فصل: (الْفَصْلُ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ فِي الْحَوَالَةِ):

مساءً 11 :25
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
29
الإثنين
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفتاوى الهندية



.(الْفَصْلُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ فِي الْكَفَالَةِ):

رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رَجُلٍ كَفِيلًا لَا يَقْدِرُ الْكَفِيلُ أَنْ يَبْرَأَ عَنْ الْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ مَا الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ: قَدْ كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ عَلَى أَنِّي كُلَّمَا دَفَعْته إلَيْك فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ كَفَالَةً مُجَدَّدَةً فَهَذَا جَائِزٌ، وَإِنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا فِيهِ رِوَايَةٌ، وَفِي الْوَكَالَةِ فِي نَظِيرِهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ، وَهُوَ مَا إذَا وَكَّلَ رَجُلًا فِي حَادِثَةٍ ثُمَّ قَالَ لِلْوَكِيلِ: كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْت وَكِيلِي عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- لَا تَتَجَدَّدُ الْوَكَالَةُ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي زَيْدٍ الشُّرُوطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَتَجَدَّدُ وَالْكَفَالَةُ عَلَى قِيَاسِهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.

.(الْفَصْلُ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ فِي الْحَوَالَةِ):

رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَأَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ أَنْ يُحِيلَهُ عَلَى رَجُلٍ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى أَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا لَا يَرْجِعُ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ بِمَا لَهُ عَلَيْهِ، وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقِرَّ الْمُحِيلُ وَالْمُحْتَالُ لَهُ، فِي كِتَابِ الْحَوَالَةِ أَنَّ هَذَا الْمُحِيلَ أَحَالَ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى فُلَانٍ وَيُسَمِّيَانِ رَجُلًا مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ وَقَبِلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْحَوَالَةَ ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ أَحَالَ هَذَا الْمُحْتَالَ لَهُ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى هَذَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَإِذَا فَعَلَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ مَاتَ هَذَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا لَا يَكُونُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُحِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ الْأَوَّلَ مَا أَحَالَ الْمُحْتَالَ لَهُ عَلَى هَذَا الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ، إنَّمَا أَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ آخَرَ وَلَمْ يَعْرِفْ مَوْتَ ذَلِكَ الرَّجُلِ عَنْ إفْلَاسٍ.
وَإِذَا أَرَادَ الْمَطْلُوبُ أَنْ يُحِيلَ الطَّالِبَ بِالْمَالِ عَلَى غَرِيمٍ لَهُ فَقَالَ الطَّالِبُ لِلْمَطْلُوبِ: أَنْتَ عِنْدِي أَوْثَقُ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَا آمَنُ أَنْ يَتْوَى مَالِي إنْ أَحَلْت بِهِ عَلَيْهِ وَطَلَبَ حِيلَةً حَتَّى لَا يَبْرَأَ الْأَصِيلُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَضْمَنَ غَرِيمُ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ عَنْ الْمَطْلُوبِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ وَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا جَمِيعًا (وَجْهٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ) أَنْ يُوَكِّلَ الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ حَتَّى يَقْبِضَ الدَّيْنَ وَيَجْعَلَهُ قِصَاصًا بِمَالِهِ فَيَجُوزُ، أَمَّا التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَجَوَازُهُ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا جَعْلُ الْمَقْبُوضِ قِصَاصًا بِمَالِهِ ظَاهِرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ طَرِيقَ قَضَاءِ الدَّيْنِ هَذَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِنْ قَالَ الْمَطْلُوبُ: أَخَافُ أَنْ يَقْبِضَ الطَّالِبُ مِنْ غَرِيمِي، وَيَقُولَ: ضَاعَ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَهُ لِنَفْسِي، وَيَكُونَ الْقَوْلُ لَهُ فِي ذَلِكَ.
مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ لَمَّا وَكَّلَ الطَّالِبَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ غَرِيمِهِ وَلَمْ يَقُلْ: اقْبِضْهُ لِنَفْسِك يَقَعُ قَبْضُ الطَّالِبِ لِلْمَطْلُوبِ أَوَّلًا ثُمَّ يَحْتَاجُ الطَّالِبُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ لِيَقَعَ الْقَبْضُ لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ أَمَانَةٌ وَالْقَبْضَ لِنَفْسِهِ قَبْضُ ضَمَانٍ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ.
وَإِذَا قَالَ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ قَبْلَ أَنْ أَقْبِضَ لِنَفْسِي فَقَدْ ادَّعَى هَلَاكَ الْأَمَانَةِ قَبْلَ إحْدَاثِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ فَإِذَا عَرَفْت تَفْسِيرَ الْمَسْأَلَةِ فَالثِّقَةُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ الْمَطْلُوبُ غَرِيمَهُ هَذَا أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ الْمَالَ لِلطَّالِبِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ الْمَالُ عَلَيْهِمَا فَإِذَا أَخَذَ الطَّالِبُ مِنْ غَرِيمِ الْمَطْلُوبِ شَيْئًا يَصِيرُ آخِذًا لِنَفْسِهِ، وَلَوْ هَلَكَ يُهْلَكُ عَلَيْهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

.(الْفَصْلُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ فِي الصُّلْحِ):

قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِيَلِ الْأَصْلِ: رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي هِلَالِ شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ جَازَ هَذَا الصُّلْحُ فِي قَوْلِنَا وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ وَالْوَضْعِ لَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إنَّمَا هِيَ مِنْ خَصَائِصِ كِتَابِ الْحِيَلِ، وَالْحُكْمُ فِيهَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ إذَا أَدَّى مِائَةً فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوطِ بَرِئَ عَنْ الْبَاقِي وَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ.
وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ:
(أَحَدُهَا) إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ صَاحِبُ الْمَالِ لِلْمَدْيُونِ: حَطَطْتُ عَنْك خَمْسَمِائَةٍ لِتُؤَدِّي خَمْسَمِائَةٍ غَدًا إلَيَّ، أَوْ قَالَ: لِتُؤَدِّي إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا وَقَبِلَ الْآخَرُ، وَذَكَرَ أَنَّ الصُّلْحَ وَالْحَطَّ جَائِزَانِ أَدَّى الْمَدْيُونُ إلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ غَدًا أَوْ لَمْ يُؤَدِّ.
(الثَّانِي) إذَا قَالَ: حَطَطْتُ عَنْك خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَنِي خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ لَمْ تُعَجِّلْ فَالْأَلْفُ عَلَيْك عَلَى حَالِهَا، وَقَبِلَ الْآخَرُ وَذَكَرَ أَنَّ الْمَدْيُونَ إنْ عَجَّلَ خَمْسَمِائَةٍ فَهُوَ بَرِيءٌ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ فَالْأَلْفُ عَلَيْهِ بِحَالِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْأَلْفَ عَلَى الْمَدْيُونِ عَلَى حَالِهَا عَجَّلَ الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعَجِّلْ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ.
(الثَّالِثُ) إذَا قَالَ: حَطَطْتُ عَنْك خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ تُعَجِّلَنِي خَمْسَمِائَةٍ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا، وَذَكَرَ فِيهِ خِلَافًا فَقَالَ: عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- إنَّ عَجَّلَ خَمْسَمِائَةٍ بَرِئَ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ فَالْأَلْفُ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهَا وَبَطَلَ الصُّلْحُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَعَلَى الْمَطْلُوبِ خَمْسُمِائَةٍ عَجَّلَ الْخَمْسَمِائَةِ أَوْ لَمْ يُعَجِّلْ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا أَوْرَدَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الصُّلْحِ (جِئْنَا إلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْحِيَلِ) فَصُورَتُهَا وَحُكْمُهَا مَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْحِيَلِ لَيُبَيِّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاتِّفَاقِ لَا خِلَافَ فِيهَا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الصُّلْحِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْحِيَلِ فَفِيهَا مُخَالِفٌ قِيلَ: الْمُخَالِفُ زُفَرُ، وَقِيلَ: ابْنُ أَبِي لَيْلَى.
فَإِنْ طَلَبَا حِيلَةً حَتَّى يَجُوزَ هَذَا أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: يَحُطُّ رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْمَدْيُونِ ثَمَانَمِائَةٍ يَبْقَى مِائَتَا دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمِائَتَيْنِ عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا.
وَمِثْلُ هَذَا الصُّلْحِ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَمَّا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ إلَى تَمَامِ الْمِائَتَيْنِ، أَيْضًا وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ الْحِيَلِ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَفِي الْوَاقِعَاتِ السَّمَرْقَنْدِيَّة إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى شَهْرٍ فَإِنْ لَمْ يُعْطِهَا إلَى شَهْرٍ فَمِائَتَا دِرْهَمٍ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ حَطَّا؛ لِأَنَّ الْمَحْطُوطَ مَجْهُولٌ وَهُوَ تِسْعُمِائَةٍ إنْ أَوْفَاهُ مِائَةً فِي الْوَقْتِ الْمَشْرُوطِ وَإِنْ لَمْ يُوفِهِ فَالْمَحْطُوطُ ثَمَانُمِائَةٍ، وَجَهَالَةُ الْمَحْطُوطِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْحَطِّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْحِيَلِ كَذَلِكَ فَيَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ.
(رَجُلٌ) مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَفِي أَيْدِيهِمَا دَارٌ جَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُهُ فَصَالَحَاهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى مَالٍ؛ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَا صَالَحَاهُ عَلَى غَيْرِ إقْرَارٍ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا أَثْمَانًا وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا، وَإِنْ كَانَا صَالَحَاهُ عَلَى إقْرَارٍ مِنْهُمَا فَالدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، فَإِنْ طَلَبًا حِيلَةً حَتَّى يَكُونَ الصُّلْحُ عَنْ إقْرَارٍ وَتَكُونَ الدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا فَالْحِيلَةُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا عَلَى إقْرَارٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لِلْمَرْأَةِ الثُّمُنَ وَلِلِابْنِ سَبْعَةَ أَثْمَانٍ، فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ الصُّلْحُ وَكَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُصَالِحُ عَلَيْهِمَا بِبَدَلِ الصُّلْحِ أَثْمَانًا إنْ كَانَا أَمَرَاهُ بِالصُّلْحِ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْأَجْنَبِيِّ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّهِمَا فَكَانَ صُلْحُهُ مُسْقِطًا دَعْوَى الْمُدَّعِي فَإِذَا سَقَطَتْ دَعْوَاهُ صَارَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً لَهُمَا بِجِهَةِ الْإِرْثِ فَتَكُونُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ وَبَدَلُ الصُّلْحِ يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي شَرْحِ حِيَلِ الْأَصْلِ وَقَالَ: الْحِيلَةُ أَنْ يُقِرَّا لِلْمُدَّعِي بِالدَّارِ ثُمَّ يُصَالِحَاهُ مِنْهَا عَلَى كَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنُ الدَّارِ وَلِلِابْنِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ الدَّارِ، فَإِذَا صَرَّحَا بِذَلِكَ كَانَ الْمِلْكُ فِي الدَّارِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَا بِهِ وَالثُّمُنُ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَيَا دَارًا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُمُنُهَا وَلِلْآخَرِ سَبْعَةُ أَثْمَانٍ.
(رَجُلٌ) مَاتَ وَتَرَكَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضًا فَأَرَادَ وَرَثَةُ الزَّوْجِ أَنْ يُصَالِحُوا الْمَرْأَةَ مِنْ حِصَّتِهَا مِنْ التَّرِكَةِ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى دَنَانِيرَ اعْلَمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا تَخْلُو مِنْ وَجْهَيْنِ: (الْأَوَّلُ) إذَا لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ وَقَدْ تَرَكَ الزَّوْجُ دَرَاهِمَ وَعُرُوضًا وَصُولِحَتْ عَلَى دَرَاهِمَ، إنْ كَانَ مَا أَخَذَتْ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ جَازَ وَيُجْعَلُ الْمِثْلُ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِالْمِثْلِ وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ الْعُرُوضِ، غَيْرَ أَنَّ مَا يَخُصُّ الدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَكُونُ صَرْفًا فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ مُقِرِّينَ بِالتَّرِكَةِ غَيْرَ مَانِعِينَ لِنَصِيبِهَا مِنْ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا مِنْ التَّرِكَةِ أَمَانَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي أَيْدِيهِمْ وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ فَإِنْ صَارَ نَصِيبُهَا مَضْمُونًا عَلَى الْوَرَثَةِ بِأَنْ كَانُوا جَاحِدِينَ لِلتَّرِكَةِ أَوْ مُقِرِّينَ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا مَانِعِينَ نَصِيبَهَا مِنْ التَّرِكَةِ الْآنَ لَا يُحْتَاجُ إلَى قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى قَبْضِ بَدَلِ الصُّلْحِ لَا غَيْرُ.
وَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَتْ مِثْلَ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى الْعَرْضُ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَا أَخَذَتْ أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى الْعَرْضُ مَعَ بَعْضِ الدَّرَاهِمِ خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ فَتَعَذَّرَ تَجْوِيزُ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَتَعَذَّرَ تَجْوِيزُهُ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ التَّرِكَةَ عَيْنٌ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ.
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى مِثْلِ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ حَالَةَ التَّصَادُقِ، وَأَمَّا حَالَةَ الْمُنَاكَرَةِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْمُنَاكَرَةِ الْمُعْطِي يُعْطِي الْمَالَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَتَفْدِيَةِ يَمِينِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الرِّبَا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ مُحَمَّدٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِقْدَارُ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّرَاهِمِ الَّتِي تَرَكَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ صَحِيحٌ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِجَانِبِ الْفَسَادِ.
وَإِنْ صُولِحَتْ عَلَى عَرْضٍ أَوْ دَنَانِيرَ جَازَ وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الرِّبَا فِي خِلَافِ الْجِنْسِ وَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَإِنْ كَانَتْ تَرِكَةُ الزَّوْجِ دَنَانِيرَ أَوْ عُرُوضًا فَصُولِحَتْ عَلَى دَنَانِيرَ فَهُوَ عَلَى التَّفَاصِيلِ الَّتِي قُلْنَا فِي الدَّرَاهِمِ، وَإِنْ صُولِحَتْ عَلَى دَرَاهِمَ جَازَ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَعُرُوضٌ فَصُولِحَتْ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى دَنَانِيرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ ذَلِكَ النَّقْدِ حَتَّى يَكُونَ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ مِنْ النَّقْدِ وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْعُرُوضِ وَالنَّقْدِ لِلْآخَرِ، وَإِنْ صُولِحَتْ عَلَى دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ جَازَ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ وَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، إلَّا أَنَّ مَا يَخُصُّ الدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَمَا يَخُصُّ الدَّنَانِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ صَرْفٌ فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ وَمَا يَخُصُّ الْعُرُوضَ لَيْسَ بِصَرْفٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ مُسْتَقِيمَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْرِفُ الْجِنْسَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ.
فَالثِّقَةُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ أَنْ يُصَالِحُوهَا مِنْ جَمِيعِ نَصِيبِهَا مِنْ جَمِيعِ تَرِكَةِ الزَّوْجِ عَلَى عَرْضٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجُوزُ هَذَا الصُّلْحُ لَا يُحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ حِصَّتِهَا مِنْ جُمْلَةِ التَّرِكَةِ وَهَذَا مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ جَوَازَ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ هَذَا بَيْعٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ وَبَيْعُ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِقْدَارَهُ إذَا كَانَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ جَائِزٌ، أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا أَوْدَعَهُ شَيْئًا ثُمَّ إنَّ الْمُقِرَّ اشْتَرَى ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَا لَا يَعْرِفَانِ مِقْدَارَهُ كَذَا هُنَا، فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ مَجْهُولَةً لَا يُدْرَى مَا هِيَ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ كِتَابِ الشُّرُوطِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ احْتِمَالِ الرِّبَا بِأَنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ وَنَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ بَدَلِ الصُّلْحِ أَوْ أَكْثَرُ.
وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: يَجُوزُ هَذَا الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ بَدَلِ الصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ أَوْ أَقَلَّ فَيَكُونُ فِيهِ احْتِمَالُ الِاحْتِمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ عَقَارًا وَأَرَاضِيَ وَحَيَوَانًا وَأَمْتِعَةً وَكُلُّ ذَلِكَ فِي أَيْدِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ فَصَالَحَهُمْ عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ وَقَدْ مَرَّ جِنْسُ هَذَا.
(الْوَجْهِ الثَّانِي) إذَا كَانَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ فَإِنْ أَدْخَلُوا الدَّيْنَ فِي الصُّلْحِ بِأَنْ صَالَحُوهَا مِنْ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ عَلَى مَالٍ أَوْ صَالَحُوهَا عَلَى أَنْ تَأْخُذَ هِيَ الدَّيْنَ مِنْ الْغَرِيمِ وَتَتْرُكَ حَقَّهَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَمَتَى فَسَدَ الصُّلْحُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَسَدَ فِي حِصَّةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلُوا الدَّيْنَ فِي الصُّلْحِ صَحَّ الصُّلْحُ عَنْ بَاقِي التَّرِكَةِ وَبَقِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْغَرِيمِ بَيْنَهُمْ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهَذَا نَوْعُ حِيلَةٍ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الصُّلْحِ أَنْ يَسْتَثْنُوا الدَّيْنَ وَيَذْكُرُوا فِي الْوَثِيقَةِ مَا خَلَا الدَّيْنَ، وَإِنْ أَرَادُوا إدْخَالَ الدَّيْنِ فِي الصُّلْحِ فَالْوَجْه أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَرْأَةُ مِنْ الْوَرَثَةِ مِثْلَ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ تُحِيلَهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْغَرِيمِ لِيُعْطِيَهُمْ مِنْ نَصِيبِهَا وَيَقْبَلَ الْغَرِيمُ ذَلِكَ، ثُمَّ يُصَالِحُونَهَا عَنْ بَقِيَّةِ الْمَالِ فَيَصِيرَ جَمِيعُ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ مِلْكًا لَهُمْ أَوْ يُعَجِّلُوا لِلْمَرْأَةِ نَصِيبَهَا يَعْنِي الْوَرَثَةَ مِنْ الدَّيْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مُتَطَوِّعِينَ عَنْ الْغَرِيمِ، فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ مُتَطَوِّعًا جَائِزٌ ثُمَّ يُصَالِحُونَهَا عَمَّا بَقِيَ فَالْإِقْرَاضُ أَنْفَعُ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ، حَتَّى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَصِلُوا إلَى حَقِّهِمْ مِنْ الدُّيُونِ يَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا عَلَى الْمَرْأَةِ، أَمَّا لَوْ عَجَّلُوا نَصِيبَهَا مُتَطَوِّعِينَ لَا يَصِلُونَ إلَى مَا أَدَّوْا لَا مِنْ جِهَةِ الْغَرِيمِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا رُجُوعَ لِلْمُتَطَوِّعِ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ أَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُقْرِضُوا نَصِيبَهَا مِنْ الدَّيْنِ فَالْحِيلَةُ أَنْ تَسْتَقْرِضَ نَصِيبَهَا مِنْ الدَّيْنِ مِنْ رَجُلٍ وَيُعَجَّلُ نَصِيبُهَا مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ يُصَالِحُونَهَا مِنْ الْمَالِ الْعَيْنِ، فَإِنْ أَبَى الْغَرِيمُ أَنْ يُقْرِضَ نَصِيبَهَا فَالْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ الْوَرَثَةُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَرَضًا مِنْ عُرُوضِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسِينَ الَّذِي هُوَ نَصِيبُهَا وَقَدْ يَفْعَلُ الْوَارِثُ هَذَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ صِحَّةُ الصُّلْحِ وَخُرُوجُهَا مِنْ الْبَيْنِ ثُمَّ تُحِيلُ الْمَرْأَةُ بِثَمَنِ ذَلِكَ الْعَرْضِ عَلَى الْغَرِيمِ ثُمَّ يُصَالِحُونَهَا مِنْ الْمَالِ الْعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تُجِيبُ إلَى ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يُتْوَى الْمَالُ عَلَى الْغَرِيمِ وَيَرْجِعُ الْوَارِثُ عَلَيْهَا بِثَمَنِ الْعَرَضِ فَالْحِيلَةُ أَنْ تُقِرَّ الْمَرْأَةُ بِاسْتِيفَاءِ نَصِيبِهَا مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْغَرِيمِ.
وَتَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهَا بِالِاسْتِيفَاءِ ثُمَّ يُصَالِحُونَهَا مِنْ الْمَالِ الْعَيْنِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَفِي الْمُنْتَقَى قَالَ هِشَامٌ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي نَوَادِرِهِ: قُلْت لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا نَقُولُ فِي رَجُلٍ أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ لَهُ سَنَةً فَمَاتَ الْمُوصِي فَأَرَادَ الْوَارِثُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُوصَى لَهُ وَصِيَّتَهُ فِي الْعَبْدِ؟ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ إذَا مَاتَ لَا يُورَثُ حَقُّ وَصِيَّتِهِ كَمَا لَا يُورَثُ حَقُّ الشَّفِيعِ فِي الشُّفْعَةِ وَلِأَنَّ حَقَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ وَلَا ثَمَنَ، وَعَقْدُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَقْدٌ خَاصٌّ يَرِدُ عَلَى مَالِهِ ثَمَنٌ وَلَهُ مَالِيَّةٌ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا: إنَّ بَيْعَ الْمَنَافِعِ بَاطِلٌ وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى مَا لَهُ مَالِيَّةٌ وَالْمَنَافِعُ لَا مَالِيَّةَ فِيهَا فَلَا يَرِدُ عَلَيْهَا الْبَيْعُ، كَذَا هُنَا فِي مَسْأَلَتِنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِي إذَا اشْتَرَى مِنْ الشَّفِيعِ حَقَّهُ بِمَالٍ كَانَ الشِّرَاءُ بَاطِلًا وَكَانَ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلشُّفْعَةِ وَإِبْطَالًا لَحَقِّهِ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَدْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُشْكِلَةً لَيْسَ لَهَا فِي الْأُمَّةِ مَنْ يَفْتَحُهَا، وَإِنَّمَا تُشْكِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِإِشْكَالِ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا لَهُ مَالِيَّةٌ وَثَمَنِيَّةٌ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ وَتُشْكِلُ هَذِهِ بِمَسْأَلَةِ الطَّلَاق فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: اشْتَرَيْت طَلَاقِي مِنْك بِكَذَا، فَقَالَ الزَّوْجُ: بِعْت؛ صَحَّ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ.
وَكَذَا لَوْ بَاعَ الزَّوْجُ مِنْهَا طَلَاقَهَا بِمَالٍ أَوْ بَاعَ بِضْعَهَا مِنْهَا بِمَالٍ وَاشْتَرَتْ مِنْهُ يَصِحُّ وَيَجِبُ الْبَدَلُ وَلَا مَالِيَّةَ فِي نَفْسِهَا وَلَا ثَمَنِيَّةَ، وَكَذَا لَا مَالِيَّةَ فِي طَلَاقِهَا وَلَا ثَمَنِيَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ صَحَّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَصِحَّةُ الطَّلَاقِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ تَقْتَضِي جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَجَوَازَ بَيْعِ الْمَنَافِعِ وَجَوَازَ بَيْعِ الْوَصِيَّةِ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: إنَّ مَشَايِخَنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- تُكَلَّفُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْكَرْخِيَّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَعْيَاهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ.
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي انْعِقَادِ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُوصَى لَهُ وَصِيَّتَهُ مِنْ الْوَارِثِ بِمَالٍ وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْمَبْسُوطِ يُخَالِفُهُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لِلْوَارِثِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْمُوصَى لَهُ وَصِيَّتَهُ بِمَالٍ كَيْفَ الْحِيلَةُ وَالثِّقَةُ لِلْوَارِثِ فِيهِ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُصَالِحَ الْوَارِثُ الْمُوصَى لَهُ مِنْ وَصِيَّتِهِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ فَيَجُوزُ وَيَبْطُلُ حَقُّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ لِلْوَارِثِ يَصْنَعُ بِهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الصُّلْحُ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ، وَالصُّلْحُ إذَا كَانَ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِ جِنْسِ الْحَقِّ يُعْتَبَرُ مُعَاوَضَةً وَتَمْلِيكًا وَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ هَذَا الصُّلْحِ تَمْلِيكًا؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ مَلَكَ خِدْمَةَ الْعَبْدِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَمَنْ مَلَكَ مَنْفَعَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَمْلِكُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِهِ بَعُوضٍ كَالْمُسْتَعِيرِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الصُّلْحَ مَتَى تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ تَمْلِيكًا فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ إسْقَاطًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ.

.(الْفَصْلُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الرَّهْنِ):

رَجُلٌ أَرَادَ أَنْ يَرْهَنَ نِصْفَ دَارِهِ أَوْ نِصْفَ ضِيَاعِهِ شَائِعًا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فَإِنْ طَلَبَا حِيلَةً فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ نِصْفَ دَارِهِ أَوْ نِصْفَ ضِيَاعِهِ بِالْمَالِ الَّذِي يُرِيدُ اسْتِقْرَاضَهُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِذَا تَقَابَضَا فَسَخَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فَيَبْقَى الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ إنْ هَلَكَ هَلَكَ بِالثَّمَنِ وَإِنْ دَخَلَهُ عَيْبٌ ذَهَبَ مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ، هَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي حِيَلِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرَى فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَا بِالْقِيمَةِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ فِي بَابِ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْمُشْتَرَى فِي خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْبَائِعِ بَعْدَ الْفَسْخِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ كَمَا قَبْلَ الْفَسْخِ وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ نَظِيرِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِلْمُشْتَرِي.
وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي حِيَلِ الْأَصْلِ وَقَالَ: الْحِيلَةُ أَنْ يَبِيعَ الْمُسْتَقْرِضُ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ الْمُقْرِضِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إلَى وَقْتِ كَذَا شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ رَدَّ الْمَالَ فِيهِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ.
وَقَدْ عُرِفَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ لَا تَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ فَنَقَضَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ مَا تَقَابَضَا فَالْجَوَابُ فِيهِ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ هَذَا الْمَبِيعَ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ إنْ هَلَكَ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ مِثْلَ قِيمَتِهِ وَيُتَرَادَّانِ الْفَضْلَ إنْ كَانَ هُنَاكَ فَضْلٌ.
(رَجُلٌ) أَرَادَ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْ رَجُلٍ رَهْنًا وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ بِأَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ أَرْضًا أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يَكُونَ دَارًا أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَسْكُنَهَا؛ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَرْتَهِنَ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَيَقْبِضَهُ ثُمَّ يَسْتَعِيرَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ الشَّيْءَ مِنْ الرَّاهِنِ، فَإِذَا أَعَارَهُ إيَّاهُ وَأَذِنَ لَهُ بِالِانْتِفَاعِ طَابَ لَهُ ذَلِكَ وَالْعَارِيَّةُ لَا تَرْفَعُ الرَّهْنَ وَلَكِنْ مَا دَامَ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُرْتَهِنُ لَا يَظْهَرُ حُكْمُ الرَّهْنِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الِانْتِفَاعِ يَعُودُ رَهْنًا كَمَا كَانَ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يُبْطِلُ الرَّهْنَ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ ثُمَّ ذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا تَرَكَ الِانْتِفَاعَ بِالدَّارِ وَفَرَّغَهَا تَعُودُ رَهْنًا فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مَعَ تَرْكِ الِانْتِفَاعِ التَّفْرِيغَ شَرْطٌ لِيَعُودَ رَهْنًا.
وَفِي الْمَبْسُوطِ قَالَ: إذَا تَرَكَ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَادَ رَهْنًا، فَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَرْهُونُ دَارًا اسْتَعَارَهَا الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّاهِنِ، وَنَقَلَ إلَيْهَا مَتَاعَهُ ثُمَّ تَرَكَ سُكْنَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ أَنَّهَا تَعُودُ رَهْنًا وَإِنْ لَمْ يُفَرِّغْ الدَّارَ.
وَشَرَطَ الْخَصَّافُ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- التَّفْرِيغَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ هَذَا مِنْ الْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
(رَجُلٌ) فِي يَدَيْهِ رَهْنٌ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَأَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُثْبِتَ الرَّهْنَ عِنْدَ الْقَاضِي حَتَّى يُسَجِّلَ لَهُ بِذَلِكَ وَيَحْكُمَ بِأَنَّهَا رَهْنٌ فِي يَدَيْهِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَأْمُرَ الْمُرْتَهِنُ رَجُلًا غَرِيبًا حَتَّى يَدَّعِيَ رَقَبَةَ هَذَا الرَّهْنِ وَيَقْدَمَ الْمُرْتَهِنُ إلَى الْقَاضِي فَيُقِيمَ الْمُرْتَهِنُ بَيِّنَةً عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ رَهَنَ عِنْدَهُ فَيَسْمَعَ الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ عَلَى الرَّهْنِ وَيَقْضِيَ بِكَوْنِهِ رَهْنًا عِنْدَهُ وَيَدْفَعَ خُصُومَةَ الْغَرِيبِ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْ الْخَصَّافِ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الرَّاهِنِ مَقْبُولَةٌ وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَائِبًا.
وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَشَوَّشَ فِيهِ الْجَوَابَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ شَرَطَ حَضْرَةَ الرَّاهِنِ لِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرَّهْنِ وَالْمَشَايِخُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، بَعْضُهُمْ قَالُوا: مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَقَعَ غَلَطًا مِنْ الْكَاتِبِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ، كَمَا لَوْ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ بَيِّنَةً أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ فِي يَدِهِ وَدِيعَةً مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ أَوْ مُضَارَبَةً أَوْ غَصْبًا أَوْ إجَارَةً، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا: فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَهَنَهُ فَقَدْ اسْتَحْفَظَهُ فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْحِفْظُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلرَّاهِنِ صَارَ خَصْمًا فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَأَشْبَاهِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الْغَائِبِ وَإِلَيْهِ مَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَهَذَا؛ لِأَنَّ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا حَاجَةَ لِصَاحِبِ الْيَدِ إلَى إثْبَاتِ الرَّهْنِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْيَدِ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ مِنْهُ،
كَمَا لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ وَقَدْ أَجَابَ بِمِثْلِ هَذَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي نَظَائِرِهِ، فَقَالَ: الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا أُسِرَ وَوَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ فَوَجَدَهُ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَهْنٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ وَأَخَذَهُ لَا يَكُونُ هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الرَّهْنِ فَإِنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْأَسْرِ كَافٍ لَهُ؛ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ الرَّهْنِ عَلَى الْغَائِبِ فِي مَسْأَلَتِنَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ.
وَفِي جَامِعِ الْفَتَاوَى وَلَوْ أَرَادَ أَنْ لَا يُبْطِلَ الدَّيْنَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَشْتَرِيَ مِنْهُ عَبْدًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَا يَقْبِضُهُ فَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ لَا يَبْطُلُ دَيْنُهُ وَلَوْ مَاتَ الْمَطْلُوبُ فَالطَّالِبُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، فَلَوْ قَضَى دَيْنَهُ فِي الْحَيَاةِ أَقَالَهُ الْبَيْعُ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا يُقْرِضَهُ رَبُّ الْمَالِ إلَّا دِرْهَمًا، ثُمَّ يُشَارِكَهُ بِالدَّرَاهِمِ الْبَاقِيَةِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا ثُمَّ عَمِلَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، كَذَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة.

.(الْفَصْلُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْمُزَارَعَةِ):

الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- خِلَافًا لَهُمَا، قَالَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَجُوزَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ أَنْ يَتَنَازَعَا إلَى قَاضٍ يَرَى الْمُزَارَعَةَ جَائِزَةً فَيَحْكُمُ بِجَوَازِهَا فَتَجُوزُ عِنْدَ الْكُلِّ.
(وَحِيلَةٌ أُخْرَى) أَنْ يَكْتُبَا كِتَابَ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا يُقِرَّانِ فِيهِ أَنَّ رَقَبَةَ هَذِهِ الضَّيْعَةِ لِفُلَانٍ الَّذِي هُوَ مَالِكُهَا وَيُقِرَّانِ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَأَنَّ مُزَارَعَتَهَا لَهُ كَذَا كَذَا مِنْ السِّنِينَ فَيَزْرَعُهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ بِبَذْرِهِ وَنَفَقَتِهِ وَأَعْوَانِهِ، فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَلَّتِهَا فِي هَذِهِ السِّنِينَ فَهُوَ كُلُّهُ لَهُ، وَيُقِرَّانِ أَيْضًا أَنَّ ذَلِكَ صَارَ لَهُ بِأَمْرِ حَقٍّ وَاجِبٍ لَازِمٍ فَإِذَا أَقَرَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نَفَذَ إقْرَارُهُمَا عَلَيْهِمَا وَيَكُونُ كُلُّ الْغَلَّةِ لِلْمَزَارِعِ ثُمَّ إنَّ هَذَا الْمَزَارِعَ يَحْتَالُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ فِي نِصْفِ الْغَلَّةِ أَيْضًا بِحِيلَةِ الْهِبَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا أَنَّهُمَا يَرْفَعَانِ إلَى قَاضٍ يَرَى جَوَازَ الْمُزَارَعَةِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ إلَى قَاضٍ مُوَلًّى حَتَّى يَقْضِيَ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ فَيَجُوزُ وَفِي كَلَامِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ وَكَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يَقُولُ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- مَالُوا عَنْ تَجْوِيزِ حُكْمِ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ فِي هَذِهِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَقَالُوا: يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ قَاضٍ مُوَلًّى وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ الْمُضَافِ، يَعْنِي مَشَايِخَنَا مَالُوا عَنْ تَجْوِيزِ حُكْمِ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ فِيهِ، قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ فِيهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُجْتَهَدَاتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فِي مَوَاضِعَ أَنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَاللِّعَانِ، وَلَكِنْ لَا يُفْتَى لِلْعَوَامِّ بِهَذَا كَيْ لَا يَتَجَاوَزُوا الْحَدَّ وَلَا يَتَخَبَّطُوا بِهِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ لَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ الْقَاضِي الْمُوَلَّى، حَتَّى لَوْ رَفَعَ حُكْمَهُ إلَى قَاضٍ مُوَلًّى يَرَى إبْطَالَهُ وَأَبْطَلَهُ صَحَّ إبْطَالُهُ إذَا شَرْطًا فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ يَرْفَعُ قَدْرَ بَذْرِهِ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا فَهَذِهِ الْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ فِي الْخَارِجِ عَسَى.
وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ يُوجِبُ فَسَادَ الْمُزَارَعَةِ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ صَاحِبُ الْبَذْرِ إلَى مِقْدَارِ بَذْرِهِ وَإِلَى مِقْدَارِ مَا يَخْرُجُ مِنْ مِثْلِ تِلْكَ الْأَرْضِ عَادَةً حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ بَذْرَهُ مِنْ الْخَارِجِ كَمْ يَكُونُ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ بَذْرِهِ مِنْ الْخَارِجِ الْعُشْرَ يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ الْعُشْرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْرُ بَذْرِهِ الثُّلُثَ يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ الثُّلُثَ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فَافْهَمْ.
وَفِي الْقُدُورِيِّ إذَا دَفَعَ بَذْرًا إلَى رَجُلٍ لِيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ بِنِصْفِ الْخَارِجِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ طَلَبًا حِيلَةً فِي ذَلِكَ حَتَّى تَجُوزَ بِلَا خِلَافٍ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ صَاحِبِ الْبَذْرِ نِصْفَ بَذْرِهِ وَيُبَرِّئَهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ عَنْ الثَّمَنِ ثُمَّ يَقُولَ صَاحِبُ الْأَرْضِ: ازْرَعْ أَرْضَك بِالْبَذْرِ كُلِّهِ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.

.(الْفَصْلُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْوَصِيِّ وَالْوَصِيَّةِ):

رَجُلٌ جَعَلَ رَجُلًا وَصِيَّهُ فِي مَالِهِ بِالْكُوفَةِ وَجَعَلَ رَجُلًا آخَرَ وَصِيَّهُ فِي مَالِهِ بِالشَّامِ وَجَعَلَ رَجُلًا آخَرَ وَصِيَّهُ فِي مَالِهِ بِبَغْدَادَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَوْصِيَاءُ الْمَيِّتِ فِي جَمِيعِ تَرِكَاتِهِ بِالْكُوفَةِ وَالشَّامِ وَبَغْدَادَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ وَصِيًّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُوصِي إلَيْهِ خَاصَّةً.
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مُضْطَرِبٌ فِي الْكُتُبِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْوِصَايَةُ لَا تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِنَوْعٍ وَاحِدٍ وَبِمَكَانٍ وَاحِدٍ وَزَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ تَعُمُّ فِي الْأَنْوَاعِ وَالْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ وَمَكَانٍ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُضْطَرِبٌ، هَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ فِي شَرْحِ حِيَلِ الْخَصَّافِ.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ حِيَلِ الْأَصْلِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِيرُ وَصِيًّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي خَصَّهُ وَفِي النَّوْعِ الَّذِي خَصَّهُ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَصِيًّا وَقَيِّمًا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمْ بِالتَّصَرُّفِ وَإِنْ كَانَتْ الْوِصَايَةُ مُتَفَرِّقَةً فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصِيَاءِ وَصِيًّا فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ وَيَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ بِالِاتِّفَاقِ- فَالْحِيلَةُ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أَوْصِيَاءَ فِي جَمِيعِ تَرِكَاتِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ فَهُوَ وَصِيٌّ فِي جَمِيعِ تَرِكَاتِهِ، وَعَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَقُومَ بِوَصِيَّتِهِ وَتَنْفِيذِ أَمْرِهِ فِيهَا، فَإِذَا فَعَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَصِيًّا عَامًا مُنْفَرِدًا بِالتَّصَرُّفِ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا لِشَرْطِ الْمُوصِي، فَإِنْ أَرَادَ الْمُوصِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصِيَاءِ وَصِيًّا فِيمَا أُوصِيَ إلَيْهِ خَاصَّةً لَا يَدْخُلُ مَعَ الْآخَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَقَاوِيلِ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَقُولَ: أَوْصَيْت إلَى فُلَانٍ فِي مَالِي بِبَغْدَادَ خَاصَّةً دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ الْبُلْدَانِ وَأَوْصَيْت إلَى فُلَانٍ آخَرَ فِي مَالِي بِالشَّامِ دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ الْبُلْدَانِ، فَإِذَا قَالَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَتَخَصَّصُ وِصَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصِيَاءِ بِالْمَالِ الَّذِي فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِهَذَا الْوَصِيِّ بِالِاتِّفَاقِ اعْتِبَارًا لِشَرْطِ الْمُوصِي.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ نَوْعُ نَظَرٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْصَيْت إلَى فُلَانٍ لَفْظٌ عَامٌّ يَقْتَضِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِفُلَانٍ عَامًّا ثُمَّ تَخْصِيصُهُ بِمَالِهِ بِبَغْدَادَ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْحَجْرِ الْخَاصِّ، وَالْحَجْرُ الْخَاصُّ إذَا وَرَدَ عَلَى الْإِذْنِ الْعَامِّ لَا يُعْتَبَرُ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إذْنًا عَامًّا ثُمَّ حَجَرِ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ التِّجَارَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ الْحَجْرُ، كَذَا هُنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّخْصِيصُ وَيَصِيرَ وَصِيًّا عَامًّا.
وَمَسْأَلَةٌ أُخْرَى يَتَرَدَّدُ فِيهَا الْمَشَايِخُ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّ مَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَجَعَلَهُ قَيِّمًا فِيمَا لَهُ عَلَى النَّاسِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ قَيِّمًا فِيمَا لِلنَّاسِ عَلَيْهِ، بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ هَذَا التَّقْيِيدُ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيَصِيرُ وَصِيًّا فِي الْكُلِّ فَعُلِمَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحِيلَةِ نَوْعَ شُبْهَةٍ.
(أَوْصَى) إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْبَلْ وَصِيَّتَهُ فَفُلَانٌ رَجُلٌ آخَرُ وَصِيُّهُ فَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ نِيَابَةٌ فَصَارَتْ كَالْوَكَالَةِ ثُمَّ التَّوْكِيلُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزٌ، إلَّا أَنْ يَعْزِلَهُ غَيْرَ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَنْعَزِلُ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَالْوَصِيُّ يَنْعَزِلُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْعَزْلِ وَالْفَرْقُ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ.