الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القواعد الفقهية ***
فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ وَخَرَّجَ الْآمِدِيُّ رِوَايَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ خَطَأَهُ هَلْ هُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَاهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ بِنَفْسِهِ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ بِوَكَالَتِهِمْ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فَلَا يَضْمَنُ لَهُمْ وَلَا يُهْدِرُ خَطَاءَهُ فَيَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِكَالَةِ لِعُمُومِهِمْ، وَذَكَرَ فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ رِوَايَتَيْنِ فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ بِمُجَرَّدِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِلْخِلَافِ فِي الْوِلَايَةِ وَالْوِكَالَةِ أَيْضًا، وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَيْضًا انْعِزَالُهُ بِالْعَزْلِ ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فَإِنْ قُلْنَا هُوَ وَكِيلٌ فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ وَإِنْ قُلْنَا هُوَ وَالٍ لَمْ يَنْعَزِلْ بِالْعَزْلِ كَمَا أَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ مَنْ بَايَعَهُ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ الْجَمِيعِ لَا عَنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ وَحْدَهُمْ، وَهَلْ لَهُمْ عَزْلُهُ إذَا كَانَ بِسُؤَالِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ عَزْلِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ سُؤَالِهِ لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ خِلَافٍ، هَذَا [ظَاهِرُ] مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ وَأَمَّا مَنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ كَالْجَيْحُونِ مِنْ تَوْلِيَتِهِ فَإِنْ كَانَ نَائِبًا عَنْهُ كَالْوَزِيرِ فَإِنَّهُ كَالْوَكِيلِ لَهُ يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَبِمَوْتِهِ وَإِنْ كَانَ نَائِبًا عَنْ الْمُسْلِمِينَ كَالْأَمِيرِ الْعَامِّ لَمْ يَنْعَزِلْ بِمَوْتِ الْإِمَامِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ فَأَمَّا الْقُضَاةُ فَهَلْ هُمْ نُوَّابُ الْإِمَامِ أَوْ الْمُسْلِمِينَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا جَوَازُ عَزْلِ الْإِمَامِ لَهُ وَعَزْلِهِ لِنَفْسِهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ الْخِلَافَ مُطَّرِدٌ فِي وِلَايَةِ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْبِلَادِ وَجِبَايَةِ الْخَرَاجِ. وَأَمَّا نُوَّابُ الْقَاضِي فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ وِلَايَتُهُ خَاصَّةٌ كَمَنْ فَوَّضَ إلَيْهِ سَمَاعَ شَهَادَةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ إحْضَارَ الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فَهُمْ كَالْوُكَلَاءِ يَنْعَزِلُونَ بِعَزْلِهِ وَمَوْتِهِ. وَالثَّانِي: مَنْ وِلَايَتُهُ عَامَّةٌ كَخُلَفَائِهِ وَأُمَنَائِهِ عَلَى الْأَطْفَالِ وَنُوَّابِهِ عَلَى الْقُرَى فَهَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ وُكَلَائِهِ أَوْ نُوَّابِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْآمِدِيُّ، وَصَحَّحَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ عَدَمَ الِانْعِزَالِ، وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ عَنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُمْ يَنْعَزِلُونَ لِأَنَّهُمْ نُوَّابُ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْقُضَاةِ فَإِنَّهُمْ نُوَّابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ نَصْبُ الْقُضَاةِ وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقُضَاةِ الِاسْتِنَابَةُ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ بِفَرْضِ كِفَايَةٍ عَلَى رِوَايَةٍ وَلَا يَجِبُ نَصْبُ قَاضٍ بِالْكُلِّيَّةِ وَبِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي عَدَمِ نُفُوذِ الْعَزْلِ وَلِهَذَا مَنْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ خَفِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِأَدَائِهَا وَلَهُ عَزْلُ الْمُوصَى إلَيْهِ بِذَلِكَ وَاسْتِبْدَالُهُ؛ وَأَمَّا الْمُتَصَرِّفُ تَصَرُّفًا خَاصًّا بِتَفْوِيضِ مَنْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُفَوِّضُ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَنَاظِرِ الْوَقْفِ فَإِذَا عَقَدَ عَقْدًا جَائِزًا أَوْ مُتَوَقَّعَ الِانْفِسَاخِ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْوِكَالَة وَإِجَارَةِ الْوَقْفِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا أَذِنَ لَهُ مُوَكِّلُهُ أَنْ يُوَكِّلَ فَيَكُونُ وَكِيلُهُ وَكِيلًا لِمُوَكِّلِهِ لَا لَهُ. وَالثَّانِي: مَنْ يُفَوِّضُ حُقُوقَ نَفْسِهِ فَهَذِهِ وَكَالَةٌ مَحْضَةٌ.
عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْوَكِيلُ وَغَيْرُهُ وَالْإِذْنُ لِلزَّوْجَةِ أَوْ الْعَبْدِ فِيمَا لَا يَمْلِكَانِهِ بِدُونِ إذْنٍ إذَا وُجِدَ بَعْدَهُ نَهْيٌ لَمْ يَعْلَمَاهُ مُخَرَّجٌ عَلَى الْوَكِيلِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَكَذَلِكَ إذْنُ الْمُرْتَهِنِ لِلرَّاهِنِ فِي التَّصَرُّفِ إذَا مُنِعَ مِنْهُ قَبْلَ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ وَلَمْ يَعْلَمْ، وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ وَدَخَلَ فِي هَذَا صُوَرٌ: مِنْهَا الْحَاكِمُ إذَا قِيلَ بِانْعِزَالِهِ قَالَ الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي فِي الْوَكِيلِ. وَفِي التَّلْخِيصِ لَا يَنْعَزِلُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لِأَنَّ فِي وِلَايَتِهِ حَقًّا لِلَّهِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ وَكِيلٌ فَهُوَ شَبِيهٌ بِنَسْخِ الْأَحْكَامِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ بُلُوغِ النَّاسِخِ عَلَى الصَّحِيحِ بِخِلَافِ الْوِكَالَةِ الْمَحْضَةِ. قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَيْضًا فَإِنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ عُمُومِ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ فَتَعْظُمُ الْبَلْوَى بِإِبْطَالِهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْوِكَالَةِ. وَمِنْهَا عُقُودُ الْمُشَارَكَاتِ كَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا تَنْفَسِخُ قَبْلَ الْعِلْمِ كَالْوِكَالَةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ فِيمَا سَبَقَ فِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّهَا لَا تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ الْمُضَارِبِ حَتَّى يَعْلَمَ رَبُّ الْمَالِ. وَمِنْهَا الْوَدِيعَةُ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِلَافِهِ أَنَّ لِلْمُودَعِ فَسْخَهَا بِالْقَوْلِ فِي غَيْبَةِ الْمُودِعِ وَتَنْفَسِخُ قَبْلَ عِلْمِ الْمُودِعِ بِالْفَسْخِ وَتَبْقَى فِي يَدِهِ أَمَانَةً كَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلَى بَيْتِهِ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ إنَّهُ ذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْوِكَالَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ بِالْقَوْلِ وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ إلَى صَاحِبِهَا أَوْ بِأَنْ يَتَعَدَّى الْمُودَعُ فِيهَا فَلَوْ قَالَ الْمُودَعُ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَبِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ فِي غَيْبَتِهِ فَسَخْت الْوَدِيعَةَ أَوْ أَزَلْت نَفْسَهَا عَنْهَا لَمْ تَنْفَسِخْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَضْمَنْهَا. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْرِيقًا بَيْنَ فَسْخِ الْمُودِعِ وَالْمُودَعِ أَوْ يَكُونَ اخْتِلَافًا مِنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ فَسْخَ الْمُودِعِ إخْرَاجٌ لِلْمُودَعِ عَنْ الِاسْتِحْفَاظِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَأَمَّا الْمُودَعُ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا تَصَرُّفٌ سِوَى الْإِمْسَاكِ وَالْحِفْظِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرْفَعَهُ مَعَ وُجُودِهِ وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلِكَ مَسَائِلُ: مِنْهَا الطَّلَاقُ وَمِنْهَا الْخُلْعُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْمَذْهَبِ سَوَاءٌ قِيلَ هُوَ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ وَلَنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قُلْنَا إنَّهُ فَسْخٌ كَالْإِقَالَةِ وَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ اللَّازِمِ لَا يَسْتَقِلُّ بِهِ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الزَّوْجَ يَسْتَقِلُّ بِإِزَالَتِهِ بِالطَّلَاقِ. وَمِنْهَا الْعِتْقُ وَلَوْ كَانَ عَلَى مَالٍ نَحْوَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَلَيَّ ثَمَنُهُ وَمِنْهَا فَسْخُ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ عَبْدٍ، وَمِنْهَا فَسْخُ الْبَيْعِ الْمَعِيبِ وَالْمُدَلَّسِ وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، وَمِنْهَا فَسْخُ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ بِدُونِ عِلْمِ الْآخَرِ وَقَدْ سَبَقَتْ وَمِنْهَا الْفَسْخُ بِالْخِيَارِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَمْلِكُ الْخِيَارَ بِغَيْرِ عِلْمِ الْآخَرِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرِينَ وَخَرَّجَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا أَنْ يَبْلُغَهُ فِي الْمُدَّةِ مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ يَتَصَرَّفُ بِالْفَسْخِ لِنَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْفُسُوخُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِ الْفَسْخِ بِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ الْفَسْخُ بِهِ عَلَى حَاكِمٍ كَسَائِرِ مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِي: مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ وَالْعُيُوبِ فِي الزَّوْجِ وَغَيْبَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَيَفْتَقِرُ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ لِأَنَّهَا أُمُورٌ اجْتِهَادِيَّةٌ فَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ ضَعِيفًا يَسُوغُ نَقْضُ الْحُكْمِ بِهِ لَمْ يَفْتَقِرْ الْفَسْخُ بِهِ إلَى حُكْمِ حَاكِمٍ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَخْذُ بَائِعِ الْمُفْلِسِ سِلْعَتَهُ إذَا وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا وَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلَى نَقْضِ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ لَهُ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ فَإِنَّ فِي تَوَقُّفِ فَسْخِ نِكَاحِهَا عَلَى الْحَاكِمِ رِوَايَتَيْنِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ تَتَزَوَّجُ وَإِنْ لَمْ تَأْتِ السُّلْطَانَ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلَعَلَّهُ رَأَى الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ لَا يَسُوغُ لِأَنَّهُ إجْمَاعُ عُمَرَ وَالصَّحَابَةِ، وَرَجَّحَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ جَمِيعَ الْفُسُوخِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى حَاكِمٍ.
فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ تَتَخَرَّجُ عَلَيْهِمَا صُوَرٌ: مِنْهَا لَوْ تَصَرَّفَ فِي مَالِ غَيْرِهِ بِعَقْدٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ هَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَمِنْهَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ خَرَجْت بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ أَذِنَ لَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ بِإِذْنِهِ فَخَرَجَتْ فَهَلْ تَطْلُقُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ،: وَأَشْهَرُهُمَا - هُوَ الْمَنْصُوصُ - أَنَّهَا تَطْلُقُ لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ قَدْ وُجِدَ وَهُوَ خُرُوجُهَا عَلَى وَجْهِ الْمُشَاقَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهَا أَقْدَمَتْ عَلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ هُنَا إبَاحَةٌ بَعْدَ حَظْرٍ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا بِدُونِ عِلْمِهَا كَإِبَاحَةِ الشَّرْعِ، وَلِأَبِي الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ وَهِيَ أَنَّ دَعْوَاهُ الْإِذْنَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الظَّاهِرِ فَلَوْ أَشْهَدَ عَلَى الْإِذْنِ لَنَفَعَهُ ذَلِكَ وَلَمْ تَطْلُقْ وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَمِنْهَا لَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فِي التَّصَرُّفِ فَتَصَرَّفَ بَعْدَ الْإِذْنِ وَقَبْلَ الْعِلْمِ فَهَلْ يَنْفُذُ أَمْ لَا؟ يَتَخَرَّجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي التَّوْكِيلِ وَأَوْلَى وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ بِعَدَمِ النُّفُوذِ. وَمِنْهَا لَوْ غَصَبَ طَعَامًا مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ أَبَاحَهُ لَهُ الْمَالِكُ ثُمَّ أَكَلَهُ الْغَاصِبُ غَيْرَ عَالَمٍ بِالْإِذْنِ ضَمِنَ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ فِيمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ كَمَنْ وَطِئَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَتَبَيَّنَتْ زَوْجَتَهُ فَإِنَّهُ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ وَلَا عِبْرَةَ بِاسْتِصْحَابِ أَصْلِ الضَّمَانِ مَعَ زَوَالِ سَبَبِهِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي الصَّوْمِ يَظُنُّ الشَّمْسَ لَمْ تَغْرُبْ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ غَرَبَتْ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ.
وَفِيهَا خِلَافٌ أَيْضًا وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا صُوَرٌ: مِنْهَا لَوْ بَاعَ مِلْكَ أَبِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَدْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَفِي صِحَّةِ تَصَرُّفِهِ وَجْهَانِ وَيُقَالُ رِوَايَتَانِ. وَمِنْهَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَتَبَيَّنَتْ زَوْجَتَهُ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ رِوَايَتَانِ، وَبَنَاهُمَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى أَنَّ الصَّرِيحَ هَلْ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ أَمْ لَا؟ قَالَ الْقَاضِي إنَّمَا هَذَا الْخِلَافُ فِي صُورَةِ الْجَهْلِ بِأَهْلِيَّةِ الْمَحَلِّ وَلَا يَطَّرِدُ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ. وَمِنْهَا لَوْ لَقِيَ امْرَأَةً فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ تَنَحِّي يَا حُرَّةُ فَإِذَا هِيَ أَمَتُهُ وَفِيهَا الْخِلَافُ أَيْضًا، وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الْمُغْنِي احْتِمَالُ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ هَذَا يُقَالُ كَثِيرًا فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْعِتْقُ. وَهَذَا مَعَ إطْلَاقِ الْقَصْدِ فَأَمَّا إنْ قَصَدَ بِهِ الْمَدْحَ بِالْعِفَّةِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَتْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ وَيَتَنَزَّلُ الْخِلَافُ فِي هَذَا عَلَى [أَنَّ] الرِّضَا بِغَيْرِ الْمَعْلُومِ هَلْ هُوَ رِضًى مُعْتَبَرٌ وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ اعْتِبَارُهُ. وَمِنْهَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ [عَلَيْهِ] ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَفِيهَا الْوَجْهَانِ. وَمِنْهَا لَوْ جَرَحَهُ جُرْحًا لَا قِصَاصَ فِيهِ فَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ وَسِرَايَتِهِ ثُمَّ سَرَى إلَى نَفْسِهِ فَهَلْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ؟ يُخَرَّجُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّين فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ وَبَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْقِصَاصَ هَلْ يَجِبُ لِلْمَيِّتِ أَوْ لِوَرَثَتِهِ كَالدِّيَةِ، وَجَزَمَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ هَاهُنَا. وَمِنْهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ قَبْلَ الزَّمَانِ الْمُعْتَبَرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَيْتًا قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ تَنْقَضِي فِيهَا الْعِدَّةُ أَوْ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا فَفِي صِحَّةِ النِّكَاحِ الْوَجْهَانِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَرَجَّحَ صَاحِبُ الْمُغْنِي عَدَمَ الصِّحَّةِ هُنَا لِفَقْدِ شَرْطِ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ الْمُرْتَابَةُ قَبْلَ زَوَالِ الرِّيبَةِ. وَمِنْهَا لَوْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِإِعْتَاقِ عَبْدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ لِلْآمِرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَفِي التَّلْخِيصِ يَحْتَمِلُ تَخْرِيجُهُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَكِنْ يَرْجِعُ هُنَا عَلَى الْآمِرِ بِالْقِيمَةِ لِتَغْرِيرِهِ لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَنْفُذَ لِتَغْرِيرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَغْرُرْهُ أَحَدٌ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْذُورٍ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ إذْ الْمُخَاطَبَةُ بِالْعِتْقِ لِعَبْدِ غَيْرِهِ شَبِيهٌ بِعِتْقِ الْهَازِلِ وَالْمُتَلَاعِبِ فَيَنْفُذُ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ وَنَظِيرُ هَذِهِ فِي الطَّلَاقِ أَنْ يُوَكِّلَهُ شَخْصٌ فِي تَطْلِيقِ زَوْجَتِهِ وَيُشِيرُ إلَى امْرَأَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَيُطَلِّقُهَا ظَانًّا أَنَّهَا امْرَأَةُ الْمُوَكِّلِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ. وَقَدْ تُخَرَّجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَسْأَلَةِ مَا إذَا نَادَى امْرَأَةً فَأَجَابَتْهُ امْرَأَتُهُ الْأُخْرَى فَطَلَّقَهَا يَنْوِي الْمُنَادَاةَ فَإِنَّهُ تَطْلُقُ الْمُنَادَاةُ وَحْدَهَا وَلَا تَطْلُقُ الْمُوَاجِهَةُ فِي الْبَاطِنِ وَفِي الظَّاهِرِ رِوَايَتَانِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَطْلُقُ الْمُوَكَّلُ فِي طَلَاقِهَا هُنَا وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الطَّلَاقَ هُنَا انْصَرَفَ إلَى جِهَةٍ مَقْصُودَةٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى صَرْفِهِ إلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ كَانَتْ مُوَاجِهَةً بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ جِهَةٌ سِوَى الْمُوَاجِهَةِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَصِيرُ يَصْرِفُهُ عَنْهَا هَزْلًا وَلَعِبًا وَلَا هَزْلَ فِي الطَّلَاقِ. وَمِنْهَا لَوْ اشْتَرَى آبِقًا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَبَانَ بِخِلَافِهِ فَفِي صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجْهَانِ لِاعْتِقَادِهِ فَقْدَ شَرْطِ الصِّحَّةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْبَاطِنِ وَفِي الْمُغْنِي احْتِمَالٌ ثَالِثٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ مُتَلَاعِبٌ، وَبَيْنَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَيَصِحُّ لِأَنَّهُ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ بَاطِلًا وَقَدْ تَبَيَّنَ وُجُودُ شَرْطِ صِحَّتِهِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ لِلْمَسْأَلَةِ الْتِفَاتًا إلَى مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْهَازِلِ وَالْمَشْهُورُ بُطْلَانُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّاب فِي انْتِصَارِهِ هُوَ صَحِيحٌ وَهَذَا يُرَجِّحُ وَجْهَ بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِي الْمَسَائِلِ الْمَبْدُوءِ بِهَا.
فَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْتِنَادُ إلَى مَا ظَنَّهُ صَحِيحًا أَيْضًا فَالتَّصَرُّفُ صَحِيحٌ مِثْلُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى الْقِبْلَةِ بِنَجْمٍ يَظُنُّهُ الْجَدْيَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ نَجْمٌ آخَرُ مُسَامِتُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ مَا ظَنَّهُ مُسْتَنِدًا [اسْتِنَادًا] صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَيَتَصَرَّفَ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الشِّرَاءَ كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّهُ وَرِثَ تِلْكَ الْعَيْنَ فَإِنْ قُلْنَا فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى بِالصِّحَّةِ فَهُنَا أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا ثُمَّ بِالْبُطْلَانِ فَيَحْتَمِلُ هُنَا الصِّحَّةَ لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ إلَى سَبَبٍ مُسَوِّغٍ وَكَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَهُ مُسَوِّغٌ غَيْرُهُ فَاسْتَنَدَ التَّصَرُّفُ إلَى مُسَوِّغٍ فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ بِخِلَافِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ [رَحِمَهُ اللَّهُ]. وَالْمَذْهَبُ هُنَا الصِّحَّةُ بِلَا رَيْبٍ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا وَهَبَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ مِنْ مَالِكِهِ وَأَقْبَضَهُ إيَّاهُ هَلْ يَبْرَأُ بِهِ أَمْ لَا؟ وَحَكَى فِيهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَتَيْنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ مُعَلِّلًا بِأَنَّهُ يَحْمِلُ مِنَّتَهُ وَرُبَمَا كَافَأَهُ عَلَى ذَلِكَ وَاخْتَارَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي أَنَّهُ يَبْرَأُ لِأَنَّ الْمَالِكَ تَسَلَّمَهُ تَسْلِيمًا تَامًّا وَعَادَتْ سَلْطَنَتُهُ إلَيْهِ فَبَرِئَ [الْغَاصِبُ] بِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَهُ إلَيْهِ فَأَكَلَهُ فَإِنَّهُ أَبَاحَهُ إيَّاهُ وَلَمْ يُمَلِّكْهُ [إيَّاهُ] فَلَمْ يَعُدْ إلَى سَلْطَنَتِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمَالِكِ تَعُودُ إلَيْهِ بِعَوْدِ مِلْكِهِ عَلَى طَرِيقِ الْهِبَةِ مِنْ الْغَاصِبِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْحَالِ.
فِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ وَلَهَا صُوَرٌ: مِنْهَا بَاعَ عَيْنًا ثُمَّ وَهَبَ ثَمَنَهَا لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ثُمَّ بَانَ بِهَا عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ فَهَلْ لَهُ رَدُّهَا وَالْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَكَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ بَعْضِ الثَّمَنِ فَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقَدْرِ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، وَاخْتَارَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ أَنَّهُ إذَا رَدَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَبْرَأَهُ مِنْهُ وَيَتَخَرَّجُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ فَيَرْجِعُ بِالْهِبَةِ دُونَ الْإِبْرَاءِ وَسَنَذْكُرُ أَصْلَهُ وَلَوْ ظَهَرَ هَذَا الْمَبِيعُ [مَعِيبًا] بَعْدَ أَنْ تَعَيَّبَ عِنْدَهُ فَهَلْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِأَرْشِ الْعَيْبِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا يُخَرِّجُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي رَدِّهِ وَالْأُخْرَى يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ هُنَا وَجْهًا وَاحِدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْهُ تَبَرُّعًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ لِئَلَّا تَجْتَمِعَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالثَّمَنِ وَبَعْضِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ لَهُ ذَلِكَ. وَمِنْهَا لَوْ تَقَايَلَا فِي الْعَيْنِ بَعْدَ هِبَةِ ثَمَنِهَا أَوْ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ. وَمِنْهَا لَوْ أَصْدَقَ زَوْجَتَهُ عَيْنًا فَوَهَبَتْهَا مِنْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِبَدَلِ نِصْفِهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا يَرْجِعُ فَهَلْ يَرْجِعُ إذَا كَانَ الصَّدَاقُ دَيْنًا فَأَبْرَأَتْهُ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْهُ. وَمِنْهَا لَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَبْرَأَهُ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الْمَكَاتِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِيتَاءِ الْوَاجِبِ أَمْ لَا؟ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَهَا عَلَى الْخِلَافِ وَضَعَّفَ صَاحِبُ الْمُغْنِي ذَلِكَ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ عَنْهُ يَقُومُ مَقَامَ إيتَائِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ إيتَاؤُهُ وَاسْتَوْفَى الْبَاقِيَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ شَيْئًا، وَأَيْضًا فَالسَّيِّدُ أَسْقَطَ عَنْ الْمُكَاتَبِ مَا وُجِدَ سَبَبُ إيتَائِهِ إيَّاهُ فَقَامَ مَقَامَ الْإِيتَاءِ بِخِلَافِ إسْقَاطِ الْمَرْأَةِ الصَّدَاقَ قَبْلَ الطَّلَاقِ. وَمِنْهَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو ثُمَّ رَجَعَا وَقَدْ قَبَضَهُ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو ثُمَّ وَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمَا الضَّمَانُ، وَلَوْ كَانَ دَيْنًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا شَيْءٌ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَلَمْ يُخَرِّجْهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُولَى لِأَنَّ الضَّمَانَ لَزِمَهُمَا بِوُجُوبِ التَّغْرِيمِ وَعَوْدِ الْعَيْنِ إلَى الْغَارِمِ مِنْ الْمَحْكُومِ لَهُ بِهِبَةٍ لَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ كَمَا لَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الرَّدِّ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِتَحَمُّلِ مِنَّتِهِ نَعَمْ يَتَخَرَّجُ الْقَوْلُ بِسُقُوطِ الضَّمَانِ هُنَا إذَا قُلْنَا بِبَرَاءَةِ الْغَاصِبِ بِإِعَادَةِ الْمَالِ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ هِبَةً لِأَنَّهُمَا اعْتَرَفَا بِأَنَّهُ قَبَضَهُ عُدْوَانًا ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ هِبَةً، وَأَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى شَهَادَتِهِمَا غُرْمٌ فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُمَا الضَّمَانُ. وَمِنْهَا لَوْ قَضَى الضَّامِنُ الدَّيْنَ ثُمَّ وَهَبَهُ الْغَرِيمُ مَا قَضَاهُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَهَلْ يَرْجِعُ عَلَى الْمَضْمُونِ عَنْهُ؟ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ. وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ قَضَى الدَّيْنَ بِنَقِيضِهِ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِمَا قَضَى وَجَعَلُوهُ كَالْمُقْرِضِ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِمَا غَرِمَ لَكِنَّ هَذَا فِي الْإِبْرَاءِ وَالْمُسَامَحَةِ ظَاهِرٌ فَأَمَّا إنْ قَضَى الدَّيْنَ لِكَمَالِهِ ثُمَّ وَهَبَهُ الْغَرِيمُ مِنْهُ فَلَا يَبْعُدُ تَخْرِيجُهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.
هِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ الْجَازِمَةُ فَلَا يَصِحُّ إيقَاعُهُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ مَا لَمْ يَكُنْ الشَّكُّ غَلَبَةَ ظَنٍّ تَكْفِي مِثْلَهُ فِي إيقَاعِ الْعِبَادَةِ أَوْ الْعَقْدِ كَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَطَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ إذَا صَلَّى يَظُنُّ نَفْسَهُ مُحْدِثًا فَتَبَيَّنَ مُتَطَهِّرًا. وَمِنْهَا لَوْ شَكَّ هَلْ ابْتَدَأَ [مُدَّةَ] مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَرِ فَمَسَحَ يَوْمًا آخَرَ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْحَضَرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ابْتَدَأَهَا فِي السَّفَرِ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ بِالشَّكِّ وَهَلْ يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْوُضُوءِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ وَبِهِ جَزَمَ فِي الْمُغْنِي لِأَنَّ الْوُضُوءَ يَصِحُّ مَعَ الشَّكِّ فِي سَبَبِهِ كَمَنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ فَتَوَضَّأَ يَنْوِي رَفْعَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ مُحْدِثًا. وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْمَسْحَ رُخْصَةٌ وَلَمْ تَتَحَقَّقْ إبَاحَتُهَا فَلَمْ يَصِحَّ كَمَنْ قَصَرَ وَهُوَ يَشُكُّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ. وَمِنْهَا [لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ إنَاءٍ مُشْتَبَهٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ طَاهِرٌ لَمْ تَصِحَّ طَهَارَتُهُ فِي الْمَشْهُورِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحُسَيْنِ يَصِحُّ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْجَزْمَ بِصِحَّةِ الْوُضُوءِ لَا يُشْتَرَطُ كَمَا سَبَقَ]. وَمِنْهَا لَوْ تَوَضَّأَ شَاكًّا فِي الْحَدَثِ أَوْ صَلَّى مَعَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَنَوَى الْفَرْضَ إنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ الْوَقْتُ قَدْ دَخَلَ وَإِلَّا فَالتَّجْدِيدُ أَوْ النَّفَلُ، فَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُهُ وَلَوْ لَمْ يَنْوِهِ، فَإِذَا نَوَاهُ لَمْ يَضُرَّهُ. وَمِنْهَا لَوْ كَانَ لَهُ مَال حَاضِرٌ وَغَائِبٌ فَأَدَّى زَكَاةً وَنَوَى أَنَّهَا عَنْ الْغَائِبِ إنْ كَانَ سَالِمًا وَإِلَّا فَتَطَوُّعٌ فَبَانَ سَالِمًا أَجْزَأَهُ لِمَا ذَكَرْنَا وَحُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ عَنْ الْفَرْضِ. وَيَتَخَرَّجُ مِنْهُ وَجْهٌ فِي الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَأَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَبْنِ عَلَى أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ وَلَكِنَّهُ بَنَى عَلَى غَلَبَةِ ظَنٍّ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَهُوَ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَمِنْهَا إذَا نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ نَفْلٌ. فَهَلْ يُجْزِئُهُ عَنْ رَمَضَانَ إنْ وَافَقَ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ هَلْ تُشْتَرَطُ لِرَمَضَانَ فَإِنْ قُلْنَا تُشْتَرَطُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ لَمْ يُجْزِئْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالتَّعْيِينِ وَلَمْ يَبْنِ عَلَى أَصْلٍ مُسْتَصْحَبٍ يَجُوزُ الصِّيَامُ فِيهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الزَّكَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنَا صَائِمٌ عَنْهُ وَإِلَّا فَأَنَا مُفْطِرٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ صِيَامُهُ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ بُنِيَ عَلَى أَصْلٍ لَمْ يَثْبُتْ زَوَالُهُ وَلَا يَقْدَحُ تَرَدُّدَهُ لِأَنَّهُ حُكْمُ صَوْمِهِ مَعَ الْجَزْمِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُجْزِئُهُ لِلتَّرَدُّدِ، وَنَقَلَ صَالِحٌ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ النِّيَّةُ الْمُتَرَدِّدَةُ مَعَ الْغَيْمِ دُونَ الصَّحْوِ لِأَنَّ الصَّوْمَ مَعَ الْغَيْمِ لَا يَخْلُو مِنْ تَرَدُّدٍ يُنَافِي الْجَزْمَ فَإِذَا تَرَدَّدَتْ النِّيَّةُ فَقَدْ نَوَى حُكْمَ الصَّوْمِ فَلَا يَضُرُّهُ بِخِلَافِ حَالَةِ الصَّحْوِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى التَّرَدُّدِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ جَازِمَةٍ فَالصَّحِيحُ فِيهِ الصِّحَّةُ وَقَدْ سَبَقَ مِنْ أَمْثِلَتِهِ إذَا نُكِحَتْ امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ قَبْلَ أَنْ يَجُوزَ لَهَا النِّكَاحُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ. وَمِنْهَا لَوْ كَانَ عِنْدَ رَجُلٍ دَنَانِيرُ وَدِيعَةً فَصَارَفَهُ عَلَيْهَا وَهُوَ يَجْهَلُ بَقَاءَهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَالِفَةً فَتَكُونُ مُصَارَفَةً عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الذِّمَّةِ وَلَا حَاضِرَةً فَتَكُونُ مُصَارَفَةً عَلَى عَيْنٍ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَصِحُّ لِأَنَّ الْأَصَحَّ بَقَاؤُهَا فَصَارَ كَبَيْعِ الْحَيَوَانِ الْغَائِبِ بِالصِّفَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مَعَ احْتِمَالِ تَلَفِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً تَقَابَضَا وَصَحَّ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ إذَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ فَأَمَّا إنْ تَلِفَتْ تَلَفًا مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ فَيَنْبَنِي عَلَى تَعْيِينِ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ قُلْنَا يَتَعَيَّنُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ وَإِلَّا صَحَّ وَقَامَتْ الدَّنَانِيرُ الَّتِي فِي الذِّمَّةِ مَقَامَ الْوَدِيعَةِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ لِلصَّرْفِ التَّعْيِينُ فَلَا يَصِحُّ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ. وَمِنْهَا لَوْ وَكَّلَهُ فِي شِرَاءِ جَارِيَةٍ فَاشْتَرَاهَا لَهُ ثُمَّ جَحَدَ الْمُوَكِّلُ الْوِكَالَةَ فَأَرَادَ الْوَكِيلُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِالْمِلْكِ ثُمَّ قَالَ لَهُ إنْ كُنْتُ أَذِنْت لَك فِي شِرَائِهَا فَقَدْ بِعْتُكَهَا فَهَلْ يَصِحُّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي احْتِمَالًا لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى شَرْطٍ وَاقِعٍ يَعْلَمَانِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذِكْرُهُ فِي الْعَقْدِ كَمَا لَوْ قَالَ بِعْتُك هَذِهِ إنْ كَانَتْ جَارِيَةً وَيَشْهَدُ لَهُ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ بِصِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ إنْ كَانَ سَالِمًا فَإِنَّ هَذَا مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْعَقْدِ فَلَا يَضُرُّ تَعْلِيقُ الْبَيْعِ [عَلَيْهِ]. وَمِنْهَا الرَّجْعَةُ فِي عَقْدِ نِكَاحٍ شُكَّ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِيهِ قَالَ أَصْحَابُنَا هِيَ رَجْعَةٌ صَحِيحَةٌ رَافِعَةٌ لِلشَّكِّ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي أَفْتَى فِيهَا شَرِيكٌ بِأَنَّهُ يُطَلِّقُ ثُمَّ يُرَاجِعُ وَمَأْخَذُهُ أَنَّ الرَّجْعَةَ مَعَ الشَّكِّ فِي الطَّلَاقِ يُصَيِّرُهَا كَالْمُعَلَّقَةِ عَلَى شَرْطٍ وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا فَلَا يَصِحُّ تَمْثِيلُ قَوْلِهِ بِمَنْ شَكَّ فِي نَجَاسَةِ ثَوْبِهِ فَأَمَرَ بِتَنْجِيسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهُ وَكَذَلِكَ لَمْ يُصِبْ مَنْ أَدْخَلَ قَوْلَهُ فِي أَخْبَارِ الْمُغَفَّلِينَ فَإِنَّ مَأْخَذَهُ فِي ذَلِكَ خَفِيٌّ عَنْهُ فَأَمَّا الرَّجْعَةُ مَعَ الشَّكِّ فِي حُصُولِ الْإِبَاحَةِ بِهَا كَمَنْ طَلَّقَ وَشَكَّ هَلْ طَلَّقَ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَ فِي الْعِدَّةِ فَيَصِحُّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا هَاهُنَا لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النِّكَاحِ وَقَدْ شَكَّ فِي انْقِطَاعِهِ [وَالرَّجْعَةُ اسْتِيفَاءٌ لَهُ فَصَحَّ مَعَ الشَّكِّ فِي انْقِطَاعِهِ] وَعِنْدَ الْخِرَقِيِّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ سَبَبَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ ثَلَاثًا فَقَدْ حَصَلَ التَّحْرِيمُ بِدُونِ زَوْجٍ وَأَصَابَهُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدَةً فَقَدْ حَصَلَ بِهِ التَّحْرِيمُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِدُونِ عَقْدٍ جَدِيدٍ فَالرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَحْصُلُ بِهَا الْحِلُّ إلَّا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَطْ فَلَا يَزُولُ الشَّكُّ مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ تَيَقُّنَ سَبَبِ وُجُودِ التَّحْرِيمِ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْهُ يَقُومُ مَقَامَ تَحَقُّقِ وُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْمَانِعِ فَيُسْتَصْحَبُ حُكْمُ [وُجُودِ] السَّبَبِ كَمَا يُعْمَلُ بِالْحُكْمِ وَيُلْغَى الْمَانِعُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ كَمَا يُلْغَى مَعَ تَيَقُّنِ وُجُودِ حُكْمِهِ وَقَدْ اسْتَشْكَلَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ كَلَامَ الْخِرَقِيِّ فِي تَعْلِيلِهِ بِأَنَّهُ تَيَقَّنَ التَّحْرِيمَ وَشَكَّ فِي التَّحْلِيلِ فَظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ بِتَحْرِيمِ الرَّجْعَةِ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لِمَا ذَكَرْنَا. وَمِنْهَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ فِي مَسْأَلَةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا بِمَا يَرَى أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ أَثِمَ وَعَصَى بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَضْ حُكْمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ صَرِيحٍ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَقَالَ السَّامِرِيُّ بَلْ يُنْقَضُ حُكْمُهُ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْحُكْمِ مُوَافَقَةُ الِاعْتِقَادِ، وَلِهَذَا لَوْ حَكَمَ بِجَهْلٍ لَنُقِضَ حُكْمُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَ مَا حَكَمَ بِهِ فَإِذَا اعْتَقَدَ بُطْلَانَهُ فَهُوَ بِالرَّدِّ أَوْلَى وَلِلْأَصْحَابِ وَجْهَانِ فِيمَا يُنْقَضُ فِيهِ حُكْمُ الْجَاهِلِ وَالْفَاسِقِ أَحَدُهُمَا تُنْقَضُ جَمِيعَ أَحْكَامِهِ لِفَقْدِ أَهْلِيَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّانِي: تُنْقَضُ كُلُّهَا إلَّا مَا وَافَقَ الْحَقَّ الْمَنْصُوصُ وَالْمُجْمَعَ عَلَيْهِ وَيُنْقَضُ مَا وَافَقَ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَيُشْبِهُ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْوَصِيِّ الْفَاسِقُ إذَا قَسَّمَ الْوَصِيَّةَ فَإِنْ أَعْطَى الْحُقُوقَ لِمُسْتَحِقٍّ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ قَبْضُهُ لَمْ يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ يَجِبُ إيصَالُهُ إلَيْهِ وَقَدْ حَصَلَ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَوَجْهَانِ. وَمِنْهَا الْحُكْمُ بِإِسْلَامِ مَنْ اُتُّهِمَ بِالرِّدَّةِ إذَا أَنْكَرَ وَأَقَرَّ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ صَحِيحٌ وَإِنْ حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي مُسْتَنَدِهِ هَلْ هُوَ الْإِسْلَامُ الْمُسْتَمِرُّ عَلَى مَا يَدَّعِيه أَوْ الْإِسْلَامُ الْمُتَجَدِّدُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا اُتُّهِمَ بِهِ؟ وَقَدْ قَالَ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ تَشْهَدْ عَلَيْهِ بِالرِّدَّةِ؟ فَقَالَ مَا كَفَرْتُ فَإِنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَكْشِفْ عَنْ شَيْءٍ. قَالَ فِي الْمُغْنِي لِأَنَّ هَذَا يَثْبُتُ بِهِ إسْلَامُ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ قَالَ وَلَا حَاجَةَ فِي ثُبُوتِ إسْلَامِهِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ صِحَّةِ رِدَّتِهِ وَنَقَلَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَشَهِدَ قَوْمٌ عُدُولٌ أَنَّهُ تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ وَقَالَ هُوَ لَمْ أَفْعَلْ أَنَا مُسْلِمٌ قَالَ أَقْبَلُ قَوْلَهُ وَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ وَذَكَرَ كَلَامًا مَعْنَاهُ أَنَّ إنْكَارَهُ أَقْوَى مِنْ الشُّهُودِ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ فِي رَجُلٍ تَنَصَّرَ فَأُخِذَ فَقَالَ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ يُقْبَلُ مِنْهُ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُسْتَتَابُ لَعَلَّهُ يَرْجِعُ فَيُقْبَلَ مِنْهُ فَإِذَا أَنْكَرَ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ وَلَا فِيهَا أَنَّهُ وَجَدَ مِنْهُ غَيْرَ إنْكَارِ الرِّدَّةِ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فَفِيهَا أَنَّهُ قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إنْكَارَهُ يَكْفِي فِي الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَلَوْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الرِّدَّةُ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا إنْ ثَبَتَ كُفْرُهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَنْكَرَ فَفِي الْمُغْنِي يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يُقْبَلَ إنْكَارُهُ وَإِنْ سَلَّمْنَا فَلِأَنَّ الْحَدَّ هُنَا وَجَبَ بِقَوْلِهِ فَيُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا.
إمَّا أَنْ يَكُونَ لَازِمًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ بِعِوَضٍ كَالْإِجَارَةِ فَالْوَاجِبُ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَعْقُودُ مَعَهُ إلَّا بِشَرْطٍ أَوْ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَعْقُودِ مَعَهُ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ مَقَامَهُ فِي عَمَلِهِ إلَّا بِإِذْنٍ صَرِيحٍ أَوْ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَيْهِ وَيَتَرَدَّدُ بَيْنَ هَذَيْنِ مِنْ كَانَ تَصَرَّفَ بِوِلَايَةٍ إمَّا ثَابِتَةٍ بِالشَّرْعِ كَوَلِيِّ النِّكَاحِ أَوْ بِالْعَقْدِ كَالْحَاكِمِ وَوَلِيِّ الْيَتِيمِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ فَيَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْعَمَل لِأَنَّهُ ضَمِنَ تَحْصِيلَهُ لَا عَمَلَهُ بِنَفْسِهِ وَاسْتَثْنَى الْأَصْحَابُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُتَفَاوِتًا كَالْفَسْخِ فَلَيْسَ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ بِدُونِ إذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ صَرِيحًا وَنَقَلْتُ مِنْ خَطِّ الْقَاضِي عَلَى ظَهْرِ جُزْءٍ مِنْ خِلَافِهِ قَالَ نَقَلْتُ مِنْ مَسَائِلِ ابْنِ أَبِي حَرْبٍ الْجُرْجَانِيِّ سَمِعَتْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ قَالَ دَفَعْت ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ فَقَطَّعَهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ لِيَخِيطَهُ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ وَلَعَلَّ هَذَا فِيمَا [إذَا] دَلَّتْ الْحَالُ عَلَى وُقُوعِ الْعَقْدِ فِيهِ عَلَى خِيَاطَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لِجَوْدَةِ صِنَاعَتِهِ وَحِذْقِهِ وَشُهْرَتِهِ بِذَلِكَ وَلَا يَرْضَى الْمُسْتَأْجِرُ بِعَمَلِ غَيْرِهِ وَالْمَذْهَبُ الْجَوَازُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ وَعَلَيْهِ بَنَى الْأَصْحَابُ صِحَّةَ شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ حَتَّى أَجَازُوهَا مَعَ اخْتِلَافِ الصَّنَائِعِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِعَمَلٍ وَهُوَ لَا يُحْسِنُهُ فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ عَلَى ضَمَانِ تَسْلِيمِ الْعَمَلِ وَتَحْصِيلِهِ لَا عَلَى الْمُبَاشَرَةِ. وَمِنْهَا لَوْ أَصْدَقَهَا عَمَلًا مَعْلُومًا مُقَدَّرًا بِالزَّمَانِ أَوْ بِغَيْرِهِ وَقُلْنَا يَصِحُّ ذَلِكَ فَهُوَ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْإِذْنِ الْمُجَرَّدِ فَلَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا الْوَكِيلُ وَفِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ بِدُونِ إذْنٍ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ إلَّا فِيمَا اقْتَضَتْهُ دَلَالَةُ الْحَالِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ لَا يُبَاشِرُهُ مِثْلُهُ أَوْ يَعْجَزُ عَنْهُ لِكَثْرَتِهِ فَلَهُ الِاسْتِنَابَةُ بِغَيْرِ خِلَافٍ لَكِنْ هَلْ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْجَمِيعِ أَوْ فِي الْقَدْرِ الْمَعْجُوزِ عَنْهُ خَاصَّةً؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَالْأَوَّلُ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَالثَّانِي: قَوْلُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ. وَمِنْهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِيهِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ التَّصَرُّفَ بِالْإِذْنِ [فَهُوَ] كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ بِدُونِ إذْنٍ أَوْ عُرْفٍ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي التَّلْخِيصِ لِقُصُورِ الْعَبْدِ فِي أَمْلَاكِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِدُونِ إذْنٍ أَوْ قَرِينَةٍ. وَمِنْهَا الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ لَهُ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي. وَمِنْهَا الشَّرِيكُ وَالْمُضَارِبُ وَفِيهِمَا طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْوَكِيلِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرِينَ. وَالثَّانِيَة: يَجُوزُ لَهُمَا التَّوْكِيلُ بِدُونِ إذْنٍ وَهُوَ الْمَجْزُومُ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ وَكَذَلِكَ رَجَّحَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي رُءُوسِ الْمَسَائِلِ لِعُمُومِ تَصَرُّفِهِمَا وَكَثْرَتِهِ وَطُولِ مُدَّتِهِ غَالِبًا وَهَذِهِ قَرَائِنُ تَدُلُّ عَلَى الْإِذْنِ فِي التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَكَلَامُ ابْنِ عَقِيلٍ يُشْعِرُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ فَيَجُوزُ لِلشَّرِيكِ التَّوْكِيلُ لِأَنَّهُ عَلَّلَ بِأَنَّ الشَّرِيكَ اسْتَفَادَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ لِأَنَّهَا أَخَصُّ وَالشَّرِكَةُ أَعَمُّ فَكَانَ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْأَخَصِّ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ اسْتَفَادَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ مِثْلَ الْعَقْدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى إلْحَاقِ الْمُضَارِبِ بِالْوَكِيلِ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي تَوْكِيلِهِمَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَأَمَّا دَفْعُ الْمُضَارِبِ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِ إذْنٍ صَرِيحٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ إنَّمَا ائْتَمَنَهُ عَلَى الْمَالِ فَكَيْفَ يُسَلِّمُهُ إلَى غَيْرِهِ، وَحَكَى فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى بِالْجَوَازِ وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ بِالْوِلَايَةِ فَمِنْهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْإِذْنِ فَهُوَ كَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَرَجَّحَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا وَأَبُو الْخَطَّابِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُحَرَّرِ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْوِلَايَةِ وَلَيْسَ وَكِيلًا مَحْضًا فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَلِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ عَدَالَتَهُ وَأَمَانَتَهُ وَهَذَا شَأْنُ الْوِلَايَاتِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ تَطُولُ مُدَّتُهُ وَيَكْثُرُ تَصَرُّفُهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ هَذَا فِي تَوْكِيلِهِ فَأَمَّا فِي وَصِيَّتِهِ إلَى غَيْرِهِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَاخْتَارَ الْمَنْعَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي. وَمِنْهَا الْحَاكِمُ هَلْ لَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ لَهُ فِي ذَلِكَ؟ وَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: طَرِيقُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَالْخِلَافِ أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ فِيهِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ طَرِيقُ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ الْمُحَرَّرِ أَنَّ لَهُ الِاسْتِحْلَافَ قَوْلًا وَاحِدًا وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ بِنَائِبٍ لِلْإِمَامِ بَلْ هُوَ نَاظِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَا عَمَّنْ وَلَّاهُ وَلِهَذَا لَا يُعْزَلُ بِمَوْتِهِ وَلَا بِعَزْلِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فَيَكُونُ حُكْمُهُ فِي وِلَايَتِهِ حُكْمَ الْإِمَامِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَضِيقُ عَلَيْهِ تَوَلِّي جَمِيعَ الْأَحْكَامِ بِنَفْسِهِ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِ النَّاسِ الْعَامَّةِ فَأَشْبَهَ مَنْ وَكَّلَ فِيمَا لَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتَهُ عَادَةً لِكَثْرَتِهِ وَمِنْهُ وَلِيُّ النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ مُجْبَرًا فَلَا إشْكَالَ فِي جَوَازِ تَوْكِيلِهِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمَرْأَةِ وَلِذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ مَعَهُ إذْنُهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْبَرٍ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَالْوَكِيلِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ. وَالثَّانِي: [أَنَّهُ] يَجُوزُ لَهُ التَّوْكِيلُ قَوْلًا وَاحِدًا وَهُوَ طَرِيقُ صَاحِبِ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ بِالشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمَرْأَةِ فَلَا تَتَوَقَّفُ اسْتِنَابَتُهُ عَلَى إذْنِهَا كَالْمُجْبَرِ وَإِنَّمَا افْتَرَقَا عَلَى اعْتِبَارِ إذْنِهَا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَا أَثَرَ لَهُ هَاهُنَا.
فِيهِ خِلَافٌ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْمُرَجَّحُ فِيهِ التَّخْصِيصُ إلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِالدُّخُولِ أَوْ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَتَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ: مِنْهَا النَّهْيُ عَنْ الْكَلَامِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ لَا يَشْمَلُ الْإِمَامَ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ. وَمِنْهَا الْأَمْرُ بِإِجَابَةِ الْمُؤَذِّنِ هَلْ يَشْمَلُ الْمُؤَذِّنَ نَفْسَهُ؟ الْمَنْصُوصُ هَاهُنَا الشُّمُولُ وَالْأَرْجَحُ عَدَمُهُ طَرْدًا لِلْقَاعِدَةِ. وَمِنْهَا إذَا أَذِنَ [السَّيِّدُ] لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ، وَلِلْمَنْعِ مَأْخَذٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي. وَمِنْهَا إذَا أَذِنَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ مِنْ رَقِيقِ السَّيِّدِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُعْتِقَ نَفْسَهُ وَخَرَّجَهَا أَبُو بَكْرٍ عَلَى وَجْهَيْنِ وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى طَرِيقَتِهِ وَطَرِيقَةِ ابْنِ حَامِدٍ وَالْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ تَكْفِيرَ الْعَبْدِ بِالْمَالِ لَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِهِ بِالتَّمْلِيكِ بَلْ يُكَفِّرُ بِهِ إذْنَ السَّيِّدِ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَإِلَّا فَلَوْ مَلَكَ نَفْسَهُ لَانْعَتَقَتْ عَلَيْهِ قَهْرًا وَلَمْ تُجْزِئْهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ. وَمِنْهَا هَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَرِّفًا لِكَفَّارَةِ نَفْسِهِ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ ثُمَّ مِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ السَّحَرِيِّ فِي غَيْرِ كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي رَمَضَانَ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهَا فِي الْجَمِيعِ وَجَعَلَ ذَلِكَ خُصُوصًا لِلْأَعْرَابِيِّ وَإِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ لِعَجْزِهِ وَكَوْنِهَا لَا تَفْضُلُ عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ فَقِيلَ هُوَ إذَا كَفَّرَ الْغَيْرُ عَنْهُ بِإِذْنِهِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَيْهِ أَمْ لَا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّكْفِيرَ مِنْ الْغَيْرِ عَنْهُ لَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَهَا فِي مِلْكِهِ قَبْلَ مِلْكِ الْفَقِيرِ لَهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِثْلُهُ فِي الْعِتْقِ وَقِيلَ بَلْ إذَا تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِهَا لِفَقْرِهِ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَهَا وَتَكُونُ كَفَّارَةً أَمْ لَا؟ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى. وَمِنْهَا هَلْ يَكُونُ الرَّجُلُ مُصَرِّفًا لِزَكَاتِهِ إذَا أَخَذَ السَّاعِي مِنْهُ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهَا إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي لِأَنَّ عَوْدَهَا إلَيْهِ هَاهُنَا [بِسَبَبٍ] مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ كَإِرْثِهِ لَهَا وَلَا نَقُولُ إنَّهُ قَبَضَهَا عَنْ زَكَاةِ مَالِهِ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ بِقَبْضِ السَّاعِي وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّدَقَاتِ الْمُبَاحَةِ لَهُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَذْهَبُ أَحْمَدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهَا ذَكَرَهُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهَا طُهْرَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِمَا قَدْ تَطَهَّرَ بِهِ وَهَكَذَا الْخِلَافُ فِي رَدِّ الْإِمَامِ خُمُسَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَأَمَّا إسْقَاطُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مِنْ الدَّيْنِ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ وَلَا الْخُمُسَ بَلْ يَجِبُ فِيهَا الْقَبْضُ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ فَيْءٌ فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ إسْقَاطُهُ مِمَّنْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إذَا رَأَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ وَكَذَلِكَ خُمُسُ الرِّكَازِ إذَا قِيلَ هُوَ فَيْءٌ. وَمِنْهَا هَلْ يَكُونُ الْوَاقِفُ مُصَرِّفًا لِوَقْفِهِ كَمَا إذَا وَقَفَ [شَيْئًا] عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ افْتَقَرَ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَى الْأَصَحِّ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَطَعَ مُصَرِّفُ الْوَقْفِ وَقُلْنَا يَرْجِعُ إلَى أَقَارِبِهِ وَقْفًا وَكَانَ الْوَاقِفُ حَيًّا هَلْ يَرْجِعُ إلَيْهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا ابْنُ الزاغوني فِي الْإِقْنَاعِ وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْمُفْرَدَاتِ بِدُخُولِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَنْسَابِهِمْ [لَهُمْ] أَبَدًا عَلَى أَنَّهُ مَنْ تُوُفِّيَ مِنْهُمْ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ رَجَعَ نَصِيبُهُ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ فَتُوُفِّيَ أَحَدُ أَوْلَادِهِ عَنْ غَيْرِ وَلَدٍ وَالْأَبُ الْوَاقِفُ حَيٌّ فَهَلْ يَعُودُ نَصِيبُهُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ النَّاسِ إلَيْهِ أَمْ لَا؟ يُخَرَّجُ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالْمَسْأَلَةُ مُلْتَفِتَةٌ إلَى دُخُولِ الْمُخَاطَبِ فِي خِطَابِهِ. وَمِنْهَا الْوَكِيلُ فِي الْبَيْعِ هَلْ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْ نَفْسِهِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ وَلِلْمَنْعِ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: التُّهْمَةُ وَخَشْيَةُ تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الثَّمَنِ. وَالثَّانِي: أَنَّ سِيَاقَ التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ يَدُلُّ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُشْتَرِينَ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ بَائِعًا فَلَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا، وَهَذَانِ الْمَأْخَذَانِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ وَاحِدٌ بِنَفْسِهِ وَيَأْخُذُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ مِنْ الْأُخْرَى فَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ مِنْهُ جَازَ نَقَلَ ذَلِكَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فَعَلَى الْمَأْخَذِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِمُحَابَاةٍ أَيْضًا وَهُوَ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّهُ بِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ وَهُوَ وَلَدُهُ الصَّغِيرُ دُونَ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي. وَعَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ مِنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْمَأْخَذِ الثَّالِثِ أَيْضًا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ لِانْدِفَاعِ مَحْذُورِ إيجَادِ الْمُوجِبِ وَالْقَابِلِ، وَإِنْ وَكَّلَ مَنْ يَبِيعُ السِّلْعَةَ وَيَشْتَرِيهَا هُوَ فَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ إنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّوْكِيلِ فِي الْبَيْعِ جَازَ الشِّرَاءُ مِنْ وَكِيلِهِ قَوْلًا وَاحِدًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَكِيلَ الثَّانِي وَكِيلٌ لِلْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ مِنْ مَالِكِهَا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي التَّوْكِيلِ انْبَنَى عَلَى جَوَازِ تَوْكِيلِهِ بِدُونِ إذْنٍ فَإِنْ أَجَزْنَاهُ صَحَّ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الصِّحَّةِ أَنَّ الْوَكِيلَ الثَّانِي وَكِيلٌ لِلْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بِذَلِكَ فِي صُورَةِ الْإِذْنِ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعْتَبَرَ التَّوْكِيلُ لِئَلَّا يَتَّحِدَ الْمُوجِبُ وَالْقَابِلُ مَعَ أَنَّ هَذَا مُنْتَقِصٌ بِالْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الطِّفْلِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْجَوَازِ فَاخْتُلِفَ فِي حِكَايَةِ شُرُوطِهَا عَلَى طُرُقٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ يَشْتَرِطُ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ الرَّغَبَاتُ فِي النِّدَاءِ، وَفِي اشْتِرَاطِ أَنْ يَتَوَلَّى النِّدَاءَ غَيْرُهُ وَجْهَانِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُشْتَرَطَ التَّوْكِيلُ الْمُجَرَّدُ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَالشِّيرَازِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْتَرَطَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَبِيعُهُ عَلَى قَوْلِنَا بِجَوَازِ ذَلِكَ وَإِمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ثَمَنِهِ فِي النِّدَاءِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَأَبِي الْخَطَّابِ، وَأَمَّا إنْ بَاعَ الْوَكِيلُ وَاشْتَرَطَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهِ فَهَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا يَجُوزُ، نَقَلَهَا أَبُو الْحَارِثِ فِي الْوَكِيلِ يَبِيعُ وَيَسْتَثْنِي لِنَفْسِهِ الشَّرِكَةَ أَرْجُو أَلَّا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ. وَالثَّانِيَة: تُكْرَهُ نَقَلَهَا ابْنُ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ يُدْفَعُ إلَيْهِ الثَّوْبُ يَبِيعُهُ فَإِذَا بَاعَهُ قَالَ أَشْرِكْنِي فِيهِ قَالَ أَكْرَهُ هَذَا فَأَمَّا إنْ أَذِنَ لَهُ الْمُوَكِّلُ فِي الشِّرَاءِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ رِوَايَةً وَاحِدَةً بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَحَكَى الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ بِالْمَنْعِ قَالَ وَهَلْ يَكُونُ حُضُورُ الْمُوَكِّلِ وَسُكُوتُهُ كَإِذْنِهِ؟ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَشْبَهُهُمَا بِكَلَامِ أَحْمَدَ الْمَنْعُ، وَنَقَلَ أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الْخَفَّافُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ خَمْسُونَ دِينَارًا فَوَكَّلَهُ فِي بَيْعِ دَارِهِ وَمَتَاعِهِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ لِيُصَارِفَ نَفْسَهُ وَيَأْخُذُهَا بِالدَّنَانِيرِ لَمْ يَجُزْ وَلَكِنْ يَبِيعُهَا وَيَسْتَقْصِي وَيَأْخُذُ حَقَّهُ قَالَ الْقَاضِي ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا بِغَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَوْجُودَةٌ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي الْمُصَارَفَةِ فَإِذَا بَاعَهَا بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا بِالْإِذْنِ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ مُوَكِّلِهِ فَهُوَ يَقْبِضُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَكِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي شِرَاءِ الْمُوَكِّلِ مِنْ نَفْسِهِ وَكَذَلِكَ حَكَى فِي الْخِلَافِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ رِوَايَتَيْنِ وَجَعَلَهَا صَاحِبُ التَّلْخِيصِ رِوَايَةً يَجُوزُ أَنَّ تَوْكِيلَ الْوَكِيلِ فِي إيفَاءِ نَفْسِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ خَاصَّةً وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى الْمَنْعِ مُدَّةَ الْبَيْعِ بِغَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ لَاسِيَّمَا إنْ كَانَ جِنْسُ الْحَقِّ غَيْرَ نَقْدِ الْبَلَدِ وَحَمَلَ قَوْلَ أَحْمَدَ بِبَيْعِهَا عَلَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى قَوْلِنَا بِمَنْعِ الْوَكِيلِ مِنْ الْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا بِجَوَازِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ هَاهُنَا مُصَارَفَةُ نَفْسِهِ. وَمِنْهَا شِرَاءُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ مِنْ مَالِهِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ شِرَاءِ الْوَكِيلِ مِنْ مَالِ مُوَكِّلِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ وَفِي مَسَائِلِ ابْنِ هَانِئٍ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ بَعَثَ إلَيْهِ بِدَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا مِنْ بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ بِمَا عِنْدَهُ وَبَالَغَ فِي الِاسْتِقْصَاءِ قَالَ مِمَّا لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ بِمَا عِنْدَهُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَدْ بَعَثَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَتَاعِ الَّذِي عِنْدَهُ. وَمِنْهَا شِرَاءُ الْوَصِيِّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ شِرَاءِ الْوَكِيلِ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ مَنْصُوصَتَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيهِ سِوَى الْمَنْعِ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَأَمِينِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَيَتَوَجَّهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّ الْحَاكِمَ وِلَايَتُهُ غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إلَى إذْنٍ فَيَكُونُ عَامَّةً بِخِلَافِ مَنْ أُسْنِدَتْ وِلَايَتُهُ إلَى إذْنٍ مِنْ غَيْرِهِ فِي التَّصَرُّفِ فَإِنَّ إطْلَاقَ الْإِذْنِ لَهُ يَقْتَضِي أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَ غَيْرِهِ لَا مَعَ نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ وَقَدْ اعْتَمَدَ الْقَاضِي عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَ تَصَرُّفِ الْأَبِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا الْوَكِيلُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِنَفْسِهِ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ إنْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّوْكِيلِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ فَزَوَّجَهُ صَحَّ وَكَذَا إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقُلْنَا لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ مُطْلَقًا فَأَمَّا مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ بِالشَّرْعِ كَالْوَلِيِّ وَالْحَاكِمِ وَأَمِينِهِ فَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَإِنْ قُلْنَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ الْمَالِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمَالَ الْقَصْدُ مِنْهُ الرِّبْحُ وَهَذَا يَقَعُ فِيهِ التُّهْمَةُ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْكَفَاءَةُ وَحُسْنُ الْعِشْرَةِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ صَحَّ وَأُلْحِقَ أَيْضًا الْوَصِيُّ بِذَلِكَ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْوَصِيَّ يُشْبِهُ الْوَكِيلَ لِتَصَرُّفِهِ بِالْإِذْنِ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْيَتِيمَةُ وَغَيْرُهَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ حَيْثُ يَكُونُ لَهَا إذْنٌ مُعْتَبَرٌ وَمَتَى زَوَّجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ نَفْسَهُ بِإِذْنِ الْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ تَوْكِيلٍ بَلْ مُبَاشَرَةً لِطَرَفَيْ الْعَقْدِ فَفِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ وَكَّلَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَقَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ يَصِحُّ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ وَقَالَ مَتَى قُلْنَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُ وَكِيلِهِ لَهُ لِأَنَّ وَكِيلَهُ قَامَ مَقَامَ نَفْسِهِ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا بِوِلَايَةِ أَحَدِ نُوَّابِهِ لِأَنَّ نُوَّابَهُ نُوَّابٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا عَنْهُ فِيمَا يَخُصُّهُ. وَمِنْهَا إذَا عَمِلَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ عَمَلًا يَمْلِكُ الِاسْتِئْجَارَ عَلَيْهِ وَدَفَعَ الْأُجْرَةَ فَهَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُجْرَةَ أَمْ لَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْهَا: الْمُوصَى إلَيْهِ بِإِخْرَاجِ مَالِ لِمَنْ يَحُجُّ أَوْ يَغْزُو وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَحُجَّ بِهِ وَيَغْزُوَ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَقَالَ هُوَ مُتَعَدٍّ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ الْمَنْعِ عَدَمُ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ. وَمِنْهَا: الْمَأْذُونُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ؟ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ بَخْتَانِ وَذَكَرَ فِي الْمُغْنِي احْتِمَالَيْنِ آخَرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا. وَالثَّانِي: الرُّجُوعُ إلَى الْقَرَائِنِ فَإِنْ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى الدُّخُولِ جَازَ الْأَخْذُ أَوْ عَلَى عَدَمِهِ لَمْ يَجُزْ وَمَعَ التَّرَدُّدِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ وَالْجَوَازُ مُتَخَرَّجٌ مِنْ مَسْأَلَةِ شِرَاءِ الْوَكِيلِ وَأَوْلَى إذْ لَا عِوَضَ هَاهُنَا يَنْبَغِي وَهُوَ أَمِينٌ عَلَى الْمَالِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى سَدُّ الذَّرِيعَةِ لِأَنَّ مُحَابَاةَ النَّفْسِ لَا يُؤْمَنْ وَعَلَى هَذَا فَهَلْ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؟ لَهُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَشْهَرُهُمَا الْمَنْعُ. وَالثَّانِي: الْجَوَازُ اخْتَارَهُ صَاحِبَا الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ. وَمِنْهَا: إذَا وَكَّلَ غَرِيمَهُ أَنْ يُبْرِئَ غُرَمَاءَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ سَمَّاهُ أَوْ وَكَّلَهُ وَحْدَهُ جَازَ ذَلِكَ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ قَالَ وَالْفَرْقُ عَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ افْتِقَارُ الْبَيْعِ إلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ. وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ فِي الْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا مِنْ التَّعْلِيقَاتِ مَنْ دَخَلَ دَارِي أَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ دَارَك لَمْ يَدْخُلْ الْمُتَكَلِّمُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَلَا الْمُخَاطَبُ بِهَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَة ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ. وَمِنْهَا: الْأَمْوَالُ الَّتِي تَجِبُ الصَّدَقَةُ فِيهَا شَرْعًا لِلْجَهْلِ بِأَرْبَابِهَا كَالْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ لَا يَجُوزُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ الْأَخْذُ مِنْهَا عَلَى الْمَنْصُوصِ وَخَرَّجَ الْقَاضِي جَوَازَ الْأَكْلِ لَهُ مِنْهَا إذَا كَانَ فَقِيرًا عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي شِرَاءِ الْوَصِيِّ مِنْ نَفْسِهِ كَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ وَأَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْغَاصِبِ الْفَقِيرِ إذَا تَابَ وَعَلَى الْمَذْهَبِ يَتَخَرَّجُ فِي إعْطَاءِ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ الْوَجْهَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يُحَابِي بِهِ أَصْدِقَاءَهُ بَلْ يُعْطِيهِمْ أُسْوَةً بِغَيْرِهِمْ نَقَلَهُ عَنْهُ صَالِحٌ وَكَذَا نَقَلَ عَنْهُ الْمَرُّوذِيّ إذَا دَفَعَهَا إلَى أَقَارِبَ لَهُ مُحْتَاجِينَ إنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمُحَابَاةِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُحَابِهِمْ فَقَدْ تَصَدَّقَ وَنَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ إذَا كَانَ لَهُ إخْوَانٌ مَحَاوِيجُ قَدْ كَانَ يَصِلُهُمْ أَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُ اسْتَحَبَّ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُمْ وَقَالَ لَا يُحَابِي بِهَا أَحَدًا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَ إعْطَاءَهُمْ مَعَ اعْتِبَارِ صِلَتِهِمْ مُحَابَاةً فَكَذَلِكَ اسْتَحَبَّ الْعُدُولَ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ. تَنْبِيهٌ: لَوْ وَصَّى لِعَبْدِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فَيَعْتِقُ، عَلَيْهِ نَصَّ، وَيُكَمِّلُ عِتْقَهُ مِنْ بَاقِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ مِلْكَهُ لِلْوَصِيَّةِ مَشْرُوطٌ بِعِتْقِهِ فَكَذَلِكَ دَخَلَ فِي عُمُومِ الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ ضَرُورَةُ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهُ.
وَهِيَ نَوْعَانِ: مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَمَمْلُوكٌ لِلْغَيْرِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَالُ الزَّكَاةِ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِمَّا تَتُوقُ إلَيْهِ الْأَنْفُسُ وَيَشُقُّ الِانْكِفَافُ عَنْهُ مِنْ الثِّمَارِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيُطْعِمُ الْأَهْلَ وَالضِّيفَانَ وَلَا يَحْتَسِبُ زَكَاتَهُ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْخَارِصِ أَنْ يَدَعَ خَرْصَهُ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيه الْحَالُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَاجَةِ وَقِلَّتِهَا كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ فَإِنْ اُسْتُبْقِيَتْ وَلَمْ تُؤْكَلْ رَطْبَةً رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِزَكَاتِهَا، وَأَمَّا الزُّرُوعُ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِ فَرِيكًا وَنَحْوَهُ نَصَّ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ الْإِهْدَاءُ مِنْهَا، وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي الْأَكْلِ مِنْهَا وَجْهَيْنِ مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الزُّرُوعِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا حَافِظٌ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَنْقَسِمُ إلَى مَا لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ وَإِلَى مَا لَهُ مَالِكٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَأَمَّا مَا لَهُ مَالِكٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ كَالْهَدْيِ وَالْأَضَاحِيّ فَيَجُوزُ لِمَنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَهُوَ الْمُهْدِي وَالْمُضَحِّي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيَدَّخِرَ وَيُهْدِيَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ، وَهَلْ يَجُوزُ أَكْلُ أَكْثَرِ مِنْ الثُّلُثِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَشْهَرُهُمَا الْجَوَازُ، وَهَلْ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَسِّمَ الْهَدْيَ أَثْلَاثًا كَالْأَضَاحِيِّ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلَّهُ أَوْ بِمَا يَأْكُلُهُ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَأَمَّا مَا لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَنَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ كَالرَّهْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مِمَّا بِيَدِهِ إذَا كَانَ دَارًا وَالِانْتِفَاعُ بِظَهْرِهِ إذَا كَانَ مَرْكُوبًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يُعَاوِضَ عَنْهُ بِالنَّفَقَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ لِمَصْلَحَةِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ فَالْمَنْصُوصُ جَوَازُ الْأَكْلِ مِنْهُ أَيْضًا بِقَدْرِ عَمَلِهِ. وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ صُوَرٌ: مِنْهَا وَلِيُّ الْيَتِيمِ يَأْكُلُ مَعَ الْحَاجَةِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَهَلْ يَرُدُّهُ إذَا أَيْسَرَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَلَوْ فَرَضَ لَهُ الْحَاكِمُ شَيْئًا جَازَ لَهُ أَخْذُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ خِلَافٍ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَنَصَّ [عَلَيْهِ] أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ البرزاطي فِي الْأُمِّ الْحَاضِنَةِ أَنَّهَا لَا تَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ إلَّا أَنْ يَفْرِضَ لَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمَالِ حَقَّ الْحَضَانَةِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنْ أَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَهُ تَدَوَّدَتْ مَعَ الْغِنَى بِخِلَافِ الْأَخْذِ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا أَجَازَ لِلْوَصِيِّ الْأَخْذُ إذَا شَرَطَ لَهُ الْأَبُ مَعَ غِنَاهُ وَجَازَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَدْفَعَ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً إلَى مَنْ يَعْمَلُ فِيهِ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ إذَا عَمِلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ أَنْ يَأْخُذَ وَلِهَذَا الْمَعْنَى جَازَ الْأَخْذُ لِعَامِلِ الزَّكَاةِ مَعَ الْغِنَى لِأَنَّ الْمُعْطِيَ لَهُ [هُوَ] الْإِمَامُ. وَمِنْهَا أَمِينُ الْحَاكِمِ أَوْ الْحَاكِمُ إذَا نَظَرَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ. قَالَ الْقَاضِي مَرَّةً لَا يَأْكُلُ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَصِيِّ بِأَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِلْوَصِيِّ جُعْلًا مَعَ وُجُودِ مُتَبَرِّعٍ بِالنَّظَرِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ وَالْوَلِيُّ مُتَصَرِّفٌ بِإِذْنِهِ وَتَوْلِيَتِهِ بِخِلَافِ أَمِينِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهُ لَوْ وَجَدَ مُتَبَرِّعًا بِالْحِفْظِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِأَحَدٍ جُعْلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ مَرَّةً: لَهُ الْأَكْلُ كَوَصِيِّ الْأَبِ وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا بِقَدْرِ شُغْلِهِ وَقَالَ هُوَ مِثْلُ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَأَمَّا الْأَبُ فَقَالَ الْقَاضِي لَيْسَ لَهُ الْأَكْلُ لِأَجْلِ عَمَلِهِ لِغِنَاهُ عَنْهُ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ فِي مَالِهِ وَلَكِنْ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهُ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ عِنْدَنَا وَضَعَّفَ ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ. وَمِنْهَا نَاظِرُ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَاتِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو الْحَارِثِ أَنَّهُ قَالَ فِي وَالِي الْوَقْفِ: إنْ أَكَلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَلَا بَأْسَ. قِيلَ لَهُ: فَيَقْضِي مِنْهُ دَيْنَهُ؟ قَالَ: مَا سَمِعْنَا فِيهِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ حَرْبٌ فِي رَجُلٍ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ بِأَرْضٍ أَوْ صَدَقَةٍ لِلْمَسَاكِينِ فَدَخَلَ الْوَصِيُّ الْحَائِطَ أَوْ الْأَرْضَ فَتَنَاوَلَ بِطِّيخَةً أَوْ قِثَّاءَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الْقَيِّمَ بِذَلِكَ أَكَلَ. وَتَرْجَمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ - وَأَظُنُّهُ أَبَا حَفْصٍ العكبري - الْوَصِيُّ يَأْكُلُ مِنْ الْوَقْفِ الَّذِي يَلِيه وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْحَاجَةَ. وَخَرَّجَهُ أَبُو الْخَطَّابِ عَلَى عَامِلِ الْيَتِيمِ وَنَقَلَ الْمَيْمُونِيُّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ حِينَ وَقَفَ فَأَوْصَى إلَى حَفْصَةَ ثُمَّ قَالَ أَحْمَدُ: وَلِيُّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ إذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَمَفْهُومُهُ الْمَنْعُ مِنْ الْأَكْلِ بِدُونِ الشَّرْطِ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي الصَّدَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ شَيْئًا نَقَلَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ فِي يَدِهِ مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ وَأَبْوَابُ الْبِرِّ وَهُوَ فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ إنَّمَا أُمِرَ أَنْ يُنَفِّذَ وَصَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ بِأَنَّ مَنْ أَوْصَى إلَيْهِ بِتَفْرِقَةِ مَالٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ فِي حَيَاتِهِ مَالًا لِيُفَرِّقَهُ صَدَقَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا بِحَقِّ قِيَامِهِ لِأَنَّهُ مُنَفِّذٌ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ مُنَمٍّ وَاسْتِغْرَاقُ. وَمِنْهَا الْوَكِيلُ وَالْأَجِيرُ وَالْمَعْرُوفُ مَنْعُهُمَا مِنْ الْأَكْلِ لِاسْتِغْنَائِهِمَا عَنْهُ بِطَلَبِ الْأُجْرَةِ مِنْ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُوَكِّلِ لَاسِيَّمَا وَالْأَجِيرُ قَدْ أَخَذَ الْأُجْرَةَ عَلَى عَمَلِهِ وَنَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ يَأْكُلَانِ بِالْمَعْرُوفِ إذَا كَانَا يُصْلِحَانِ وَيَقُومَانِ بِأَمْرِهِ فَأَكَلَا بِالْمَعْرُوفِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَالْأَجِيرِ، قَالَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَظَاهِرُ هَذَا جَوَازُ الْأَكْلِ لِلْوَكِيلِ. النَّوْعُ الثَّانِي مَا لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَيَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ بِلَا نِزَاعٍ وَأَمَّا مَعَ عَدَمِهَا فَيَجُوزُ فِيمَا تَتُوقُ إلَيْهِ النُّفُوسُ مَعَ عَدَمِ الْحِفْظِ وَالِاحْتِرَازِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ مِنْهَا الْأَكْلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِطْعَامُ الدَّوَابِّ الْمُعَدَّةِ لِلرُّكُوبِ فَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَإِنْ كَانَتْ لِلتَّصَيُّدِ بِهَا فَوَجْهَانِ. وَسَوَاءٌ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي أَشْهَرِ الطَّرِيقِينَ. وَفِي الثَّانِيَة لَا يَجُوزُ إلَّا لِلْحَاجَةِ بِقَدْرِهَا وَفِي رَدِّ عِوَضِهَا فِي الْمَغْنَمِ رِوَايَتَانِ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَاخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي مَحَلِّ الْجَوَازِ فَقِيلَ مَحَلُّهُ مَا لَمْ يُحْرِزْهُ الْإِمَامُ فَإِذَا أَحْرَزَهُ أَوْ وَكَّلَ بِهِ مَنْ يَحْفَظُهُ لَمْ يَجُزْ الْأَكْلُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْخِرَقِيِّ لِأَنَّ إحْرَازَهُ مَنْعٌ مِنْ التَّنَاوُلِ مِنْهُ وَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّ حِفْظَهُ يَشُقُّ وَيُتَسَامَحُ بِمِثْلِهِ عَادَةً وَقِيلَ يَجُوزُ الْأَكْلُ مَا دَامُوا فِي أَرْضِ الْحَرْبِ وَإِنْ أَحْرَزَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي، وَإِنْ فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ فَهَلْ يَجِبُ رَدُّهَا مُطْلَقًا أَوْ يُشْتَرَطُ كَثْرَتُهَا؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْهَا إذَا مَرَّ بِثَمَرٍ غَيْرِ مَحُوطٍ وَلَا عَلَيْهِ نَاظِرٌ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ مَعَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَلَا يَحْمِلُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُتَسَاقِطِ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَى الشَّجَرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَتَنْزِيلًا لِتَرْكِهِ بِغَيْرِ حِفْظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِتَوَقَانِ نُفُوسِ الْمَارَّةِ إلَيْهِ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ عُرْفًا مَعَ الْعِلْمِ بِتَسَامُحِ غَالِبِ النُّفُوسِ فِي بَذْلِ يَسِيرِ الْأَطْعِمَةِ بِخِلَافِ الْمَحْفُوظِ بِنَاظِرٍ أَوْ حَائِطٍ فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْعِ مِنْهُ وَفِي الْمَذْهَبِ رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ بِجَوَازِ الْأَكْلِ مِنْ الْمُتَسَاقِطِ دُونَ مَا عَلَى الشَّجَرِ لِأَنَّ الْمُسَامَحَةَ فِي الْمُتَسَاقِطِ أَظْهَرُ لِيُسْرِعَ الْفَسَادُ إلَيْهِ وَلَمْ يُثْبِتْهَا الْقَاضِي. وَرِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ بِمَنْعِ الْأَكْلِ مُطْلَقًا إلَّا مَعَ الْحَاجَةِ فَيُؤْكَلُ حِينَئِذٍ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ هَلْ يَلْحَقُ الزَّرْعُ وَلَبَنُ الْمَوَاشِي بِالثِّمَارِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ فَإِنَّ الْأَكْلَ مِنْ الزَّرْعِ وَحَلْبَ اللَّبَنِ مِنْ الضَّرْعِ إنَّمَا يُفْعَلُ لِلْحَاجَةِ لَا لِلشَّهْوَةِ.
فَأَمَّا الْمُعَاوَضَةُ فَتَقَعُ فِي الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ وَيُمْلَكُ فِيهَا الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ كَمَا يُمْلَكُ غَيْرُهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُعَاوَضِ بِهَا فَإِنْ وَقَعَ التَّفَاسُخُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ رَجَعَ بِمَا عَجَّلَ مِنْهَا إلَّا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَكِسْوَتِهَا فَإِنَّ فِي الرُّجُوعِ بِهِمَا ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا يَرْجِعُ بِالنَّفَقَةِ دُونَ الْكِسْوَةِ. (فَمِنْهَا) الْإِجَارَةُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا عَلَى الصَّحِيحِ وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ خِلَافًا. وَمِنْهَا: اسْتِئْجَارُ غَيْرِ الظِّئْرِ مِنْ الْأُجَرَاءِ بِالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا الْجَوَازُ كَالظِّئْرِ. وَمِنْهَا: الْبَيْعُ فَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِنَفَقَةِ عَبْدِهِ شَهْرًا صَحَّ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ. وَمِنْهَا: النِّكَاحُ تَقَعُ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ فِيهِ عِوَضًا عَنْ تَسْلِيمِ الْمَنَافِعِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى شَرْطِهَا فِي الْعَقْدِ كَمَا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْمَهْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ الِاسْتِبَاحَةِ وَلَوْ شَرَطَتْ عَلَيْهِ نَفَقَةَ وَلَدِهَا وَكِسْوَتِهِ صَحَّ وَكَانَ مِنْ الْمَهْرِ،. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ إبَاحَةُ النَّفَقَةِ لِلْعَامِلِ مَا دَامَ مُتَلَبِّسًا بِالْعَمَلِ وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ إمَّا بِأَصْلِ الْأَصْلِ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ فِيهِ بِالشَّرْعِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلِكَ صُوَرٌ: (مِنْهَا) الْمُضَارَبَةُ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْمُضَارِبِ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ فِي مُدَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَمِنْهَا: الشَّرِكَةُ وَمِنْهَا: الْوِكَالَةُ وَمِنْهَا: الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ إذَا قُلْنَا بِعَدَمِ لُزُومِهَا وَمَا بَقِيَ مَعَهُمْ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَأْخُوذَةِ وَالْكِسْوَةِ بَعْدَ الْفَسْخِ هَذِهِ الْعُقُودُ هَلْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ لِأَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا الْمِلْكِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَصْحَابُ إذَا اشْتَرَطَ الْمُضَارِبُ التَّسَرِّي مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَاشْتَرَى أَمَةً مِنْهُ مَلَكَهَا وَيَكُونُ ثَمَنُهَا قَرْضًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَبَاحُ بِدُونِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِالْبَذْلِ وَالْإِبَاحَةِ كَمَا يَسْتَبِيحُ الْمُرْتَهِنُ الِانْتِفَاعَ بِالرَّهْنِ بِشَرْطِهِ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَيَكُونُ إبَاحَةً وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ إلَى رِوَايَةٍ أُخْرَى يَمْلِكُ الْمُضَارِبُ الْأَمَةَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَعَلَى هَذَا فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ تَمْلِيكًا فَلَا يُرَدُّ مَا فَضَلَ مِنْهُمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ كَمَا فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَغْنَمِ. وَمِنْهَا: إذَا أَخَذَ الْحَاجُّ نَفَقَةً مِنْ غَيْرِهِ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ وَالنَّفَقَةُ فِيهِ إعَانَةٌ عَلَى الْحَجِّ لَا أُجْرَةٌ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ وَإِنْ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ رَدَّهَا نَصَّ عَلَيْهِ وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَنْ تَكُونَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّ فَاضِلَ النَّفَقَةِ يَسْتَرِدُّهُ الْوَرَثَةُ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَ الْمُوصِي فِي وَصِيَّتِهِ إعْطَاءَ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً فَإِنَّ الْفَاضِلَ يَكُونُ لَهُ فِي الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ وَنَقَلَ ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا قَالَ حُجُّوا عَنِّي بِأَلْفِ [دِرْهَمٍ] حَجَّةً يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَمَا فَضَلَ يُرَدُّ إلَى الْوَرَثَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى مَنْ يَحُجُّ أَكْثَرَ مِنْ نَفَقَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلْ الْبَاقِي وَصِيَّةً لِأَنَّ الْحَاجَّ هُنَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَلَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُعَيَّنًا وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَعَيَّنُ بِحَجَّةٍ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا وَإِنْ قَالَ حُجُّوا عَنِّي بِأَلْفٍ وَلَمْ يَقُلْ حَجَّةً فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُصْرَفُ فِي حَجَّةٍ بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى تَنْفُذَ، وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً وَاحِدَةً بِنَفَقَةِ الْمِثْلِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ. (وَمِنْهَا) إذَا أَخَذَ الْحَاجُّ مِنْ الزَّكَاةِ لِيَحُجَّ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا إنَّ الْحَجَّ مِنْ السَّبِيلِ فَإِنْ حَجَّ ثُمَّ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَهَلْ يُسْتَرَدُّ أَمْ لَا؟ الْأَظْهَرُ اسْتِرْدَادُهَا كَالْوَصِيَّةِ وَأَوْلَى لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ يَجِبُ صَرْفُهُ فِي مَصَارِفِهِ الْمُعَيَّنَةِ شَرْعًا وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ فَاضِلِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلْوَرَثَةِ وَلَهُمْ تَرِكَةٌ وَقِيَاسُ قَوْلِ الْأَصْحَابِ فِي الْغَازِي أَنَّهُ لَا يُسْتَرَدُّ وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ أَنَّ الدَّابَّةَ لَا تُسْتَرَدُّ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي النَّفَقَةِ لِأَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ صُرِفَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخِلَافِ فَاضِلِ النَّفَقَةِ وَيَمْلِكُهَا بِخُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِهِ بِخِلَافِ الْغَازِي نَصَّ [عَلَيْهِ أَحْمَدُ] فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ مِنْ حِينِ يَخْرُجُ فَهُوَ ابْنُ سَبِيلٍ لَهُ حَقٌّ فِي الزَّكَاةِ، وَالْغَازِي إنَّمَا أُعْطِيَ لِلْغَزْوِ فَلَا يَمْلِكُ بِدُونِهِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ مَنْ أَخَذَ بِسَبَبٍ فَانْتَفَى وَخَلَفَهُ سَبَبٌ آخَرُ مُبِيحٌ لِلْأَخْذِ أَنَّ لَهُ الْإِمْسَاكَ بِالسَّبَبِ الثَّانِي وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَصْحَابِ. وَمِنْهَا إذَا أَخَذَ الْغَازِي نَفَقَةً أَوْ فَرَسًا لِيَغْزُوَ عَلَيْهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ عَقْدًا جَائِزًا لَا لَازِمًا وَهُوَ إعَانَةٌ عَلَى الْجِهَادِ لَا اسْتِئْجَارَ عَلَيْهِ فَإِنْ رَجَعَ وَالْفَرَسُ مَعَهُ مَلَكَهَا مَا لَمْ يَكُنْ وَقْفًا أَوْ عَارِيَّةً نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلَا يَمْلِكُهَا حَتَّى يَغْزُوَ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَيَكُونُ تَمْلِيكًا بِشَرْطٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُرَاعًى بِشَرْطِ الْغَزْوِ فَإِنْ غَزَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَكَذَلِكَ عُقُودُ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِنْ فَضَلَ مَعَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ فَهُوَ كَالْفَرَسِ وَإِنْ فَضَلَ مِنْ النَّفَقَةِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا يَمْلِكُهَا أَيْضًا نَقَلَهَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ. وَالثَّانِيَة: يَرُدُّ الْفَاضِلَ فِي الْغَزْوِ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى نَقَلَهَا حَنْبَلٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الدَّابَّةَ قَدْ صُرِفَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاسْتُعْمِلَتْ فِيهِ وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِهَا بِخِلَافِ مَا فَضَلَ مِنْ النَّفَقَةِ فَأَمَّا إنْ أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ ثُمَّ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ فَقَالَ الْخِرَقِيِّ وَالْأَكْثَرُونَ لَا تُسْتَرَدُّ وَحَكَى صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ مَالِ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ عَلَى أَنَّ الدَّابَّةَ تَكُونُ لَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي النَّفَقَةِ لِمَا قَدَّمْنَا.
عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْتِئْجَارًا لَهُ مُقَابَلًا بِعِوَضٍ فَيَصِحُّ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ كَاشْتِرَاطِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ خِيَاطَةَ الثَّوْبِ أَوْ قِصَارَتَهُ أَوْ حَمْلَ الْحَطَبِ وَنَحْوَهُ، وَلِذَلِكَ يَزْدَادُ بِهِ الثَّمَنُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ إلْزَامًا لَهُ لِمَا لَا يَلْزَمُهُ بِالْعَقْدِ بِحَيْثُ يَجْعَلُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَلَوَازِمِهِ مُطْلَقًا وَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ فَلَا يَصِحُّ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا اشْتِرَاطُ مُشْتَرِي الزَّرْعِ الْقَائِمِ فِي الْأَرْضِ حَصَادَهُ عَلَى الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ وَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى فِي فَسَادِهِ بِهِ وَجْهَيْنِ لِأَنَّ حَصَادَ الزَّرْعِ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ الْوَاجِبِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ. وَمِنْهَا: اشْتِرَاطُ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى الْآخَرِ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ وَفِي فَسَادِ الْعَقْدِ بِهِ خِلَافٌ وَيَتَخَرَّجُ صِحَّةُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَيْضًا مِنْ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَلِذَلِكَ اسْتَشْكَلُوا مَسْأَلَةَ الْخِرَقِيِّ فِي حَصَادِ الزَّرْعِ. وَمِنْهَا شَرْطُ إيفَاءِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْعَقْدِ وَحُكِيَ فِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فَسَادُهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَأَوْمَأَ إلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَقَالَ [ابْنُ مَنْصُورٍ] لَيْسَ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْمِيَةُ الْمَكَانِ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى أَنَّ السَّلَمَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يُذْكَرَ فِي الْعَقْدِ أَوْصَافُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ قَدْرُهُ وَزَمَانُ مَحَلِّهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَكَانِ إيفَائِهِ فَاشْتِرَاطُ ذِكْرِ مَكَانِهِ يُوهِمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا ذُكِرَ زَمَانُهُ وَأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْبُيُوعِ الَّتِي لَا يُذْكَرُ فِي عُقُودِهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ وَدَلَالَةُ حَالِهِ تَقْتَضِي الْمُطَالَبَةَ بِالْعِوَضِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَعْمَلَ عَمَلًا فِيهِ غَنَاءٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقِيَامٌ بِمَصَالِحِهِمْ الْعَامَّةِ أَوْ فِيهِ اسْتِنْقَاذٌ لِمَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ الْهَلَكَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ أَفْسَدَهُ تَحْتَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كَالْمَلَّاحِ وَالْمُكَارِي وَالْحَجَّامِ وَالْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ وَالدَّلَّالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَرْصُدُ نَفْسَهُ لِلتَّكَسُّبِ بِالْعَمَلِ، فَإِذَا عَمِلَ اسْتَحَقَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ لَهُ شَيْءٌ نَصَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا مَنْ قَتَلَ مُشْرِكًا فِي حَالِ الْحَرْبِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ فِي قَتْلِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ بِالشَّرْعِ لَا بِالشَّرْطِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ. وَمِنْهَا: الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ عَمَلِهِ بِالشَّرْعِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا: الَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ الثَّمَنَ فِي كِتَابَةِ السُّلْطَانِ وَقَالَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ يَكُونُ لَهُمْ الَّذِي يَرَاهُ الْإِمَامُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ لَهُ بِالشَّرْعِ إمَّا مُقَدَّرًا أَوْ غَيْرَ مُقَدَّرٍ وَالْوَلِيُّ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِعْفَافِ مَعَ الْغِنَى وَأَيْضًا فَأَمْوَالُ الزَّكَاةِ حَقٌّ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ بِخِلَافِ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَيْضًا فَمَالُ الزَّكَاةِ يَسْتَحِقُّهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْغَنِيِّ فَالْعَامِلُ الَّذِي حَصَلَ الزَّكَاةَ وَجَبَاهَا أَوْلَى وَأَيْضًا فَالْعَامِلُ هُوَ الَّذِي جَمَعَ الْمَالَ وَحَصَّلَهُ بِخِلَافِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْعَامِلَ لَا يَسْتَحِقُّ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ لَهُ جُعْلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِأَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى عَمَلِهِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَهُوَ كَجُعْلِ رَدِّ الْإِبَاقِ وَأَوْلَى لِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهِ. وَمِنْهَا: مَنْ رَدَّ آبِقًا عَلَى مَوْلَاهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَى رَدِّهِ جُعْلًا بِالشَّرْعِ سَوَاءٌ شَرَطَهُ أَوْ لَمْ يَشْرُطْهُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَفِيهِ أَحَادِيثُ مُرْسَلَةٌ وَآثَارٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ الْحَثُّ عَلَى حِفْظِهِ عَلَى سَيِّدِهِ وَصِيَانَةِ الْعَبْدِ عَمَّا يَخَافُ مِنْ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى اخْتَصَّ الْوُجُوبُ بِرَدِّ الْآبِقِ [دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَالْمَتَاعِ وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِرَدِّ الْإِبَاقِ] أَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ لِانْتِصَابِهِ لِلْمَصَالِحِ وَلَهُ حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: مَنْ أَنْقَذَ مَالَ غَيْرِهِ مِنْ التَّلَفِ كَمَنْ خَلَّصَ عَبْدَ غَيْرِهِ مِنْ فَلَاة مُهْلِكَةٍ أَوْ مَتَاعَهُ مِنْ مَوْضِعٍ يَكُونُ هَلَاكُهُ فِيهِ مُحَقَّقًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ بِالْبَحْرِ وَفَمِ السُّبُعِ فَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى وُجُوبِ الْأُجْرَةِ لَهُ فِي الْمَتَاعِ وَذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي فِي الْعَبْدِ أَيْضًا وَحَكَى الْقَاضِي فِيهِ احْتِمَالًا بِعَدَمِ الْوُجُوبِ كَاللُّقَطَةِ وَأَوْرَدَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِيمَنْ خَلَّصَ مِنْ فَمِ السَّبُعِ شَاةً أَوْ خَرُوفًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَهُوَ لِمَالِكِهِ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُخَلِّصِ وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ هَذَا يُخْشَى هَلَاكُهُ وَتَلَفُهُ عَلَى مَالِكِهِ بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ فَخَلَّصَ قَوْمٌ الْأَمْوَالَ مِنْ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُمْ الْأُجْرَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْنِي لِأَنَّ فِيهِ حَثًّا وَتَرْغِيبًا فِي إنْقَاذِ الْأَمْوَالِ مِنْ التَّهْلُكَةِ فَإِنَّ الْغَوَّاصَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ غَرَّرَ بِنَفْسِهِ وَبَادَرَ إلَى التَّخْلِيصِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى رَدِّ الْآبِقِ وَفِي مُسَوَّدَةِ شَرْحِ الْهِدَايَةِ لِأَبِي الْبَرَكَاتِ: وَعِنْدِي أَنَّ كَلَامَ أَحْمَدَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي وُجُوبِ الْأُجْرَةِ عَلَى تَخْلِيصِ الْمَتَاعِ مِنْ الْمَهَالِكِ دُونَ الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ أَهْلٌ فِي الْجُمْلَةِ لِحِفْظِ نَفْسِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ وَقَدْ يَكُونُ صَغِيرًا أَوْ عَاجِزًا وَتَخْلِيصُهُ أَهَمُّ وَأَوْلَى مِنْ الْمَتَاعِ وَلَيْسَ فِي كَلَامِ أَحْمَدَ تَفْرِقَةٌ فَأَمَّا مَنْ عَمِلَ فِي مَالِ غَيْرِهِ عَلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا فَالْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا أُجْرَةَ لَهُ وَنَقَلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْجُرْجَانِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ عَمِلَ فِي قَنَاةِ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَالَ لِهَذَا الَّذِي عَمِلَ نَفَقَتُهُ إذَا عَمِلَ مَا يَكُونُ مَصْلَحَةً لِصَاحِبِ الْقَنَاةِ وَهَذِهِ تَتَخَرَّجُ عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْغَاصِبَ يَكُونُ شَرِيكًا بِآثَارِ عَمَلِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُجْبَرَ عَلَى أَخْذِ قِيمَةِ آثَارِ عَمَلِهِ مِنْ الْمَالِكِ لِتَمَلُّكِهَا عَلَيْهِ وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيكًا بِآثَارِ عَمَلِهِ إذَا زَادَتْ بِهِ الْقِيمَةُ وَذَكَرَ نَصَّ أَحْمَدَ فِي الْعَمَلِ فِي الْقَنَاةِ مِنْ رِوَايَةِ حَرْبٍ وَابْنِ هَانِئٍ وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَحَمَلَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ هَذِهِ النُّصُوصَ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ هُنَا فِي الْقَنَاةِ كَانَ شَرِيكًا فِيهَا وَلَيْسَ فِي الْمَنْصُوصِ شَيْءٌ يُشْعِرُ بِذَلِكَ وَمِنْ الْأَصْحَابِ مَنْ أَقَرَّ النُّصُوصَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَجَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مُطَّرِدًا فِي كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا كَغَيْرِهِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ كَحَصَادِ زَرْعِهِ وَالِاسْتِخْرَاجِ مِنْ مَعْدِنِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَخْرِيجًا مِنْ الْعَمَلِ فِي الْقَنَاةِ وَمِنْهُمْ الْحَارِثِيُّ وَكَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ فَلِلْمَالِكِ حِينَئِذٍ أَنْ يُمْضِيَهُ وَيَرُدَّ عِوَضَهُ وَهُوَ أُجْرَةُ الْمِثْلِ وَلَهُ أَنْ يُمْضِيَهُ فَيَكُونُ الْعَامِلُ شَرِيكًا بِالْعَمَلِ وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ وَقَرَأْتُهُ بِخَطِّهِ فِي الْأَجِيرِ إذَا عَمِلَ فِي الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَيْهَا دُونَ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ رَدَّ عَمَلَهُ وَأَخَذَ وَصَارَ الْأَجِيرُ شَرِيكًا بِعَمَلِهِ وَإِنْ شَاءَ قَبِلَ الْعَمَلَ وَرَجَعَ عَلَى الْأَجِيرِ بِالْأَرْشِ وَذَكَرَ نَصَّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ بِالرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ رَضِيَ بِالْعَمَلِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ: قِيَاسُ الْمَذْهَبِ إذَا لَمْ يَأْتِ الْحَائِكُ بِالثَّوْبِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْغَزْلِ وَلَا أُجْرَةَ لَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَنْسُوجًا وَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ، وَتَكُونُ الْأُجْرَةُ هَاهُنَا بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْغَزْلِ. ثُمَّ ذَكَرَ رِوَايَةَ الْمَيْمُونِيِّ هَذِهِ وَقَالَ هِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ اخْتَارَ تَقْوِيمَهُ مَعْمُولًا وَالْتَزَمَ قِيمَةَ الصَّنْعَةِ الَّتِي هِيَ دُونَ الَّتِي وَافَقَهُ عَلَيْهَا وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ بَعِيدٌ جِدًّا أَنْ يُضَمِّنَ الْمَالِكُ الصَّانِعَ قِيمَةَ الثَّوْبِ مَعَ بَقَائِهِ وَلَا يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ أَحْمَدَ عَلَى مَا قَالَهُ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: يُنْظَرُ مَا بَيْنَهُمَا فَيُرْجَعُ بِهِ عَلَى الصَّانِعِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ خَاصَّةً. وَأَيْضًا فَلَوْ غَصَبَ غَزْلًا وَنَسَجَهُ لَمْ يَمْلِكْ الْمَالِكُ الْتِزَامَهُ بِهِ وَيُطَالِبُهُ بِالْقِيمَةِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْأَجِيرِ بِذَلِكَ، وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَالِكَ يَمْلِكُ اسْتِرْجَاعَ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ وَدَفْعَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ ثُمَّ ذَكَرَ احْتِمَالًا بِالرُّجُوعِ بِالْأَرْشِ كَمَا هُوَ الْمَنْصُوصُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَتَى كَانَ الْعَمَلُ فِي مَالِ الْغَيْرِ إنْقَاذًا لَهُ مِنْ التَّلَفِ الْمُشْرِفِ عَلَيْهِ كَانَ جَائِزًا كَذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ إذَا خِيفَ مَوْتُهُ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَيُفِيدُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا نَقَضَ بِذَبْحِهِ.
وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ أَدَّى وَاجِبًا عَنْ غَيْرِهِ وَالثَّانِي: مَنْ أَنْفَقَ عَلَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ: مِنْهَا: إذَا قَضَى عَنْهُ دَيْنًا وَاجِبًا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي وَالْأَكْثَرِينَ، وَاشْتَرَطَ الْقَاضِي أَنْ يَنْوِيَ الرُّجُوعَ وَيُشْهِدَ عَلَى نِيَّتِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَلَوْ نَوَى التَّبَرُّعَ أَوْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ وَاشْتَرَطَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْمَدِينُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْأَدَاءِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى أَنْ لَا رُجُوعَ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ إذْنِهِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ صَاحِبَا الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْخِلَافِ لِلْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَالْأَكْثَرِينَ وَهَذَا فِي دُيُونِ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا دُيُونُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فَلَا يَرْجِعُ بِهَا مَنْ أَدَّاهَا عَمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَعَلَّلَ الْقَاضِي ذَلِكَ بِأَنَّ أَدَاءَهَا بِدُونِ إذْنِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى نِيَّتِهِ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا لَوْ حَجَّ رَجُلٌ عَنْ مَيِّتٍ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ وَقُلْنَا يَصِحُّ أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ فِي نَذْرٍ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةٍ وَقُلْنَا يَصِحُّ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْإِذْنِ هُنَا وَيَكُونُ كَأَدَاءِ أَحَدِ الْخَلِيطَيْنِ الزَّكَاةَ مِنْ مَالِهِ عَنْ الْجَمِيعِ. وَمِنْهَا: لَوْ اشْتَرَى أَسِيرًا مُسْلِمًا حُرًّا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَطْلَقَهُ أَوْ أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِمَا اشْتَرَاهُ بِهِ سَوَاءٌ أَذِنَ لَهُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لِأَنَّ الْأَسِيرَ يَجِبُ عَلَيْهِ افْتِدَاءُ نَفْسِهِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ الْأَسْرِ فَإِذَا فَدَاهُ غَيْرُهُ فَقَدْ أَدَّى عَنْهُ وَاجِبًا رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ لَمْ يَحْكُوا فِي الرُّجُوعِ هَاهُنَا خِلَافًا وَحَكَى الْقَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى يَتَوَقَّفُ الرُّجُوعُ عَلَى الْإِذْنِ. وَهَلْ يُعْتَبَرُ لِلرُّجُوعِ هَاهُنَا نِيَّةٌ أَمْ يَكْفِي إطْلَاقُ النِّيَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الرُّجُوعِ لِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ مَا لَمْ يَنْوِ التَّبَرُّعَ وَبِهِ جَزَمَ فِي الْمُحَرَّرِ لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّ انْفِكَاكَ الْأَسْرَى مَطْلُوبٌ شَرْعًا فَيُرَغَّبُ فِيهِ بِتَوْسِعَةِ طَرَفِ الرُّجُوعِ لِئَلَّا تَقِلَّ الرَّغْبَةُ فِيهِ. وَمِنْهَا: نَفَقَةُ الرَّقِيقِ وَالزَّوْجَاتِ وَالْأَقَارِبِ وَالْبَهَائِمِ إذَا امْتَنَعَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ فَأَنْفَقَ عَلَيْهِمَا غَيْرُهُ بِنِيَّةِ الرُّجُوعِ فَلَهُ الرُّجُوعُ كَقَضَاءِ الدُّيُونِ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ. وَمِنْهَا: لَوْ أَنْفَقَ عَلَى عَبْدِهِ الْآبِقِ فِي حَالِ رَدِّهِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ نَصَّ عَلَيْهِ وَجَزَمَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ جُعْلًا عَلَى الرَّدِّ عِوَضًا عَنْ بَذْلِهِ مَنَافِعَهُ فَلَأَنْ يَجِبَ لَهُ الْعِوَضُ عَمَّا بَذَلَهُ مِنْ الْمَالِ فِي رَدِّهِ أَوْلَى، وَاشْتَرَطَ أَبُو الْخَطَّابِ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِئْذَانِ الْمَالِكِ وَضَعَّفَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي وَلَا يَتَوَقَّفُ الرُّجُوعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَوْ أَبِقَ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ وَصَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْمُنْقَطِعِ بِمَهْلَكَةٍ وَحَكَى أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى فِي الرُّجُوعِ بِنَفَقَتِهِ رِوَايَتَيْنِ، وَلَوْ أَرَادَ اسْتِخْدَامَهُ بَدَلَ النَّفَقَةِ فَفِي جَوَازِهِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الْفَتْحِ الْحَلْوَانِيُّ فِي الْكِفَايَةِ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ. وَمِنْهَا: نَفَقَةُ اللُّقَطَةِ حَيَوَانًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ إلَى مُؤْنَةٍ وَإِصْلَاحٍ فَإِنْ كَانَتْ بِإِذْنِ حَاكِمٍ رَجَعَ بِهَا لِأَنَّ إذْنَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إذْنِ الْغَائِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِإِذْنِهِ فَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ هَاهُنَا عَدَمَ الرُّجُوعِ لِأَنَّ حِفْظَهَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا أَنْفَقَ غَيْرَ مُطَوَّعٍ بِالنَّفَقَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَسَبًا فِي الرُّجُوعِ رِوَايَتَانِ. وَمِنْهَا: نَفَقَةُ اللَّقِيطِ خَرَّجَهَا بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَرْجِعُ هَاهُنَا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِلَيْهِ مَيْلُ صَاحِبِ الْمُغْنِي لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً عَلَى الْمُلْتَقِطِ وَنَصَّ أَحْمَدُ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ. وَمِنْهَا: الْحَيَوَانُ الْمُودَعُ إذَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُسْتَوْدَعُ نَاوِيًا لِلرُّجُوعِ فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ مَالِكِهِ رَجَعَ وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ فَطَرِيقَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَأَوْلَى لِأَنَّ لِلْحَيَوَانِ حُرْمَةً فِي نَفْسِهِ فَوَجَبَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الدُّيُونِ أَحْيَانًا وَهِيَ طَرِيقَةُ صَاحِبِ الْمُغْنِي. وَالثَّانِيَةُ: لَا يَرْجِعُ قَوْلًا وَاحِدًا وَهِيَ ي طَرِيقَةُ الْمُحَرَّرِ وَمُتَابَعَةٌ لِأَبِي الْخَطَّابِ لَكِنْ مَنْ اعْتَبَرَ الرُّجُوعَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ بِعُذْرِ الْإِذْنِ فَهَاهُنَا أَوْلَى وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي الدَّيْنِ وَاعْتَبَرَهُ هَاهُنَا فَالْفَرْقُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ فِيهِ بَرَاءٌ لِذِمَّتِهِ وَتَخْلِيصٌ لَهُ مِنْ الْغَرِيمِ وَهَاهُنَا اشْتِغَالٌ لِذِمَّتِهِ بِدَيْنٍ لَمْ تَكُنْ مُشْتَغِلَةً بِهِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيُنْتَقَضُ بِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ هُنَا مُتَوَجِّهَةٌ مِنْ الْحَاكِمِ بِإِلْزَامِهِ فَقَدْ خَلَّصَهُ مِنْ ذَلِكَ وَعَجَّلَ بَرَاءَتَهُ مِنْهُ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَمْ تَبْرَأْ بِهِ ذِمَّتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ بَلْ هِيَ مَشْغُولَةٌ بِدَيْنِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ أَيْضًا فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَيَوَانِ الْمُؤْتَمَنِ عَلَيْهِ عُرْفِيٌّ فَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِيِّ. وَمِنْهَا: نَفَقَةُ طَائِرٍ غَيْرِهِ إذَا عَشَّشَ فِي دَارِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ فِي طَيْرَةٍ أَفْرَخَتْ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ الْجِيرَانِ فَالْفِرَاخُ تَتْبَعُ الْأُمَّ يَرُدُّونَ عَلَى أَصْحَابِهَا فَإِنْ كَانَ قَدْ عَلَفَ الْفِرَاخَ مُدَّةَ مَقَامِهَا فِي يَدِهِ مُتَطَوِّعًا لَمْ يَرْجِعْ وَإِنْ لَمْ يَتَطَوَّعْ يَحْتَسِبُ بِالنَّفَقَةِ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهَا مَا أَنْفَقَ وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ إمْكَانِ الِاسْتِئْذَانِ وَعَدَمِهِ، وَخَرَّجَ الْقَاضِي رِوَايَةً أُخْرَى بِعَدَمِ الرُّجُوعِ بِكُلِّ حَالٍ مِنْ نَظِيرَتِهَا فِي الْمُرْتَهِنِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَرْجِعُ فِيهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ فَلَهُ صُوَرٌ مِنْهَا: إنْفَاقُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ أَوْ امْتِنَاعِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْقَاسِمِ فِي رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا أَرَاضٍ أَوْ دَارٌ أَوْ عَبْدُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنْفِقَ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْبَى الْآخَرُ. قَالَ: يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِشَرِيكِهِ وَيَمْتَنِعُ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أُلْزِمَ ذَلِكَ وَحُكِمَ بِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَضُرُّ بِهَذَا يُنْفِقُ وَيَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِ. وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ مِنْ جُمْلَتِهَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ أَوْ سَقْفٌ فَانْهَدَمَ وَطَلَبَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ الْآخَرُ مَعَهُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى لَا يُجْبَرُ فِيهِ فَيَنْفَرِدُ الطَّالِبُ بِالْبِنَاءِ وَيَمْنَعُ الشَّرِيكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَخُصُّ حِصَّتَهُ مِنْ النَّفَقَةِ نَصَّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا كَالْوَصِيِّ وَالْحَاكِمِ فِي مِلْكِ الْيَتِيمِ. وَمِنْ صُوَرِ النَّوْعِ إذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ فَفَدَاهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ، قَالَ أَكْثَرُ الْأَصْحَابِ كَالْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ إنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ اسْتِئْذَانُهُ فَلَا رُجُوعَ وَإِنْ تَعَذَّرَ خُرِّجَ عَلَى الْخِلَافِ فِي نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ لِأَنَّ الْفِدَاءَ هُنَا لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ وَاسْتِبْقَائِهِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَأَطْلَقَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الِافْتِدَاءُ هَاهُنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ قِيمَتُهُ لِتَكُونَ رَهْنًا وَقَدْ وَافَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ ابْنُ أَبِي مُوسَى. وَمِنْهَا مُؤْنَةُ الرَّهْنِ مِنْ كَرْيِ مَخْزَنِهِ وَإِصْلَاحِهِ وَتَشْمِيسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الرَّاهِنَ إذَا قَامَ بِهَا الْمُرْتَهِنُ بِدُونِ إذْنِهِ مَعَ تَعَذُّرِهِ فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ عَلَى مَا سَيَأْتِي صَرَّحَ بِهِ الْأَصْحَابُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ لِحِفْظِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَصَارَ وَاجِبًا عَلَى الرَّهْنِ لِعَلَاقَةِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ. وَمِنْهَا لَوْ خَرِبَتْ الدَّارُ الْمَرْهُونَةُ فَعَمَّرَهَا الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنٍ فَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ لَا يَرْجِعُ إلَّا بِأَعْيَانِ آلَتِهِ لِأَنَّ بِنَاءَ الدَّارِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ، وَالْمَجْزُومُ بِهِ فِي الْخِلَافِ الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مِنْ مَصْلَحَةِ الرَّهْنِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ يَحْتَمِلُ عِنْدِي أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا ينحفظ بِهِ أَصْلُ مَالِيَّةِ الدَّارِ لِحِفْظِ وَثِيقَتِهِ لِأَنَّهَا نَفَقَةٌ لِحِفْظِ مَالِيَّةِ وَثِيقَةٍ وَذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحُ انْتَهَى. وَلَوْ قِيلَ إنْ كَانَتْ الدَّارُ بَعْدَ مَا خَرِبَ مِنْهَا تُحْرِزُ قِيمَةَ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ [بِهِ] لَمْ يَرْجِعْ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَى عِمَارَتِهَا حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَتْ دُونَ حَقِّهِ أَوْ وَفْقَ حَقِّهِ وَيُخْشَى مِنْ تَدَاعِيهَا لِلْخَرَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَنْقُصَ عَنْ مِقْدَارِ الْحَقِّ فَلَهُ أَنْ يَعْمُرَ وَيَرْجِعَ لِمَكَانِ مَسْحِهَا. وَمِنْهَا عِمَارَةُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الدَّارِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي غَلْقِ الدَّارِ إذَا عَمِلَهُ السَّاكِنُ وَيَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِنَاءً عَلَى مِثْلِهِ فِي الرَّهْنِ، وَلَكِنْ حَكَى صَاحِبُ التَّلْخِيصِ أَنَّ الْمُؤَجِّرَ يُجْبَرُ عَلَى التَّرْمِيمِ بِإِصْلَاحِ مُنْكَسِرٍ وَإِقَامَةِ مَائِلٍ فَأَمَّا تَجْدِيدُ الْبِنَاءِ وَالْأَخْشَابِ فَلَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ إجْبَارٌ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْعَقْدُ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارُ، قَالَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَلْزَمَهُ التَّجْدِيدُ انْتَهَى. فَعَلَى [الْقَوْلِ] الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِرُجُوعِ الْمُسْتَأْجِرِ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى التَّجْدِيدِ وَعَلَى الثَّانِي يَتَوَجَّهُ الرُّجُوعُ.
فَصْلٌ: وَقَدْ يَجْتَمِعُ النَّوْعَانِ فِي صُوَرٍ فَيُؤَدِّي عَنْ مِلْكِ غَيْرِهِ وَاجِبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ وَفِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْأَكْثَرِينَ وَالثَّانِي يَرْجِعُ هَاهُنَا رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي خِلَافِهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُنْفِقَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّهْنِ بِإِطْعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ حَيَوَانًا فَفِيهِ الطَّرِيقَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ كَذَلِكَ وَقَالَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَالرِّوَايَتَيْنِ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَالْأَكْثَرُونَ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ الرُّجُوعُ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبِي هَانِئٍ أَنَّهُ يَرْكَبُ وَيَحْلِبُ بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ إذْنًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ وَأَيْضًا فَالْإِذْنُ فِي الْإِنْفَاقِ هَاهُنَا عُرْفِيٌّ فَيَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِيِّ وَبِالْمُرْتَهِنِ إلَيْهِ حَاجَةٌ لِحِفْظِ وَثِيقَةٍ فَصَارَ كَبِنَاءِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ، وَنَقَلَ [عَنْهُ] ابْنُ مَنْصُورٍ فِيمَنْ ارْتَهَنَ دَابَّةً فَعَلَفَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا فَالْعَلَفُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، مَنْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْلِفَ؟ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ مُهَنَّا فِي كَفَنِ الْعَبْدِ الْمَرْهُونِ لَكِنَّ الْكَفَنَ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرُ مَا أَوْرَدَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَحَمَلَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْخِلَافِ هَذَا النَّصِّ عَلَى أَنَّ الرَّهْنَ كَانَ حَاضِرًا وَأَمْكَنَ اسْتِئْذَانُهُ وَعَلَّفَ بِدُونِ إذْنٍ وَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي بِأَنَّ الرُّجُوعَ مَشْرُوطٌ بِتَعَذُّرِ الِاسْتِئْذَانِ وَاعْتَبَرَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي لُزُومِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ أَنْ يُسْتَدَانَ عَلَيْهِ بِإِذْنِ الْحَاكِمِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهَا لَا تَلْزَمُ بِفَرْضِ الْحَاكِمِ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَفِي التَّرْغِيبِ لَيْسَ لِغَيْرِ الْأَبِ الِاسْتِقْرَاضُ إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ حَتَّى وَلَا لِلزَّوْجَةِ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا لِلزَّوْجَةِ الْأَخْذُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا الْمُوسِرِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ إذَا قَدَرَتْ عَلَى قَدْرِ كِفَايَتِهَا وَحَكَى فِي أَخْذِهَا لِوَلَدِهَا وَجْهَيْنِ قَالَ وَلَيْسَ لَهَا الْإِنْفَاقُ عَلَى الطِّفْلِ مِنْ مَالِهِ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ لِانْتِفَاءِ وِلَايَتِهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ الْمُتَقَدِّمِ وَلِقَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهَا تَأْخُذُ لِنَفْسِهَا وَلِوَلَدِهَا وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهَا تَقْبِضُ الزَّكَاةَ لِوَلَدِهَا الطِّفْلِ وَقَدْ سَبَقَ قَوْلُ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى أَقَارِبِ غَيْرِهِ الَّذِينَ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يَرْجِعُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا اسْتَدَانَتْ عَلَى زَوْجِهَا نَفَقَةَ الْمِثْلِ مَعَ غَيْبَتِهِ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ إذْنَ حَاكِمٍ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا فِي سُقُوطِ نَفَقَةِ [الزَّوْجَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ] بِمُضِيِّ الزَّمَانِ بِدُونِ فَرْضِ الْحَاكِمِ لَهَا وَكَذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مَعَ أَنَّهُ وَافَقَ طَرِيقَةَ الْخِلَافِ فِي الرُّجُوعِ قَوْلًا وَاحِدًا بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الضَّمَانِ وَضَعَّفَ صَاحِبُ الْمُغْنِي اعْتِبَارَ الْإِذْنِ طَرْدًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي الضَّمَانِ. وَمِنْهَا: إذَا هَرَبَ الْجَمَّالُ وَتَرَكَ الْجِمَالَ فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِدُونِ إذْنِ حَاكِمٍ فَفِي الرُّجُوعِ الرِّوَايَتَانِ وَمُقْتَضَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَرْجِعُ رِوَايَةً وَاحِدَةً. ثُمَّ إنَّ الْأَكْثَرِينَ اعْتَبِرُوا هُنَا اسْتِئْذَانَ الْحَاكِمِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي الرَّهْنِ وَاعْتَبَرُوهُ أَيْضًا فِي الْمُودَعِ وَاللُّقَطَةِ وَفِي الْمُغْنِي إشَارَةٌ إلَى التَّسْوِيَةِ مِنْ الْكُلِّ فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ وَأَنَّ الْإِنْفَاقَ بِدُونِ إذْنِهِ يُخَرَّجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ اعْتَبَرُوا الْإِشْهَادَ عَلَى نِيَّةِ الرُّجُوعِ وَفِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَمِنْهَا: إذَا هَرَبَ الْمُسَاقِي قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ مَنْ يُتِمُّهُ وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْجَمَّالِ إلَّا أَنَّ لِلْمَالِكِ الْفَسْخَ وَلَوْ قُلْنَا بِلُزُومِ الْمُسَاقَاةِ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: إذَا غَابَ الزَّوْجُ فَاسْتَدَانَتْ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ عَلَى نَفْسِهَا وَأَوْلَادِهَا الصِّغَارِ نَفَقَةَ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ بِذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيِّ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْحَاكِمِ. وَمِنْهَا: إذَا أَعَارَهُ شَيْئًا لِيَرْهَنَهُ ثُمَّ افْتَكَّهُ الْمُعِيرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ هُنَا قَوْلًا وَاحِدًا عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْقَاضِي. وَمِنْهَا: لَوْ قَضَى أَحَدُ الْوَرَثَةِ الدَّيْنَ عَنْ الْمَيِّتِ لِيَزُولَ تَعَلُّقُهُ بِالتَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ أَيْضًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْقَاضِي فِيهِ خِلَافًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا قَدْ لَا يَطَّرِدُ فِيهِمَا الْخِلَافُ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ هَاهُنَا لِاسْتِصْلَاحِ مِلْكِ الْمُنْفِقِ فَهُوَ كَإِنْفَاقِ الشَّرِيكِ عَلَى عِمَارَةِ الْحَائِطِ يَرْجِعُ بِهِ بِغَيْرِ خِلَافٍ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا كَانَ الْإِنْفَاقُ لِاسْتِصْلَاحِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُنْفِقِ إلَّا أَنَّ الْأَصْحَابَ صَرَّحُوا بِاطِّرَادِ الْخِلَافِ فِي صُورَةِ الْمُسَاقَاةِ مَعَ تَعَلُّقِ الِاسْتِصْلَاحِ فِيهَا بِعَيْنِ مَالِ الْمُنْفِقِ.
|