الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن
.تفسير الآيات (41- 44): {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}.التفسير:فى أول هذه السورة جاء قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.جاء هذا القول حكما في شأن الأنفال التي وقعت لأيدى المسلمين في غزوة بدر.، وقد بينا في شرح هذه الآية أن المسلمين قد اختلفوا في شأن هذه الأنفال، فكان أن انتزعها اللّه من أيديهم ووضعها في يد الرسول، ليضعها حيث يرى.وقد سمّى القرآن الكريم هذه الغنائم أنفالا، لأنها جاءت للمسلمين على غير تقدير منهم، حيث كانوا قلة في وجه العدوّ، الذي جاء بجيش جرار، يريد استئصالهم بضربة قاضية.ولكن اللّه- سبحانه- صنع للمسلمين في هذه المعركة، وأراهم نصره وتأييده لأوليائه.. فكانت يد اللّه هي التي ردّت عنهم هذا العدوّ، وهى التي أظفرتهم بقريش، وما خلّفت وراءها في المعركة من عتاد ومتاع، وكان المنتظر أن يكون المسلمون غنيمة ليد المشركين يومئذ، لا أن يكون المشركون غنيمة لهم.إذن فهذه المغانم التي وقعت لأيدى المسلمين هي أنفال.والأنفال:جمع نفل، وهو ما جاء زائدا عن المطلوب.. ومنه النوافل في الطاعات والعبادات، وهو ما جاء زائدا عن المطلوب.. ومن هذا قوله تعالى للنبىّ الكريم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} [79: الإسراء] فتهجد النبي بالقرآن الكريم في الليل هو تكليف خاص بالنبي، ليرفعه اللّه بهذه العبادة الواجبة عليه مقاما فوق مقامه.. أما المسلمون فلهم في النبي الكريم الأسوة والقدوة.. وعلى هذا فالتهجد بالقرآن أمر مطلوب من المسلمين على سبيل الاستحباب لا الوجوب، وليس الشأن هكذا بالنسبة للنبى الذي اختصه اللّه بهذا التكليف، فجعل التهجد بالقرآن فرضا عليه.ومن ذلك قوله تعالى عن إبراهيم- عليه السلام-: {وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ} [72: الأنبياء].فإسحق هو ابن إبراهيم، وقد جاءه على كبر، بعد أن بلغ هو وامرأته سنّ اليأس.. فهو أشبه بالنافلة، لأنه جاء على غير انتظار.. وكذلك {يعقوب} وهو ابن إسحق، وقد بشّر به إبراهيم كما بشر بإسحاق.فهو نافلة النافلة، إذ لم يكن إبراهيم يرجو أكثر من أن يكون له ولد.أما ولد الولد فهو أبعد ما يكون عن توقعه والتطلع إليه، بعد أن بلغ من الكبر عتيّا.نقول هذا لنتبيّن الفرق بين الأنفال والمغانم.إذ كانت الأنفال قد وقعت لأيدى المسلمين يوم بدر على غير ما يتوقعون.أما المغانم التي سيغنمها المسلمون فيما بعد، فهى عن بلاء وعمل ظاهرين منهم، حيث يستقلّ المسلمون بأمرهم- بعد بدر- في لقاء العدوّ، دون أن يلتفتوا إلى أمداد من الملائكة تقاتل معهم، كما رأوا ذلك في بدر، وإن كان تأييد اللّه وعونه لهم غير منقطع عنهم أبدا.. فهذه المغانم التي غنمها المسلمون يوم بدر أقرب إلى الأنفال منها إلى المغانم، ولهذا سمّاها اللّه سبحانه وتعالى أنفالا ليذكر المسلمون بهذه التسمية ما كان للّه من فضل عليهم فيها.وإذن فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.ليس ناسخا لما جاء في أول السورة في قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}.كما يقول بذلك أكثر المفسّرين.. فهذه الآية تقرر حكما في شأن الغنائم، أما آية أول الأنفال، فهى خاصة بحكم الأنفال.. وفرق بين الغنائم والأنفال.. وإذن فلا تناسخ بين الآيتين.والأنفال- كما قلنا- هي التي تقع ليد المسلمين من غير قتال، أو بقتال لم يكونوا فيه إلا مظهرا تختفى وراءه يد اللّه التي تكتب لهم النصر، وتمنحهم الغلب.ولهذا، فقد ظلّ حكم الأنفال قائما، إلى جوار الحكم الخاص بالغنائم.. فكان ما يقع للمسلمين من غير بلاء هو أنفال يكون أمرها للّه ولرسول اللّه.. وما يقع لهم من غنائم فهو على الحكم الذي بينته الآية الكريمة: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية والتي سنعرض لشرحها بعد قليل.ففى غزوة خيبر سلّم اليهود للنبىّ والمسلمين من غير قتال، وذلك بعد أن سار إليهم النبيّ والمسلمون بعد صلح الحديبية، فلما استشعروا الهزيمة والهلاك أعطوا يدهم واستسلموا صاغرين.. وفى هذا نزل قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.وقد اعتبرت مغانم خيبر أنفالا، كلها ليد الرسول، ينفقها فيما أمره اللّه به أن ينفقها فيه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.ثم يقول سبحانه بعد هذا: {ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [6- 7: الحشر].فقد جعل اللّه سبحانه الفيء هنا كلّه للّه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين، ولم يجعل فيه نصيبا مفروضا للمجاهدين، حيث لم تقع حرب، ولم يكن قتال.. نعود بعد هذا إلى شرح الآيات:فقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} هو بيان لحكم اللّه في الغنائم التي يغنمها المجاهدون بسيوفهم في القتال.. فهى ثمرة عاجلة من ثمرات جهادهم.. ولو كان القتال لحسابهم لكانت هذه المغانم كلها لأيديهم، وأمّا وهم إنما يقاتلون لحساب الإسلام، ولإعلاء كلمة اللّه، فقد وجب أن يكون للّه حقّ في هذه المغانم، بل وجب أن تكون هذه المغانم كلّها حقّا للّه.. ولكن اللّه- سبحانه وتعالى- عاد بفضله على المجاهدين، فعجّل لهم هذه الثمرة من جهادهم، وجعلها حظّا مشاعا بينهم، بعد أن يخرج منها الخمس الذي هو للّه ولرسوله ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.فالمغانم التي يغنمها المجاهدون في القتال تقسمّ هكذا:الخمس: للّه ولرسول.. ولذى القربى.. واليتامى.. والمساكين.. وابن السبيل.فهذا الخمس من الغنائم موزع على خمسة أقسام:قسم للّه.. وما كان للّه فهو لرسول اللّه.. وقسم لذوى القربى من رسول اللّه.. من بنى عبد المطلب وبنى هاشم.. وثلاثة أقسام للفقراء والمساكين وابن السبيل.أما أربعة الأخماس الباقية من المغانم بعد مخرج هذا الخمس منها، فهى للمجاهدين الذين قاتلوا على تلك الغنائم.. تقسم بالسويّة بينهم.. لكل مقاتل سهم.وفى التسوية بين المجاهدين، مع اختلافهم في القوة والضعف، حيث يكون فيهم من يرجح بعشرات الأبطال، على حين يكون فيهم من هو دون ذلك بكثير- في هذه التسوية احتفاء بالجهاد من حيث هو جهاد، وتكريم للمجاهدين من حيث هم على نية الجهاد، وفى ميدان القتال، ومعرض الاستشهاد.. فهذا هو الذي يحكم النّاس في هذا المجال.. أما فضل بعض المجاهدين على بعض في البأس والقوة، والنكاية بالعدوّ، فذلك- وإن كان له حسابه وجزاؤه- إلا أنه لا يصحّ أن يكون بالمكان الذي يجعل من المجاهدين درجات، ومنازل.. فهم جميعا على درجة واحدة، مع تلك النيّات التي انعقدت منهم على الجهاد، ومع هذا الموقف الذي واجهوا فيه الاستشهاد في سبيل اللّه.وقد وقع في نفس بعض المسلمين شيء من هذا، بل ربّما كان ذلك من أقويائهم وضعفائهم على السواء.. حين نظر بعض الأقوياء فرأوا أن في التسوية بينهم وبين الضعفاء في الغنائم غبنا لهم من الجانب المادىّ، الذي ربّما ينسحب على الأجر الأخروى.. على حين نظر الضعفاء إلى حظّهم المادىّ الذي تساووا فيه مع الأقوياء، فوقع في أنفسهم أن ذلك ربّما لا ينسحب على حظهم الأخروى، فلا يكون لهم من الجزاء الأخروى ما لإخوانهم الأقوياء..!روى أحمد في مسنده عن سعد بن أبى وقاص، قال: قلت: يا رسول اللّه.الرجل يكون حامية القوم.. سهمه وسهم غيره سواء..؟ فقال: «ثكلتك أمّك ابن أمّ سعد! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟».ثم كان من عمل الرسول بعد أن اتصل التحام المسلمين بالمشركين أن جعل للفارس سهمين: له سهم، ولفرسه سهم.. أما الراجل فله سهم واحد.وذلك ليستحثّ المسلمين على اقتناء الخيل، وإعدادها للقتال، لتكون سلاحا عاملا منهم في الجهاد، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} جاء قوله تعالى هنا منبها إلى قيمة الخيل، وملفتا النظر إلى آثارها في ميدان الحرب، وأنها- وعليها فرسانها- مصدر رهبة، ومثار فزع ورعب للعدوّ، الأمر الذي إن تحقق للمسلمين في عدوّهم كان أول ضربة، يصيبون بها العدوّ في مقاتله.هذا، وقد اختلف في الخمس الذي كان للرسول، مع الخمس الذي كان لقرابته، مما جعله اللّه لهما في خمس الغنائم الذي توزع إلى خمسة أخماس.. وذلك بعد وفاة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.أما خمس الرسول، فهو خمس اللّه الذي أضافه اللّه سبحانه إلى رسوله.وعلى هذا يضاف هذا الخمس إلى ثلاثة الأخماس التي لليتامى والمساكين وابن السبيل.وأما خمس ذوى القربى فقد أباه أبو بكر رضى اللّه عنه عليهم بعد وفاة النبيّ، واعتبره ميراثا.. فقد كان النبيّ ينفق منه على ذوى قرابته، فلما توفّى- صلوات اللّه وسلامه عليه- لم يكن لذوى قرابته حق فيه، عملا بقول الرسول الكريم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث.. ما تركناه صدقة».وقد أخذ عمر بهذا بعد أبى بكر، كما أخذ به عثمان، ثم علىّ.. رضى اللّه عنهم، وأبى علىّ كرم اللّه وجهه أن يخرج على ما سار عليه الخلفاء الراشدون قبله.. وإن كان من رأيه- كاجتهاد له- أن خمس ذوى القربى حقّ لهم بعد الرسول، كما هو حق لهم في حياته. وبهذا الرأى أخذ الإمام الشافعي، وبعض الأئمة، كما أنه هو الرأى المعتمد عند الشيعة.وقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.هو توكيد لتلك الدعوة التي دعى إليها المجاهدون من اللّه سبحانه، بأن يجعلوا مما يغنمون.. خمس هذه الغنائم، للّه وللرسول، ولذى القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل.فهذا الحكم الذي قضى به اللّه سبحانه، هو دعوة منه سبحانه إلى من آمن به.. فإن من شأن من آمن باللّه أن يتقبل أحكامه راضيا مطمئنا، لا يطوف بنفسه طائف من الضيق أو الحرج.والإسلام حريص أشدّ الحرص على سلامة نفوس المجاهدين، وتصفيتها من أية شائبة تعلّق بها في هذا الموطن، الذي ينبغى أن يكون المسلم فيه، على ولاء مطلق للقضية التي يقاتل في سبيلها، ويستشهد راضيا قرير العين من أجلها، الأمر الذي لا يتحقق إذا تسرب إلى النفوس شيء من دخان الضيق أو الشك.ولهذا، فإن من تدبير الحكيم العليم في هذا، أنه بعد أن شدّ المؤمنين إلى الإيمان الذي وصلهم باللّه، وأقامهم على الجهاد في سبيله- ذكّرهم بما يمدّهم به من أمداد عونه ونصره، وهم في مواجهة العدوّ، وفى ملتحم القتال معه، وأنّهم إنما ينتصرون على أعدائهم بتلك الأمداد التي يمدّهم اللّه بها.. فإن نسوا هذا فليذكروا ما أنزل اللّه على عبده {يَوْمَ الْفُرْقانِ} أي يوم بدر، حيث كان يوما فارقا بين الحق والباطل.. بين الإيمان والكفر.. {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ} جمع المسلمين، وجمع الكافرين.. فقد شهد المسلمون في هذا اليوم كيف كانت أمداد السّماء تتنزل عليهم، وكيف كانت آثار هذه الأمداد في عدوّهم، وفى دحره وهزيمته.. {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء، فإن بيده- سبحانه وتعالى- مقاليد كل شيء: يعزّ من يشاء ويذل من يشاء، وينصر من يشاء، ويهزم من يشاء: {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.فالذى أنزله اللّه على عبده يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، هو هذا المدد السماوي من الملائكة.. وإيمان المسلمين بهذا المدد: هو التصديق بنزول الملائكة ومظاهرتهم لهم في هذا اليوم.، فهذا خبر جاء به القرآن يجب على كل مؤمن أن يؤمن به! وقوله تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.{إذ} ظرف متعلق بقوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ}.أي أن هذه الأمداد التي أمدّ إلى بها عبده محمدا صلوات اللّه وسلامه عليه، كانت في ذلك الوقت الذي واجهتكم فيه قريش بقوتها العارمة، تريد أن تضربكم الضربة القاضية.. وقد كنتم {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا} أي على الجانب الأدنى من الوادي، وهو الجانب الذي يلى المدينة، على حين كان المشركون {بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى} أي بالجانب الآخر من الوادي، وهو الذي يلى مكة.. {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أي العير التي كانت مع أبى سفيان، وقد أفلت بها من يد المسلمين- كانت لا تزال وراء الوادي تحمى ظهر العدوّ، وتشدّ عزمه على الدّفاع عنها، والموت دونها.هكذا كان الموقف يومئذ: المسلمون وظهرهم إلى المدينة، والمشركون وظهرهم إلى العير التي يقاتلون من أجلها، وإلى مكة التي تنتظرهم عائدين إليها بالعير وبالنصر معا.قوله تعالى: {وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا} أي لو كان هذا الموقف عن مواعدة بينكم وبين قريش، لما وقع على تلك الصورة التي جاء عليها كما وقعت، ولما حدثتكم أنفسكم بالخروج للقاء العدوّ وأنتم في هذا العدد القليل وتلك العدة الهزيلة، ولوقع بينكم الخلاف والتخاذل عن هذا الموقف.. وهكذا دفع اللّه بكم إلى لقاء العدوّ عن غير اختيار منكم، وذلك {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا} أي لينفذ قضاؤه فيما أراد كما راد، وتقع هذه المعركة، ويمدّكم اللّه فيها بأمداد النصر، وأنتم أبعد ما تكونون عنه.قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} أي في الصدام بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، تتحدّد مواقف النّاس، وينزل كلّ منزلته التي يستحقها، وهو على بيّنة من أمره، سواء أكان في موكب الحق، أو في مربط الباطل والضلال.. {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} يسمع ما تتحرك به الألسنة، ويعلم ما تنطوى عليه الصدور.قوله سبحانه: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.ومن تدبير اللّه في إنجاز هذا اللقاء الذي بينكم وبين المشركين أنه سبحانه أرى النبيّ في منامه جيش قريش في أعداد قليلة، وبهذه الرؤيا أخبركم النبيّ، وأطمعكم في العدوّ، فسرتم إلى لقائه، ولولا هذا لانحلّت عزائمكم، وفترت همتكم و{لفشلتم} أي خفتم وجبنتم، {وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} فقال بعضكم بقتالهم، وقال آخرون بألّا قبل لكم بقتالهم.. {وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} إذ أطمعكم في القوم بعد هذه الرؤيا التي أخبركم النبيّ بها، فلم يقع منكم ضعف عن لقاء العدوّ، ولا تنازع في الالتحام معه في ميدان القتال.. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم ما انطوت عليه الصدور، وما تلبّست به المشاعر.والسؤال هنا:هل كانت رؤيا النبي لجيش المشركين في المنام على هذا الوجه الذي رآه عليها، من القلّة في الرجال والعتاد- هل كانت هذه الرؤيا تمثل الواقع؟ وإذا لم تكن ممثلة له- كما هو الواضح- فكيف يرى الرسول الأمر على خلاف الواقع؟ ثم كيف يكون شأنه مع ذلك الذي رآه على خلاف واقعه إذا هو رآه رأى العين على ما هو عليه؟ ألا يحدث ذلك انفصالا عنده بين هذا الذي رآه في منامه، وذلك رآه في يقظته؟.والجواب على هذا: أن الرؤيا التي ترى في المنام ليست هي الواقع في ظاهره، وإنما هى- إذا كانت صادقة، كما هو الشأن في رؤياء الأنبياء- هي الواقع في مضمونه ومحتواه.. وإن كان بين الظاهر والمضمون ما بينهما من بعد بعيد فيما تراه العين منهما.فالرؤيا الصادقة تمسك من الواقع بأعماقه وصميمه، دون أن تمسك بشيء من ظاهر هذا الواقع!.فقد رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل، ومع هذا، فإنه لم يذبحه، بل الذي ذبحه فعلا هو ذبح عظيم، أي كبش، جعله اللّه فداء لذبح إسماعيل، ومع هذا، فقد صدّق إبراهيم الرؤيا وحقق مضمونها.. وذلك لأنه قدّم ابنه للذبح فعلا، وأضجعه على وجهه، كما تضجع الشاه للذبح! فماذا بقي بعد هذا من دواعى الاستجابة لأمر اللّه، وإنفاذ ما كلّفه به؟ إنه لا شيء إلا صورة ظاهرية، يرى منها إبراهيم دم ابنه وقد أريق، وروحه وقد أزهق.وإن كان إبراهيم قد رأى ذلك الدم يراق، وهذا الروح يزهق، رأى ذلك بمشاعره وأحاسيسه، وبما وقع على هذه المشاعر وتلك الأحاسيس من ألم وحزن، تلقاهما إبراهيم بالصبر على المكروه، والرضا المطمئن بقضاء اللّه وقدره.فهذه الرؤيا كما رآها إبراهيم مناما، هي الواقع كما وقع مضمونا، وإن لم يكن كما وقع ظاهرا وحسّا.كذلك رأى النبيّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- أكثر من رؤيا منامية، يختلف واقعها الظاهر عن مضمونها الذي تقع عليه، وإن التقى الظاهر والمضمون آخر الأمر في الدلالات والآثار.فقد رأى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- رؤيا منامية ليلة غزوة أحد، رأى ما روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إنى قد رأيت واللّه خيرا رأيت بقرا لى تذبح، ورأيت في ذباب سيفى ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة.. فأما البقر فهى ناس من أصحابى تقتلون، وأما الثّلم الذي رأيت في ذباب سيفى، فهو رجل من أهل بيتي يقتل.. وأما الدرع الحصينة فهى المدينة».ورأى- صلوات اللّه وسلامه عليه- ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يخطب الناس على منبره، وهو يقول: «أيها الناس قد رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها، ورأيت في ذراعى سوارين، فكرهتهما، فنفختهما فطارتا، فأوّلتهما هذين الكذابين».وهما مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي.. اللذان ادعيا النبوّة.وهنا.. هذه الرؤيا التي رآها النبيّ، من قلّة جيش المشركين في غزوة بدر، هي في الواقع صورة صادقة لهذا الجيش، ودلالة ناطقة تحدث بجميع الدلالات التي يدل عليها.فهو جيش كثير كثيف في ظاهره، ولكنه قليل ضئيل في مضمونه وصميمه.هكذا كان تأويل هذه الرؤيا، وقد جاء الواقع ناطقا بأبلغ بيان وأروع وأسلوب بصدق هذا التأويل!.فلقد انهزم هذا الجيش الكثير الكثيف بيد تلك القلّة القليلة، ومنى منها بالخزي والخسران- بما لم يمن به جيش أقل منه عددا وعدّة! فهو جيش كثير كثيف في كتلته، ولكنه هزيل ضئيل قليل في محتواه ومضمونه.وهكذا تصدق الرؤيا صدقا مطلقا، ويجيء تأويلها صبحا مشرقا، لا خفاء فيه.. وغاية ما في الأمر أن تأويل الرؤيا يحتاج إلى بصر نافذ، وبصيرة مضيئة مشرقة بنور اللّه، حتى ترى ما وراء الرؤيا، وتكشف عن مضمونها الذي انطوت عليه، وهذا ما كان عليه النبيّ صلوات اللّه وسلامه عليه الذي كان يرى واقع رؤياه على الصورة التي سيقع عليها.. وبهذا تكون رؤياه دليلا هاديا له، لا يقع له منها في تصوره، ما يفسد تدبيره، أو يمزّق وحدة رأيه.قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.هذه الرؤية الحسّيّة هي أشبه بالرؤيا المنامية، إذ كانت بحيث لا يرى منها الرائي، الواقع كما هو، بل يراه كدلالة من دلالات الواقع، أو إشارة من إشاراته.وانظر كيف كان تدبير اللّه، لما أراد من إنفاذ ما أراده، وإيقاع ما قضى بوقوعه.فلقد أراد- سبحانه- أن يلتحم الفريقان في القتال، وأن يغرى كلّ من الفريقين بصاحبه، وأن يحمله الطمع في الظفر به على خوض المعركة معه، وإبلاء بلائه فيها.فالمسلمون يرون عدوّهم في قلّة ظاهرة.. قلّة في العدد، وقلّة في البلاء والقدرة على احتمال صدمة المسلمين لهم.. وهذا ما يثبّت أقدام المسلمين في القتال، ويربط على قلوبهم في المواجهة، ويطمعهم في عدوّهم ويغريهم به.ولو أنهم رأوا المشركين على ما هم عليه في ظاهرهم لزلزلت أقدامهم، واضطربت قلوبهم، ولربّما فرّوا من وجه عدوّهم، واستسلموا له من غير قتال.{وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ}.وأما المشركون فقد أراهم اللّه المسلمين على ما هم عليه من قلّة، وربّما رأوهم في أعينهم أقلّ من هذه القلّة التي كانوا عليها.وهذا من شأنه أن يبعث في نفوس المشركين، أو في كثير منهم، مشاعر الاستخفاف بالمسلمين، وعدم المبالاة بهم، وأخذ الحذر منهم.. وبهذا يفوتهم كثير من إحكام التدبير، كما تتخلّى عنهم كثير من مشاعر الخوف التي تحمل الإنسان على استجماع قواه، واستخراج كل رصيد في كيانه لدفع الخطر الذي يتهدده! وهكذا يصنع اللّه لأوليائه، فيمكّن لهم من أسباب النّصر، ثم يضيف هذا النّصر إليهم، ويدخله في حسابهم..: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.فالمسلمون يعلمون عن يقين كثرة عدوّهم، وعن هذا اليقين وطّدوا العزم على لقائه، وأعطوا المعركة كل ما يملكون من قوة وتدبير.. ثم يدخل عليهم بعد هذا شعور- مجرد شعور- بأن عدوّهم ليس على ما استقرّ في يقينهم من أنه بهذه الكثرة التي تؤيسهم من الوقوف له، والظفر به.. فإذا التقى هذا الشعور بذلك اليقين، كان منهما كائن جديد من المشاعر التي تجمع بين الخوف والرجاء، والإشفاق والطمع، وتلك أحسن حال، وأحسن موقف يقفه الإنسان في الحياة، وفى معالجة ما يلقاه من ميسور أمورها ومعسورها على السواء.. هذا على حين رأى المشركون عدوهم في قلّة ظاهرة، كما وقع ذلك في حسابهم لهم من أول الأمر، فداخلهم من ذلك شعور بالاستخفاف بهم والتهوين من شأنهم، والقدرة على تناولهم من قريب.. فكان ذلك أسوأ حال يلقى عليه مقاتل عدوّه!
|