الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: .قال الألوسي: {فَرِحَ المخلفون} أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان باغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق {بِمَقْعَدِهِمْ} متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود. وقيل: اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو {خلاف رَسُولِ الله} أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا، فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل فيه كما قال أبو البقاء {مَقْعَدِ} وجوز أن يكون {فَرِحَ}. وقيل: هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالًا بمعنى مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يكون مفعولًا له والعامل إما {فَرِحَ} أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما {مقعدهم} أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبًا على المصدر بفعل دل عليه الكلام. {وَكَرِهُواْ أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ الله} إيثارًا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب. وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن اجلهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الكلام تعريض بالمئمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله {وَقَالُواْ} أي لاخوانهم تثبيتًا لهم على القعود وتواصيًا بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيطًا لهم على الجهاد ونهيًا عن المعروف وإظهارًا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة {لاَ تَنفِرُواْ} لا تخرجوا إلى الغزو {فِى الحر} فإنه لا يستطاع شدته {قُلْ} يا محمد ردًا عليهم وتجهيلًا لهم {نَارُ جَهَنَّمَ} التي هي مصيركم بما فعلتم {أَشَدُّ حَرّا} من هذا الحر الذي ترونه مانعًا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب {لَوْ} مقدر وكذا مفعول {يَفْقَهُونَ} أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمير يسير يوقعه في ورطة عظيمة، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته: وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الالزام وهو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون {لَوْ} لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام نظير قوله تعالى: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101] وهو خلاف الظاهر أيضًا. اهـ. .قال القاسمي: المخلفون: هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين، فأذن لهم في التخلف كما قلنا، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك. وإيثار: {الْمُخَلَّفُونَ} على المتخلفون، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج، فغلب على غيرهم، أو المراد من خلفهم كسلُهم أو نفاقهم، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك، وحملهم عليه. وقوله تعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ} متعلق بفرح، أي: بقعودهم عن غزوة تبوك. فمقعد على هذا، مصدر ميميّ، أو هو اسم مكان، والمراد به المدينة. وقوله: {خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي: خلفه، وبعد خروجه، حيث خرج ولم يخرجوا. فخلاف ظرف بمعنى خلف وبعد. يقال: فلان أقام خلاف الحي أي: بعدهم، ظعنوا ولم يظعن، ويؤيده قراءة من قرأ: {خلف رسول الله}، فانتصابه على أنه ظرف لمقعدهم، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك. قال الشهاب: واستعمال خلاف بمعنى خلف، لأن جهة الخلف خلاف الأمام، وجوز أن يكون الخلاف بمعنى المخالفة، فهو مصدر خالف، كالقتال، ويعضده قراءة من قرأ {خُلف رسول الله} بضم الخاء، وفي نصبه وجهان: الأول: أنه مفعول له، والعامل إما فرح، أي: فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود، وإما مقعدهم، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم، فهو علة إما للفرح أو للقعود. والثاني: أنه حال، والعامل أحد المذكورين، أي: فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود، أو فرحوا بالقعود مخالفين له. وقوله تعالى: {وَكَرِهُوا} إلخ أي: لما في قلوبهم من مرض النفاق. قال أبو السعود: وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: وَكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو، إيذانًا بأن الجهاد في سبيل الله، مع كونه من أجلّ الرغائب، وأشرف المطالب، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون، قد كرهوه، كما فرحوا بأقبح القبائح، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الزمخشري: في قوله تعالى: {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} تعريض بالمؤمنين، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض- أي: الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب- وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان، وداعي الإيقان. قال الشهاب: ووجه التعريض ظاهر، لأن المراد كرهوه، لا كالمؤمنين الذين أحبوه. وقوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} أي: قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر، فإنه لا يستطاع شدته. وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر، عند طيب الظلال والثمار، وذلك تثبيتًا لهم على التخلف، وتواصيًا فيما بينهم بالشر والفساد، أو قالوا للمؤمنين تثبيطًا لهم عن الجهاد، ونهيًا عن المعروف، وإظهارًا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد، ونهي الغير عن ذلك- أفاده أبو السعود-. وقوله تعالى: {قُلْ} أي: ردًّا عليهم وتجهيلًا لهم: {نَارُ جَهَنَّمَ} أي: التي ستدخلونها بما فعلتم: {أَشَدُّ حَرًّا} أي: مما تحذرون من الحرّ المعهود، وتحذّرون الناس منه، فما لكم لا تحذرونها، وتعرضون أنفسكم لها، بإيثار القعود على النفير. وقوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} اعتراض تذييلي من جهته تعالى، غير داخل تحت القول المأمور به، مؤكد لمضمونه. وجواب لو إما مقدر، أي: لو كانوا يفقهون أنها كذلك، أو كيف هي، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا، أو لتأثروا بهذا الإلزام، وإما غير منويّ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ علن امتناع تحقق مدخولها، أي: لو كانوا من أهل والفقه الفطانة، كما في قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْأياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} كذا في أبي السعود. تنبيهان: الأول: قال الزمخشري: قوله تعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ} الخ، استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل. ولبعضهم: انتهى. أي: فهم كما قال الآخر: وقال آخر: الثاني: روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءًا»، زاد الإمام أحمد: «من نار جهنم». وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهون أهل النار عذابًا يوم القيامة، لَمَن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، لا يرى أن أحدًا من أهل النار أشد عذابًا منه، وإنه أهونهم عذابًا». اهـ.
|