الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فصل في ذكر قراءات السورة كاملة: .قال ابن جني: سورة الأحزاب:بسْم اللَّه الرَّحْمن الرَّحيم.{إنَّ بُيُوتَنَا عَورَةٌ وَمَا هيَ بعَورَةٍ} بكسر الواو- ابن عباس وابن يعمر وأبو رجاء، بخلاف، وعبد السلام أبو طالوت عن أبيه وقتادة.قال أبو الفتح: صحة الواو في هذا شاذة من طريق الاستعمال، وذلك أنها متحركة بعد فتحة، فكان قياسها أن تقلب ألفا، فيقال: عَارَة، كما قولوا: رجل مالٌ. وامرأة مالةٌ، وكبش صافٌ ونعجة صافةٌ، ويوم راحٌ، وطانٌ، ورجل نالٌ، من النوال، وله نظائر. وكل ذلك عندنا فَعل، كرجل فَرق وحَذر. ومثل {عَورَة} في صحة واوها قولهم: رجل عَوزٌ لَوزٌ، أي: لا شيء له، وقول الأعشى:فكأن {عَورة} أسهل من ذلك شيئا؛ لأنها كأنها جارية على قولهم: عَورَ الرجلُ، فهو بلفظه، والمعنيان ملتقيان؛ لأن المنزل إذا أعور فهناك إخلال واختلال.ومن ذلك قراءة ابن عباس: {بُدًّى في الْأَعْرَاب} شديدة الدال، منونة.قال أبو الفتح: هذا أيضا جمع باد، فنظيره قول الله سبحانه: {كَانُوا غُزًّى} جمع غاز على فُعَّل. ولو كان على فُعَّال لكان بُدّاء وغُزّاء، ككاتب وكُتّاب، وضارب وضُرّاب أنشد الأصمعي: ومن ذلك قراءة الحسن: {ثُمَّ سُولُوا الْفتْنَةَ} مرفوعة السين، ولا يجعل فيها ياء، ولا يمدها.قال أبو الفتح: اعلم أن في سألت لغتين:إحداهما: سأل يسأل مهموزًا، كدأل يدأل، وجار يجأر.والأخرى وهي سال يسال، كخاف يخاف. والعين من هذه اللغة واو؛ لما حكاه أبو زيد من قوله: هما يتساولان، كقولك: يتقاومان، ويتقاولان.والذي ينبغي أن تحمل عليه هذه القراءة هو أن تكون على لغة من قال: سال يسال، كخاف يخاف، ومال يمال: إذا كثر ماله. وأقيس اللغات في هذا أن يقال عند إسناد الفعل إلى المفعول: سيلُوا كعيدُوا، ومثل قيل، وبيع وسير به. ولغة أخرى هنا وهي إشمام كسرة الفاء ضمة: سيلوا، كقيل وبيع. واللغة الثالثة سُولوا، كقولهم: قُولَ، وبُوعَ، وقد سُورَ به. وهو على إخلاص ضمة فُعل، إلا أنه أقل اللغات. ورُوّينا عن محمد بن الحسن قول الشاعر: أي: وقيل: وروينا أيضا: أي: نيطَ، كقولك: وُصلَ به، فهذا أحد الوجهين، وهو كالساذج.والآخر وفيه الصنعة، وهو أن يكون أراد: سُئلُوا، فخفف الهمزة، فجعلها بين بين أي: شابهت الياء الساكنة وقبلها ضمة، فأنحى بها نحو قُولَ وبُوعَ.فإما أخلصها في اللفظ واو لانضمام ما قبلها على رأي أبي الحسن في تخفيف الهمزة المكسورة إذا انضم ما قبلها، نحو قولهم: مررت باَكْمُوك، وعلى قوله: يَسْتَهْزيُون بإخلاص الهمز إذا خففها ياء لانكسار ما قبلها.وأما بقَّاها على روائح الهمزة الذي فيها فجعلها بين بين، فخفيت الكسرة فيها، فشابهت- لانضمام ما قبلها- الواو.ويدل على أن الهمزة المكسورة إذا خففت قاربت- لضعف حركتها- الياء الساكنة قول ابن ميادة:فكانَ يومَيْذٍ لَها أَمرُها أراد: يومئذ، ثم خفف الهمزة، فقاربت الياء، فصارت كأنها يومَيذ بياء مخلصة، فأسكنها استثقالا فيها فصارت يومَيْذ.وعليه قولهم: أيْشٍ تقول: أراد أيُّ شيء تقول؟ ثم خفف الهمزة وهي مكسورة، فدانت الياء، فاستثقل فيها الكسرة، كما يستثقلها في ياء القاضي والغازي، فصار أيْشٍ، كقولك: قاضٍ، وغازٍ.ويؤكد هذا القولَ الثاني قولُ ابن مجاهد: ولا يمدها، أي: ينسى الهمز الذي كان فيها الذي لو اعتمده وتطاول نحوه لزاد في الحرف الصوتَ للحركة التي كان يقوى ويزيد صداه لمكانها. ألا ترى أن قولك: آدم وآمن أنقص صوتا من قولك: آانتَ قلتَ للناس؛ لمكان حركة الهمزة الثانية وإن كانت مخفاة مضعفة؟ أعني إذا خففت همزة أنت ولم تفصل بينها وبين همزة الاستفهام قبلها بألف الوصل، كالتي في قوله: {آانتَ قلتَ للناس} في قول أبي عمرو ومن ذهب مذهبه، لأن ذلك صوت وافٍ ومطمئن متمادٍ، وإنما مرادنا قدر تمام الصوت لتخفيف الثانية، على أن لا فاصل بينها وبين الأولى. لأنه حينئذ يوافق قوله ولا يمدها، أي: لا يمدها كما يمدها إذا اعتد حركة الثانية.ومن ذلك قراءة عمرو بن فائد الأسواري، ورويت عن يعقوب: {يَا نسَاءَ النَّبيّ مَنْ تأْت منْكُنَّ} بالتاء.قال أبو الفتح: هذا حمل على المعنى، كأن مَن هنا امرأة في المعنى، فكأنه قال: أية امرأة أتت منكن بفاحشة، أو تأت بفاحشة. وهو كثير في الكلام، معناه للبيان كقول الله سبحانه: {وَمنْهُمْ مَنْ يَسْتَمعُونَ إلَيْكَ} وقول الفرزدق: أي: مثل اللذين يصطحبان، أو مثل اثنين يصطحبان، وأن يكون على الصلة أولى من أن يكون على الصفة، فكأن الموضع في هذا الحمل على المعنى إنما بابه الصلة، ثم شُبهت بها الصفة، ثم شُبهت الحال بالصفة، ثم شُبه الخبر بالحال، كذا ينبغي أن يرتب هذا الباب من تنزيل، ولا ينبغي أن يؤخذ بابا سرْدًا وطرْحًا واحدًا؛ وذلك أن الصلة أذهب في باب التخصيص من الصفة لإبهام الموصول، فلما قويت الحاجة إلى البيان في الصلة جاء ضميرها من الصلة على معناها، لأنه أشد إفصاحا بالغرض، وأذهب في البيان المعتمد.فأما ما أنشدَناه أبو علي عن الكسائي من قول الشاعر: ففيه نظر. وكان قياسه: ومن يكن شريكيهما، أو من يكونا شريكيه، وقد كان أبو علي يتعسف هذا، وأقرب ما فيه أن يكون تقديره: وأي إنسان يكونا شريكيه، إلا أنه أعاد إليهما معا ضميرا واحدا، وهو الضمير في يكن وساغ ذلك إذ كانت الذيب والغراب في أكثر الأحوال مصطحبين، فجريا مجرى الشيء الواحد، فعاد الضمير كذلك. ومثله قوله: ولم يقل: تنهلان؛ لكونهما كالعضو الواحد. ومثله للفرزدق: ولم يقل رضيتا.ومن ذلك قراءة الأعرج وأبان بن عثمان {فَيَطْمَع الَّذي} بكسر العين.قال أبو الفتح: هو معطوف على قول الله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بالْقَوْل} أي: فلا يطمع الذي في قلبه مرض، فكلاهما منهي عنه، إلا أن النصب أقوى معنى، وأشد إصابة للعذر؛ وذلك أنه إذا نصب كان معناه أن طمعه إنما هو مسبَّبٌ عن خضوعهن بالقول. فالأصل في ذلك منهي عنه، والمنهي مسبَّبٌ عن فعلهن، وإذا عطفه كان نهيا لهن وله، وليس فيه دليل على أن الطمع راجعٌ في الأصل إليهن، وواقع من أجلهن. وعليه بيت امرئ القيس:فقلْتُ له صَوّبْ ولا تُجْهدَنَّه فيَذُركَ من أُخْرَى القطاة فتزلَق فهذا نهي بعد نهي، كالقراءة الشاذة.ومن ذلك ما رواه عبد الوهاب عن أبي عمرو: {وَلَكنَّ رَسُولَ اللَّه} نصب.قال أبو الفتح: {رسول الله} منصوب على اسم {لكن} والخبر محذوف، أي: ولكن رسول الله محمد. وعليه قول الفرزدق: أي: ولكن زنجيا غليظ المشافر لا يعرف قرابتي، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله: عرفت قرابتي، كما أن قوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ منْ رجَالكُمْ} يدل على أنه مخالف لهذا الضرب من الناس، ونحو من ذلك قول طرفة: قال أبو الحسن علي بن سليمان: لم يأت لكأن بخبر، علما بمعرفة موضعه، أي: كأن ذلك المنور ثغرها، فحذفه للعلم به، ولطول الكلام.ومن ذلك قراءة أبي بن كعب والحسن والثقفي وسلام: {أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنَّبيّ} بفتح الألف.قال أبو الفتح: تقديره لأن وهبت نفسها، أي أنها تحل له من أجل أن وهبت نفسها له، إلا أن حل ذلك لذلك عند هبتها نفسها له وإن هي وهبت نفسها له. وليس يعني بذلك امرأة بعينها قد كانت وهبت نفسها له، وإنما محصوله أنها إن وهبت امرأة نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم حلت له من أجل هبتها إياها له عليه السلام، فالحل إذا إنما هو مسبب عن الهبة متى كانت، فلهذا لم يعتزم به واحدة معينة قد كانت وهبت نفسها له، ويؤكد ذلك القراءة بالكسر، فصح به الشرط.ومن ذلك قراءة أبي إياس جوية بن عائذ: {بمَا آتَيْتَهُنَّ كُلَّهُنَّ} بنصب اللام.قال أبو الفتح: نصبه على أنه توكيد ل هن من قوله: {آتَيْتَهُنَّ} وهو راجع إلى معنى قراءة العامة: {كُلُّهُنَّ} بضم اللام؛ وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن، فالمعنيان إذًا واحد، إلا أن الرفع أقوى معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ با، يرضين كلهن، والإصراح في القراءة الشاذة- أعني النصب- إنما هو بإيتائهن كلهن، وإن كان محصول الحال فيهما مع التأويل واحدا.ومن ذلك قراءة الحسن: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا فَصَلُّوا عليه}.قال أبو الفتح: دخول الفاء إنما هو لما ضُمنه الحديث من معنى الشرط، وذلك أنه إنما وجبت عليه الصلاة منا لأن الله سبحانه قد صلى عليه، فجرى ذلك مجرى قولهم: قد أعطيتك فخذ، أي: إنما وجب عليك الأخذ من أجل العطية: وإذا قال قد أعطيتك خذ، فالوقوف على أعطيتك، ثم استأنف الأمر له بالأخذ فهو أعلى معنى، وأقوم قيلا.وذلك أنه إذا علل الأخذ، فجعله واجبا عن العطية فجائز أن يعارضه المأمور بالأخذ بأن يقول: قد ثبت أن الأخذ لا يجب بعطيتك، فإن كان أخذي لغير ذلك فعلت. وهو إذ ارتجل قوله: خذ لم يسرع المعارضة له في أمره إياه؛ لاستبهام معنى موجب الأخذ، كما قد تقع المعارضة إذا ذكر العلة في ذلك. فإن قلت فقد يجوز أن يعارض أمره بالأخذ مرسلا، كما قد يعارضه معللا. ألا تراه قد يقول له: اذكر لي علة الأخذ لأرى فيه رأيي فيتوقف عن الأخذ إلى أن يعرف علة الأمر له بذلك؟ قيل على كل حال الأمر المحتوم به على حالاته أثبت في النفس من المعلل بما يجوز أن يعارض. وإذا راجعت نظرك وأعملت فكرتك وجدت الحال فيه على ما ذكرت لك، فلذلك كان قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْه} أقوى معنى.ومن ذلك قراءة عيسى بن عمر الكوفي: {يَوْمَ تُقَلّبُ وُجُوهَهُمْ} نصب.قال أبو الفتح: الفاعل في {تُقَلّبُ} ضمير السعير المقدم الذكر في قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافرينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعيرًا خَالدينَ فيهَا أَبَدًا} ثم قال: {يَوْمَ تُقَلّبُ} أي: تُقَلّبُ السعيرُ وجوههم في النار، فنسب الفعل إلى النار، وإن كان المُقَلّبُ هو الله سبحانه، بدلالة قراءة أبي حيوة: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهَهُمْ} لأنه إذا كان التقليب فيها جاز أن ينسب الفعل إليها للملابسة التي بينهما، كما قال الله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْل وَالنَّهَار} فنسب المكر إليهما لوقوعه فيهما، وعليه قول رؤبة: أي: نمتُ في ليلي: وعليه نفى جرير الفعل الواقع فيه عنه فقال: فهذا نفي لمن قال: نام لَيْلُ المطيّ، وتطرقوا من هذا الاتساع إلى ما هو أعلى منه، فعليه بيت الكتاب: فجعل النهار نفسه في القيد والسلسلة، والليلَ نفسَه في جوف المنحوت. وإنما يريد أن هذا المذكور في نهاره في القيد والسلسلة، وفي ليله في بطن المنحوت. وقد جاء هذا في الأماكن أيضا، وعليه قول رؤبة: فالزيزاء على فعلاء، وهي هذه الغليظة المنقادة من الأرض، فكأن هذه الأرض سارت بهم الفجاج؛ لأنهم ساروا عليها. وقد يمكن أن يكون زيزاؤه مصدر من زَوْزَيْتُ، فيكون الفعل منسوبا إلى المصدر، كقولهم: سار بنا السيرُ، وقام بهم القيامُ. فهو على قولك: سيرٌ سائرٌ، وقيامٌ قائمٌ. ومنه: شعرٌ شاعرٌ، وموتٌ مائتٌ، وويلٌ وائلٌ. والزيزاء على هذا فعلال، كالزلزال، والقلقال.وأما قول رؤبة: فهو فعلال من لفظ. هيهات، كالزلزال، والقلقال، وليس مصدرا صريحا. وهيهات من مضاعف الياء، ومن باب الصّيصية وقد تقدم القول عليه.ومن ذلك قراءة ابن مسعود: {وَكَانَ عَبْدًا للَّه وَجيهًا}.قال أبو الفتح: قراءة الكافة أقوى معنى من هذه القراءة، وذلك أن هذه إنما يُفْهَم منها أنه عبدٌ لله ولا تُفْهَم منها وجاهته عند من هي؟ أعندَ الله، أم عندَ الناس؟ وأما قراءة الجماعة فإنها تفيد كون وجاهته عند الله، وهذا أشرف من القول الأول؛ لإسناد وجاهته إلى الله تعالى، وحسبه هذا شرفا. اهـ.
|