار عليه كما سيأتي. وتطوَّع يطلق بمعنى فعل طاعة وتكلفها، ويطلق مطاوعَ طوَّعه أي جعله مطيعاً فيدل على معنى التبرع غالباً لأن التبرع زائد في الطاعة. وعلى الوجهين فانتصاب {خيراً} على نزع الخافض أي تطوع بخير أو بتضمين {تطوع} معنى فَعَل أو أتى. ولما كانت الجملة تذييلاً فليس فيها دلالة على أن السعي من التطوع أي من المندوبات لأنها لإفادة حكم كلي بعد ذكر تشريع عظيم، على أن {تطوع} لا يتعين لكونه بمعنى تبرع بل يحتمل معنى أتى بطاعة أو تكلف طاعة. وقرأ الجمهور: {ومن تطوع} بصيغة الماضي، وقرأه حمزة والكسائي ويعقوب وخلَف {يَطَّوَّع} بصيغة المضارع وياء الغيبة وجزم العين. و {مَنْ} هنا شرطية بدليل الفاء في جوابها. وقوله: {فإن الله شاكر عليم} دليل الجواب إذ التقدير ومن تطوع خيراً جوزي به لأن الله شاكر أي لا يضيع أجر محسن، عليم لا يخفى عنه إحسانه، وذكر الوصفين لأن ترك الثواب عن الإحسان لا يكون إلاّ عن جحود للفضيلة أو جهل بها فلذلك نفيا بقوله: {شاكر عليم} والأظهر عندي أن {شاكر} هنا استعارة تمثيلية شبه شأن الله في جزاء العبد على الطاعة بحال الشاكر لمن أسدي إليه نعمة، وفائدة هذا التشبيه تمثيل تعجيل الثواب وتحقيقه لأن حال المحسن إليه أن يبادر بشكر المحسن.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)} عود بالكلام إلى مهيعه الذي فصل عنه بما اعترض من شرع السعي بين الصفا والمروة كما علمته آنفاً. قال المفسرون إن هاته الآية نزلت في علماء اليهود في كتمهم دلائل صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وفي كتمهم آية الرجم، وهو يقتضي أن اسم الموصول للعهد فإن الموصول يأتي لما يأتي له المعرف باللام وعليه فلا عموم هنا، وأنا أرى أن يكون اسم الموصول هنا للجنس فهو كالمعرف بلام الاستغراق فيعم ويكون من العام الوارد على سبب خاص ولا يخصص بسببه ولكنه يتناول أفراد سببه تناولاً أولياً أقوى من دلالته على بقية الأفراد الصالح هو للدلالة عليها لأن دلالة العام على صورة السبب قطعية ودلالته على غيرها مما يشمله مفهوم العام دلالة ظنية، فمناسبة وقع هاته الآية بعد التي قبلها أن ما قبلها كان من الأفانين القرآنية المتفننة على ذكر ما قابل به اليهود دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتشبيههم فيها بحال سلفهم في مقابلة دعوة أنبيائهم من قبل إلى مبلغ قوله تعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله} [البقرة: 75] إلى قوله: {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب} [البقرة: 101] الآية وما قابل به أشباههم من النصارى ومن المشركين الدعوة الإسلامية، ثم أفضى ذلك إلى الإنحاء على المشركين قلة وفائهم بوصايا إبراهيم الذي يفتخرون بأنهم من ذريته وأنهم سدنة بيته فقال: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} [البقرة: 114] الآيات، فنوه بإبراهيم وبالكعبة واستقبالها وشعائرها وتخلل ذلك رد ما صدر عن اليهود من إنكار استقبال الكعبة إلى قوله: {وإن فريقاً منهم ايكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة: 146] (يريد علماءهم) ثم عقب ذلك بتكملة فضائل الكعبة وشعائرها، فلما تم جميع ذلك عطف الكلام إلى تفصيل ما رماهم به إجمالاً في قوله تعالى: {إن فريقاً منهم} فقال: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا} الخ، وهذه طريقة في الخطابة هي إيفاء الغرض المقصود حقه وتقصير الاستطراد والاعتراض الواقعين في أثنائه ثم الرجوع إلى ما يهم الرجوع إليه من تفصيل استطراد أو اعتراض تخلل الغرض المقصود. فجملة: {إن الذين يكتمون} الخ استئنافُ كلام يعرف منه السامع تفصيل ما تقدم له إجماله، والتوكيد بإنَّ لمجرد الاهتمام بهذا الخبر. والكتم والكتمان عدم الإخبار بما من شأنه أن يُخْبَر به من حادثثٍ مسموع أو مرئي ومنه كتم السر وهو الخبر الذي تخبر به غيرك وتأمره بأن يكتمه فلا يخبره غيره. وعبر في: {يكتمون} بالفعل المضارع للدلالة على أنهم في الحال كاتمون للبينات والهدى، ولو وقع بلفظ الماضي لتوهم السامع أن المعني به قوم مضوا مع أن المقصود إقامة الحجة على الحاضرين. ويعلم حكم الماضين والآتين بدلالة لحن الخطاب لمساواتهم في ذلك. والمراد بما أنزلنا ما اشتملت عليه التوراة من الدلائل والإرشاد، والمراد بالكتاب التوراة. والبينات جمع بينة وهي الحجة وشمل ذلك ما هو من أصول الشريعة مما يكون دليلاً على أحكام كثيرة، ويشمل الأدلة المرشدة إلى الصفات الإلهية وأحوال الرسل وأخذ العهد عليهم في اتباع كل رسول جاء بدلائل صدق لا سيما الرسول المبعوث في إخوة إسرائيل وهم العرب الذين ظهرت بعثته بينهم وانتشرت منهم، والهدى هو ما به الهدى أي الإرشاد إلى طريق الخير فيشمل آيات الأحكام التي بها صلاح الناس في أنفسهم وصلاحهم في مجتمعهم. والكتمان يكون بإلغاء الحفظ والتدريس والتعليم، ويكون بإزالته من الكتاب أصلاً وهو ظاهره قال تعالى: {وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91]، يكون بالتأويلات البعيدة عن مراد الشارع لأن إخفاء المعنى كتمان له، وحذف متعلق {يكتمون} الدال على المكتوم عنه للتعميم أي يكتمون ذلك عن كل أحد ليتأتى نسيانه وإضاعته. وقوله: {من بعد} متعلق ب (يكتمون) وذكر هذا الظرف لزيادة التفظيع لحال الكتمان وذلك أنهم كتموا البينات والهدى مع انتفاء العذر في ذلك لأنهم لو كتموا ما لم يبين لهم لكان لهم بعض العذر أن يقولوا كتمناه لعدم اتضاح معناه فكيف وهو قد بين ووضح في التوراة. واللام في قوله: {للناس} لام التعليل أي بيناه في الكتاب لأجل الناس أي أردنا إعلانه وإشاعته أي جعلناه بيناً، وفي هذا زيادة تشنيع عليهم فيما أتوه من الكتمان وهو أنه مع كونه كتماناً للحق وحرماناً منه هو اعتداء على مستحقه الذي جعل لأجله ففعلهم هذا تضليل وظلم. والتعريف في (الناس) للاستغراق لأن الله أنزل الشرائع لهدي الناس كلهم وهو استغراق عرفي أي الناس المشرع لهم. وقوله: {أولئك} إشارة إلى {الذين يكتمون} وسط اسم الإشارة بين اسم {إنَّ} وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5]. واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالاً في كلامهم. وقد اجتمع في الآية إيماآن إلى وجه ترتب اللعن على الكتمان وهما الإيماء بالموصول إلى وجه بناء الخبر أي علته وسببه، والإيماء باسم الإشارة للتنبيه على أحرويتهم بذلك، فكان تأكيد الإيماء إلى التعليل قائماً مقام التنصيص على العلة. واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله: {ويلعنهم اللاعنون}، وكرر فعل {يلعنهم} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إن الله وملائكته يصلون} [الأحزاب: 56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن. والتعريف في: {اللاعنون} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. 6 ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران: 187]. وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في (حوريب) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين، والعهد الذي أخذه عليهم في (مؤاب) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه: «أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم... لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب... فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه... حينئذٍ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا... لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة». وفي الإصحاح الثلاثين: «ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك» وفيه: «أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة». فقوله تعالى: {ويلعنهم اللاعنون} تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائماً بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضاً يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقاً عرفياً. واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي. وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفاً لأن المنكَّر مجهول، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه. ولما كان في صلة {الذين يكتمون} إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلاً من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقاً بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهلَ الكتاب عليه فالمسلمون محذَّرون من مثله، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناسُ أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال: لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية وساق الحديث. فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومئ إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يُلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حدثوا الناس بما يفْهمون أتحبُّون أنْ يكذَّب اللَّهُ ورسولهُ " وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعَه. وفي «صحيح البخاري» أن الحجَّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه، أو يتلفقون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم، قال ابن عرفة في «التفسير»: لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في «الإحياء» من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضرراً فادحاً في الناس. وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامداً غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوماً والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لِمَ خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطئ كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود اه. قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حُرمة فريضة الصوم. فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علماً أو يبين شرعاً وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم، وإن لم يكن معيناً بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد، فهذا يجب عليه بيانه وجوباً متعيناً عليه إن انفرد به في عصر أو بلد، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً». وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم، فإنما يجب عليه عيناً أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذٍ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة، وهذا يجيء أيضاً في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي. وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك. وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب «السنن الأربعة» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها. وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته. والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرئ به لدينه وعرضه. والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين. ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى: {والهدى} حتى يكون ذلك ضابطاً لما يفضي إليه كتمان ما يكتم. وقوله: {إلا الذين تابوا} استثناء من {الذين يكتمون} أي فهم لا تلحقهم اللعنة، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من {الذين يكتمون ما أنزلنا} الخ. وشُرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيراً لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره، وإنما زاد بعده {وأصلحوا وبينوا} لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه. ولعل عطف {وبينوا} على {أصلحوا} عطف تفسير. وقوله: {فأولئك أتوب عليهم} جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى {الذين تابوا} فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون، وجيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت. وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضى الله عنهم. وفي «صحيح البحاري» عن ابن مسعود قال رسول الله: " للَّهُ أَفْرَحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده ". فجاء في الآية نظم بديع تقديره إلاّ الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم، أي أرضى، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع.
|