فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضًا فقال: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ} عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار له الطول أيضًا كما استعير الغلظ لشدة العذاب.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة، ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم، وبين أن الإنسان جبل على التبدل، فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم، وإن أحسّ بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبة كلامًا آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد، وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} وتقرير هذا الكلام أنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي ءَاذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلًا علمًا بديهيًا، وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علمًا بديهيًا، فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحًا وأن يكون فاسدًا بتقدير أن يكون صحيحًا كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب، فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركوا هذه الثغرة، وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه، وإن دل على فساده تركتموه، فأما قبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل، وقوله: {مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} موضوع موضع منكم بيانًا بحالهم وصفاتهم، ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة، وأجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق} قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها، وفي تفسير قوله: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِي أَنفُسِهِمْ} قولان الأول: أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة، وقد أكثر الله منها في القرآن، وقوله: {وَفِي أَنفُسِهِمْ} المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة، كما قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العليم المنزّه عن المثل والضد، فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ} يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه، قلنا إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زمانًا فزمانًا، ومثاله كل أحد رأى بعينه بنية الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفًا على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله: {سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِي الآفاق وَفِى أَنفُسِهِمْ} والقول الثاني: أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجّحوه على القول الأول لأجل أن قوله: {سَنُرِيهِمْ} يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله: {سَنُرِيهِمْ} لائق بالوجه الأول كما قررناه، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمدًا صلى الله عليه وسلم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة، ثم استولى على مكة، إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقًا، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم، وذلك لا يدل على كونهم محقين، ولهذا السبب قلنا إن حمل الآية على الوجه الأول أولى، ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه، قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلم على تلك البلاد على كونه محقًا في ادعاء النبوة، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقًا لخبره، فيكون هذا إخبارًا صدقًا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقًا.
ثم قال: {أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ} وقوله: {بِرَبّكَ} في موضع الرفع على أنه فاعل {يَكُفَّ} و{أنه على كل شيء شهيد} بدل منه، وتقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء شهيد، ومعنى كونه تعالى شهيدًا على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها، وقد اسقضينا ذلك في تفسير قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} [الأنعام: 19] والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة.
ثم ختم السورة بقوله: {أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ} أي إن القوم في شك عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة، وقرئ {فِى مِرْيَةٍ} بالضم.
ثم قال: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ} أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر فإن قيل قوله: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ} يقتضي أن تكون علومه متناهية، قلنا قوله: {بِكُلّ شَيْء مُّحِيطُ} يقتضي أن يكون علمه محيطًا بكل شيء من الأشياء فهذا يقتضي كون كل واحد منها متناهيًا، لا كون مجموعها متناهيًا، والله أعلم بالصواب.
تم تفسير هذه السورة وقت ظهر الرابع من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة والحمدلله رب العالمين وصلاته على خاتم النبيين محمد وآله وصحبه وسلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} ذكر الله تعالى الخلق الذميمة من الإنسان جملة، وهي في الكفار بينه متمكنة، وأما المؤمن في الأغلب فيشكر عند النعمة، وكثيرًا ما يصبر عند الشدة.
وقرأ جمهور والناس: {ونأى بجانبه} الهمزة عين الفعل. وقرأ ابن عامر: {وناء} الهمزة لام الفعل، وهي قراءة أبي جعفر، والمعنى فيهما واحد. قال أبو علي: ناء قلب ابن آدم فعل فلع، ومنه قول الشاعر كثير: الطويل:
وكل خليل راءني فهو قائل ** من اجلك هذا هامة اليوم أو غد

ومنه قول الآخر: الطويل:
وقد شاءني أهل السباق وأمعنوا

{ونأى} معناه: بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة.
وقوله: {فذو دعاء عريض} أي طويل أيضًا، فاستغنى بالصفة الواحدة عن لزيمتها، إذ العرض يقتضي الطول ويتضمنه، ولم يقل طويل، لأن الطويل قد لا يكون عريضًا، ف {عريض} أدل على الكثرة. ثم أمر تعالى نبيه أن يقف قريشًا على هذا الاحتجاج وموضع تغريرهم بأنفسهم فقال: {أرأيتم إن كان} هذا الشرع {من عند الله} وبأمره وخالفتموه أنتم، ألستم على هلكة من قبل الله تعالى، فمن أضل ممن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله، وهذا هو الشقاق، ثم وعد تعالى نبيه عليه السلام بأنه سيري الكفار آياته.
واختلف المتأولون في معنى قوله: {في الآفاق وفي أنفسهم} فقال المنهال والسدي وجماعة: هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها.
{وفي أنفسهم} أراد به فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل حسن ينتظم الإعلام بغيب ظهر وجوده بعد كذلك ويجري معه لفظ الاستئناف الذي في الفعل.
وقال الضحاك وقتادة: {سنريهم آياتنا في الآفاق} هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديمًا {وفي أنفسهم} يوم بدر، وقال ابن زيد وعطاء: {الآفاق}: آفاق السماء. وأراد: الآيات: في الشمس والقمر والرياح وغير لك.
{وفي أنفسهم} عبرة الإنسان بجسمه وحواسه وغريب خلقته وتدريجه في البطن ونحو ذلك، وهذه آيات قد كانت مرئية، فليس هذا المعنى يجري مع قوله: {سنري} والتأويل الأول أرجحها، والله أعلم. والضمير في قوله تعالى: {أنه الحق} عائد على الشرع والقرآن، فبإظهار الله إياه وفتح البلاد عليه تبين لهم أنه الحق.
ثم قال تعالى وعدًا لنبيه عليه السلام: {أولم يكف بربك} والتقدير: أولم يكف ربك، والباء زائدة للتأكيد، وأنه يحتمل أن يكون في موضع رفع على البدل من الموضع، إذ التقدير: أولم يكف ربك، ويحتمل أن يكون في موضع خفض على البدل من اللفظ، وهذا كله بدل الاشتمال، ويصح أن يكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر، أي لأنه على كل شيء شهيد.
وقرأ الجمهور: {أنه} بفتح الألف، وقرأ بعض الناس {إنه} بكسرها على الاعتراض أثناء القول.
وقوله: {ألا} استفتاح يقتضي إقبال السامع على ما يقال له، فاستفتح الإخبار على أنهم في شك وريب وضلال أداهم إلى الشك في البعث.
وقرأ جمهور الناس: {في مِرية} بكسر الميم.
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن: {في مُرية} بضم الميم، والمعنى واحد، ثم استفتح الإخبار بإحاطته بكل شيء على معنى الوعيد لهم، وإحاطته تعالى هي بالقدرة والسلطان، لا إله إلا هو، العزيز الحكيم.
نجز تفسير سورة {حم} السجدة، والحمد لله رب العالمين. اهـ.