فصل: ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر غرق بغداد

في هذه السنة ثامن ربيع الآخر كثرت الزيادة في دجلة وخرق القورج فوق بغداد وأقبل الد إلى البلد فامتلأت الصحاري وخندق البلد وأفسد الماء السور وأحدث فيه فتحة يوم السبت تاسع عشر الشهر فوقع بعض السور عليها فسدها ثم فتح الماء فتحة أخرى وأهملوها ظنًا أنها تنفث عن السور لئلا يقع فغلب الماء وتعذر سده فغرق قراح ظفر والأجمة والمختارة والمقتدية ودرب القبار وخرابة ابن جردة والريان وقراح القاضي وبعض القطيعة وبعض باب الأزج وبعض المأمونية وقراح أبي الشحم وبعض قراح ابن رزين وبعض الظفرية‏.‏

ودب الماء تحت الأرض إلى أماكن فوقعت وأخذ الناس يعبرون إلى الجانب الغربي فبلغت المعبرة عدة دنانير ولم يكن يقدر عليها ثم نقص الماء وتهدم السور وبقي الماء الذي داخل السور يدب في المحال التي لم يركبها الماء فكثر الخراب وبقيت المحال لا تعرف إنما هي تلول فأخذ الناس حدود دورهم بالتخمين‏.‏

وأما الجانب الغربي فغرقت فيه مقبرة أحمد بن حنبل وغيرها من المقابر وانخسفت القبور المبنية وخرج الموتى على رأس الماء وكذلك المشهد والحربية وكان أمرًا عظيمًا‏.‏

  ذكر عود سنقر الهمذاني إلى اللحف وانهزامه

في هذه السنة عاد سنقر الهمذاني إلى إقطاعه وهو قلعة الماهكي وبلد اللحف وكان الخليفة قد أقطعه للأمير قايماز العميدي ومعه أربعمائة فارس فأرسل إليه يقول له‏:‏ ارحل عن بلدي فامتنع فسار إليه وجرى بينهم قتال شديد انهزم فيه العميدي ورجع إلى بغداد بأسوء حال‏.‏

فبرز الخليفة وسار في عساكره إلى سنقر فوصل إلى العمانية وسير العساكر مع ترشك ورجع

إلى بغداد ومضى ترشك نحو سنقر الهمذاني فتوغل سنقر في الجبال هاربًا ونهب ترشك ما وجد له ولعسكره من مال وسلاح وغير ذلك وأسر وزيره وقتل من رأى من أصحابه ونزل على الماهكي وحصرها أيامًا ثم عاد إلى البندنيجين وأرسل إلى بغداد بالبشارة‏.‏

وأما سنقر فإنه لحق بملكشاه فاستنجده فسير معه خمس مائة فارس فعاد ونزل على قلعة هناك وأفسد أصحابه في البلاد وأرسل ترشك إلى بغداد يطلب نجدة فجاءته فأراد سنقر أن يكبس ترشكن فعرف ذلك فاحترز فعدل سنقر إلى المخادعة فأرسل رسولًا إلى ترشك يطلب منه أن يصلح حاله مع الخليفة فاحتبس ترشك الرسول عنده وركب فيمن خف من أصحابه فكبس سنقر ليلًا فانهزم هو وأصحابه وكثر القتل فيهم وغنم ترشك أموالهم ودوابهم وكل ما لهم ونجا سنقر جريحا‏.‏

  ذكر الفتنة بين عامة استراباذ

في هذه السنة وقع في استراباذ فتنة عظيمة بين العلويين ومن يتبعهم من الشيعة وبين الشافعية ومن معهم‏.‏

وكان سببها أن الإمام محمدًا الهروي وصل إلى استراباذ فعقد مجلس الوعظ وكان قاضيها أبو نصر سعد بن محمد بن إسماعيل النعيمي شافعي المذهب أيضًا فثار العلويين ومن يتبعهم من الشيعة بالشافعية ومن يتبعهم باستراباذ ووقعت بين الطائفتين فتنة عظيمة انتصر فيها العلويون فقتل من الشافعية جماعة وضرب القاضي ونهبت داره ودور من معه وجرى عليهم من الأمور الشنيعة ما لا حد عليه‏.‏

فسمع شاه مازندران الخبر فاستعظمه وأنكر على العلويين فعلهم وبالغ في الإنكار مع أنه شديد التشيع وقطع عنهم جرايات كانت لهم ووضع الجبايات والمصادرات على العامة فتفرق كثير منهم وعاد القاضي إلى منصبه وسكنت الفتنة‏.‏

  ذكر وفاة الملك محمد بن محمود بن ملكشاه

في هذه السنة في ذي الحجة توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد وهو الذي حاصر بغداد طالبًا السلطنة وعاد عنها فأصابه سل وطال بهن فمات بباب همذان وكان مولده في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة‏.‏

فلما حضره الموت أمر العساكر فركبت وأحضر أمواله وجواهره وحظاياه ومماليكه فنظر إلى الجميع من طيارة تشرف على ما تحتها فلما رآه بكى وقال‏:‏ هذه العساكر والأموال والمماليك والسراري ما أرى يدفعون عني مقدار ذرة ولا يزيدون في أجلي لحظة‏.‏

وأمر بالجميع فرفع بعد وكان حليمًا كريمًا عاقلًا كثير التأني في أموره وكان له ولد صغير فسلمه إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له‏:‏ أنا أعلم أن العساكر لا تطيع مثل هذا الطفل وهو وديعة عندك فارحل به إلى بلادك‏.‏

فرحل إلى مراغة فلما مات اختلفت الأمراء فطائفة طلبوا ملكشاه أخاه وطائفة طلبوا سليمان شاه وهم الأكثر وطائفة طلبوا أرسلان الذي مع إيلدكز فإما ملكشاه فإنه سار من خوزستان ومعه دكلا صاحب فارسن وشملة التركماني وغيرهما فوصل إلى أصفهان فسلمها إليه ابن الخجندي وجمع له مالًا أنفقه عليه وأرسل إلى العساكر بهمذان يدعوهم إلى طاعته فلم يجيبوه لعدم الاتفاق بينهم ولأن أكثرهم كان يريد سليمان شاه‏.‏

  ذكر أخذ حران من نور الدين وعوده إليها

في هذه السنة مرض نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب مرضًا شديدًا وأرجف بموته وكان بقلعة حلب ومعه أخوه الأصغر أمير أميران فجمع الناس وحصر القلعة وكان شيركوه وهو أكبر أمرائه بحمص فبلغه خبر موته فسار إلى دمشق ليتغلب عليها وبها أخوه نجم الدين أيوب فأنكر عليه أيوب ذلك وقال‏:‏ أهلكتنا‏!‏ والمصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حيًا خدمته في هذا الوقت وإن كان قد مات فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها فعاد إلى حلب مجدًا وصعد القلعة وأجلس نور الدين في مكان يراه فيه الناس وكلمهم فلما رأوه حيًا تفرقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها‏.‏

فلما عوفي نور الدين قصد حران ليخلصها فهرب أخوه منه وترك أولاده بحران في القلعة فملكها نور الدين وسلمها إلى زين الدين علي نائب أخيه قطب الدين صاحب الموصل ثم سار نور الدين بعد أخذ حران إلى الرقة وبها أولاد أميرك الجاندار وهو من أعيان الأمراء وقد توفي وبقي أولاده فنازلها فشفع جماعة من الأمراء فيهم فغضب من ذلك وقال‏:‏ هلا شفعتم في أولاد أخي لما أخذت منهم حران وكانت الشفاعة فيهم من أحب الأشياء إلي‏!‏ فلم يشفعهم وأخذها منهم‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة مرض الخليفة المقتفي لأمر الله واشتد مرضه وعوفي فضربت البشائر ببغداد وفرقت الصدقات من الخليفة ومن أرباب الدولة وغلق البلد أسبوعًا‏.‏

وفيها عاد ترشك إلى بغداد ولم يشعر به أحد إلا وقد ألقى نفسه تحت التاج ومعه سيف وكفن وكان قد عصى الخليفة والتحق بالعجم فعاد الآن فرضي عنه وأذن له في دخول دار الخلافة وأعطي مالًا‏.‏

وفيها في جمادى الأولى أرسل محمد بن أنز صاحب قهستان عسكرًا إلى بلد الإسماعيلية ليأخذ نهم الخراج الذي عليهم فنزل عليهم الإسماعيلية من الجبال فقتلوا كثيرًا من العسكر وأسروا الأمير الذي كان مقدمًا عليهم اسمه قتيبة وهو صهر ابن أنز فبقي أسيرًا عندهم عدة شهور حتى زوج ابنته من رئيس الإسماعيلية علي بن الحسن وخلص من الأسر‏.‏

وفيها توفي شرف الدين علي بن أبي القاسم منصور بن أبي سعيد الصاعدي قاضي نيسابور في شهر رمضان وكان موته بالري ودفن في مقبرة محمد ابن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهما وكان القاضي حنفيًا أيضًا‏.‏

  ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة

  ذكر مسير سليمان شاه إلى همذان

في هذه السنة سار سليمان شاه من الموصل إلى همذان ليتولى السلطنة وقد تقدم سبب قبضه وأخذه إلى الموصل‏.‏

وسبب مسيره إليها أن الملك محمدا ًابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه لما مات أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى أتابك قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يطلبون منه إرسال الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه إليهم ليولوه السلطنة فاستقرت القاعدة بينهم أن يكون سليمان شاه سلطانًا وقطب الدين أتابكه وجمال الدين وزير قطب الدين وزيرًا للملك سليمان شاه وزين الدين علي أمير العساكر الموصلية مقدم جيش سليمان شاه وتحالفوا على هذا وجهز سليمان شاه بالأموال الكثيرة والبرك والدواب والآلات وغير ذلك مما يصلح للسلاطين وسار ومعه زين الدين علي في عسكر الموصل إلى همذان‏.‏

فلما قاربوا بلاد الجبل أقبلت العساكر إليهم إرسالًا كل يوم يلقاه طائفة وأمير فاجتمع مع سليمان شاه عسكر عظيم فخافهم زين الدين على نفسه لأنه رأى من تسلطهم على السلطان واطراحهم للأدب معه ما أوجب الخوف منه فعاد إلى الموصل فحين عاد عنه لم ينتظم أمره ولم يتم له ما أراده وقبض العسكر عليه بهمذان في شوال سنة ست وخمسين وخطبوا لأرسلان شاه ابن الملك طغرل وهو الذي تزوج إيلدكز بأمه وسيذكر مشروحًا إن شاء الله تعالى‏.‏

في هذه السنة في صفر توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر صاحب مصر وكانت خلافته ست سنين ونحو شهرين وكان له لما ولي خمس سنين كما ذكرناه‏.‏

ولما مات دخل الصالح بن رزيك القصر واستدعى خادمًا كبيرًا وقال له‏:‏ من هاهنا يصلح للخلافة فقال‏:‏ هاهنا جماعة وذكر أسمائهم وذكر له منهم إنسان كبير السن فأمر بإحضاره فقال له بعض أصحابه سرًا‏:‏ لا يكون عباس أحزم منك حيث اختار الصغير وترك الكبار واستبد بالأمر فأعاد الصالح الرجل إلى موضعه وأمر حينئذ بإحضار العاضد لدين الله أبي محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولم يكن أبوه خليفة وكان العاضد في ذلك الوقت مراهقًا قارب البلوغ فبايع له بالخلافة وزوجه الصالح ابنته ونقل معها من الجهاز ما لا يسمع بمثله وعاشت بعد موت العاضد وخروج الأمر من العلويين إلى الأتراك وتزوجت

  ذكر موت الخليفة المقتفي لأمر الله وشيء من سيرته

في هذه السنة ثاني ربيع الأول توفي أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بأمر الله رضي الله عنه بعلة التراقي وكان مولده ثاني عشر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة وأمه أم ولد تدعى ياعي وكانت خلافته أربعًا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يومًا ووافق أباه المستظهر بالله في علة التراقي وماتا جميعًا في ربيع الأول‏.‏

وكان حليمًا كريمًا عادلًا حسن السيرة من الرجال ذوي الرأي والعقل الكثير‏.‏

وهو أول من استبد بالعراق منفردًا عن سلطان يكون معه من أول أيام الدليم إلى الآن وأول خليفة تمكن من الخلافة وحكم على عسكره وأصحابه من حين تحكم المماليك على الخلفاء من عهد المستنصر إلى الآن إلا أن يكون المعتضد وكان شجاعًا مقدامًا مباشرًا للحروب بنفسه وكان يبذل الأموال العظيمة لأصحاب الأخبار في جميع البلاد حتى كان لا يفوته شيءمنها‏.‏

  ذكر خلافة المستنجد بالله

و في هذه السنة بويع المستنجد بالله أمير المؤمنين واسمه يوسف وأمه أم ولد تدعى طاووس بعد موت والده وكان للمقتفي حظية وهي أم ولده أبي علي فلما اشتد مرض المقتفي وأيست منه أرسلت إلى جماعة من الأمراء وبذلت لهم الإقطاعات الكثيرة والأموال الجزيلة ليساعدوها على أن يكون ولدها الأمير أبو علي خليفة‏.‏

قالوا‏:‏ كيف الحيلة مع ولي العهد

فقالت‏:‏ إذا دخل على والده قبضت عليه‏.‏

وكان يدخل على أبيه كل يوم‏.‏

فقالوا‏:‏ لا بد لنا من أحد من أرباب الدولة فوقع اختيارهم على ابي المعالي ابن الكيا الهراسي فدعوه إلى ذلك فأجابهم على أن يكون وزيرًا فبذلوا له ما طلب‏.‏

فلما استقرت القاعدة بينهم وعلمت أم أبي علي أحضرت عدة من الجواري وأعطتهن السكاكين وأمرتهن بقتل ولي العهد المستنجد بالله‏.‏

وكان له خصي صغير يرسله كل وقت يتعرف أخبار والده فرأى الجواري بأيديهن السكاكين ورأى بيد أبي علي وأمه سيفين فعاد إلى المستنجد فأخبره وأرسلت هي إلى المستنجد تقول له إن والده قد حضره الموت ليحضر ويشاهده فاستدعى أستاذ الدار عضد الدين وأخذه معه وجماعة من الفراشين ودخل الدار وقد لبس الدرع وأخذ بيده السيف فلما دخل ثارت به الجواري فضرب واحدة منهن فجرحها وكذلك أخرى فصاح ودخل أستاذ الدار ومعه الفراشون فهرب الجواري وأخذ أخاه أبا علي وأمه فسجنهما وأخذ الجواري فقتل منهن وغرق منهن ودفع الله عنه‏.‏

فلما توفي المقتفي لأمر الله جلس للبيعة فبايعه أهله وأقاربه وأولهم عمه أبو طالب ثم أخوه أبو جعفر بن المقتفي وكان أكبر من المستنجد ثم بايعه الوزير بن هبيرة وقاضي القضاة وأرباب الدولة والعلماء وخطب له يوم الجمعة ونثرت الدراهم والدنانير‏.‏

حكى عنه الوزير عون الدين بن هبيرة أنه قال‏:‏ رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنام منذ خمس عشرة سنة وقال لي‏:‏ يبقى أبوك في الخلافة خمس عشرة سنة فكان كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

قال‏:‏ ثم رأيته قبل موت أبي المقتفي بأربعة أشهر فدخل بي في باب كبير ثم ارتقى إلى رأس جبل وصلى بي ركعتين ثم ألبسني قميصًا ثم قال لي‏:‏ قل اللهم اهدني فيمن هديت وذكر دعاء القنوت‏.‏

ولما ولي الخلافة أقر ابن هبيرة على وزارته وأصحاب الولايات على ولاياتهم وأزال المكوس والضرائب وقبض على القاضي ابن الرخم وقال‏:‏ وكان بئس الحاكم وأخذ منه مالًا كثيرًا وأخذت كتبه فأحرق منها في الرحبة ما كان من علوم الفلاسفة فكان منها كتاب الشفاء لابن سينا وكتاب أخوان الصفا وما شاكلهما وقدم عضد الدين بن رئيس الرؤساء وكان أستاذ الدار يمكنه وتقدم إلى الوزير أن يقوم له وعزل قاضي القضاة أبا الحسن علي بن أحمد الدامغاني ورتب مكانه أبا جعفر عبد الواحد الثقفي وخلع عليه‏.‏

  ذكر الحرب بين عسكر خوارزم والأتراك البرزية

في هذه السنة في ربيع الأول سار طائفة من عسكر خوارزم إلى أجحه وهجموا على يغمر خان بن أودك ومن معه من الأتراك البرزية فأوقعوا بهم وأكثروا القتل فانهزم يغمرخان وقصد السلطان محمد بن محمد الخان والأتراك الغزية الذين معه وتوسل إليهم بالقرابة وظن يغمرخان أن أختيار الدين إيثاق هو الذي هيج الخوارزمية عليه فطلب من الغز إنجاده‏.‏

  ذكر أحوال المؤيد بخراسان هذه السنة

قد ذكرنا سنة ثلاث وخمسين عود المؤيد أي أبه إلى نيسابور وتمكنه منها وأن ذلك كان سنة أربع وخمسين فلما دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة ورأى المؤيد تحكمه في نيسابور وتمكنه في دولته وكثرة جنده وعسكره أحسن السيرة في الرعية ولا سيما أهل نيسابور فإنه جبرهم وبالغ في الإحسان إليهم وشرع في إصلاح أعمالها وولاياتها فسير طائفة من عسكره إى ناحية اسقيل وكان بها جمع قد تمردوا أكثروا العيث والفساد في البلاد وطال تماديهم في طغيانهم فأرسل إليهم المؤيد يدعوهم إلى ترك الشر والفساد ومعاودة الطاعة والصلاح فلم يقبلوا ولم يرجعوا عما هم عليه فسير إليهم سرية كثيرة فقاتلهم وأذاقهم عاقبة ما صنعوا فأكثروا القتل فيهم وخربوا حصنهم‏.‏

وسار المؤيد من نيسابور إلى بيهق فوصلها رابع عشر ربيع الأخر من السنة وقصد منها حصن خسروجرد وهو حصن منيع بناه كيخسرو الملك قبل فراغه من قتل افراسياب وفيه رجال شجعان فامتنعوا على المؤيد فحصرهم ونصب عليهم الجانيق وجد في القتال فصبر أهل الحصن حتى نفذ صبرهم ثم ملك المؤيد القلعة وأخرج كل من فيها ورتب فيها من يحفظها وعاد منها إلى نيسابور في الخامس والعشرين من جمادى الأولى من السنة‏.‏

ثم سار إلى هراة فلم يبلغ منها غرضًا فعاد إلى نيسابور وقصد مدينة كندر وهي من أعمال طريثيث وقد تغلب عليها رجل اسمه أحمد كان خربندة واجتمع معه جماعة من الرنود وقطاع الطريق والمفسدين فخربوا الكثير من البلاد وقتلوا كثيرًا من الخلق وغنموا من الأموال ما لا يحصى‏.‏

وعظمت المصيبة بهم على خراسان وزاد البلاء فقصدهم المؤيد فتحصنوا بالحصن الذي لهم فقوتلوا أشد قتال ونصب عليهم العرادات والمنجنيقات فأذعن هذا الخربندة أحمد إلى طاعة المؤيد والانخراط في سلك أصحابه وأشياعه فقبله أحسن قبول وأحسن إليه وأنعم عليه‏.‏

ثم إنه عصى المؤيد وتحصن بحصنه فأخذه منه المؤيد قهرًا وعنوة وقيده واحتاط عليه ثم قتله وأراح المسلمين منه ومن شره وفساده وقصد المؤيد في شهر رمضان ناحية بيهق عازمًا على قتالهم لخروجهم عن طاعته فلما قاربها أتاه زاهد من أهلها ودعاه إلى العفو عنهم والحلم عن ذنوبهم ووعظه وذكره فأجابه إلى ذلك ورحل عنهم فأرسل السلطان ركن الدين محمود بن محمد الخان إلى المؤيد بتقرير نيسابور وطوس وأعمالها عليه ورد الحكم فيها إليه فعاد إلى نيسابور رابع ذي القعدة من السنة ففرح الناس بما تقرر بينه وبين الملك محمود وبين الغز من إبقاء نيسابور عليه ليزول الخلف والفتن عن الناس‏.‏

  ذكر الحرب بين شاه مازندران ويغمرخان

لما قصد يغمرخان الغز وتوسل إليهم لينصروه على إيثاق لظنه انه هو الذي حسن للخوارزمية قصده أجابوه إلى ذلك وساروا معه على طريق نسا وأبيورد ووصلوا إلى الأمير إيثاق فلم يجد لنفسه بهم قوة فاستنجد شاه مازندران فجاءه ومعه من الأكراد والديلم والأتراك والتركمان الذين يسكنون نواحي ابسكون جمع كثير فاقتتلوا ودامت الحرب بينهم وانهزم الأتراك الغزية والبرزية من شاه مازندران خمس مرات ويعودون‏.‏

وكان على ميمنة الأمير مازندران الأمير إيثاق فحملت الأتراك الغزية عليه لما أيسوا من الظفر بقلب شاه مازندران فانهزم إيثاق وتبعه باقي العسكر ووصل شاه مازندران إلى سارية وقتل من عسكره أكثرهم‏.‏

وأما إيثاق فإنه قصد في هربه خوارزم وأقام بها وسار الغز من المعركة إلى دهستان وكان الحرب قريبًا منها فنقبوا سورها وأوقعوا بأهلها ونهبوهم أوائل سنة ست وخمسين وخمسمائة بعد أن خربوا جرجان وفرقوا أهلها وعادوا إلى خراسان‏.‏

 ذكر وفاة خسرشاه صاحب غزنة وملك ابنه بعده

في هذه السنة في رجب توفي السلطان خسروشاه بن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن مسعود بن محمود سبكتكين صاحب غزنة وكان عادلًا حسن السيرة في رعيته محبًا للخير وأهله مقربًا للعلماء محسنًا إليهم راجعًا إلى قولهم وكان ملكه تسع سنين‏.‏

وملك بعده ابنه ملكشاه فلما ملك نزل علاء الدين الحسين ملك الغور إلى غزنة فحصرها وكان الشتاء شديدًا والثلج كثيرًا قلم يمكنه المقام عليها فعاد إلى بلاده في صفر سنة ست وخمسين‏.‏

  ذكر الحرب بين إيثاق وبغراتكين

في هذه السنة منتصف شعبان كان بين الأمير إيثاق والأمير بغراتكين برغش الجركاني حرب وكان إيثاق قد سار إلى بغراتكين في آخر أعمال جوين فنهبه واخذ أمواله وكل ما له وكان ذا نعمة عظيمة وأموال جسيمة فانهزم بغراتكين عنها وخلاها فافتتحها إيثاق واستغنى بها وقويت نفسه بسببها وكثرت جموعه وقصده الناس‏.‏

وأما بغراتكين فإنه راسل المؤيد صاحب نيسابور وصار في جملته ومعدودًا من أصحابه فتلقاه المؤيد بالقبول‏.‏

  ذكر وفاة ملكشاه بن محمود

في هذه السنة توفي ملكشاه ابن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بأصفهان مسمومًا وكان سبب ذلك انه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت عليه أولًا وإلا قصدهم فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خصيًا كان خصيصًا به يقال له أغلبك الكوهراييني فمضى إلى بلاد العجم واشترى جارية من قاضي همذان بألف دينار وباعها من ملكشاه وكان قد وضعها على سمه ووعدها أمورًا عظيمة ففعلت ذلك وسمته في لحم مشوي فأصبح ميتًا وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرفهما انه مسموم فعرفوا أن ذلك من فعل الجارية فأخذت وضربت وأقرت وهرب أغلبك ووصل إلى بغداد ووفى له الوزير بجميع ما استقر الحال عليه‏.‏

ولما مات أخرج أهل أصفهان أصحابه من عندهم وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة حج أسد الدين شيركوه بن شاذي مقدم جيوش نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام وشيركوه هذا هو الذي ملك الديار المصرية وسير ذكره إن شاء اله تعالى‏.‏

وفيها أرسل زين الدين علي نائب قطب الدين صاحب الموصل رسولًا إلى المستنجد يعتذر مما جناه من مساعدة محمد شاه في حصار بغداد ويطلب أن يؤذن له في الحج فأرسل إليه يوسف الدمشقي مدرس النظامية وسليمان بن قتلمش يطيبان قلبه عن الخليفة ويعرفانه الإذن في الحج فحج ودخل إلى الخليفة فأكرمه وخلع عليه‏.‏

وفيها توفي قايماز الأرجواني أمير الحاج سقط عن الفرس وهو يلعب بالأكرة فسال مخه من منخريه وأذنيه فمات‏.‏

وفيها في ربيع الأول توفي محمد بن يحيى بن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي من أهل زبيد وهي مدينة مشهورة باليمن وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان نحويًا واعظًا وصحبه الوزير ابن هبيرة مدة وكان موته ببغداد‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة

في هذه السنة في ربيع الأول خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان والغلمان يطرقون له وأرادوا أن يردوا باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة فمنعهم الفقهاء وضربوهم بالآجر فشهر أصحاب الوزير السيوف وأرادوا ضربهم فمنعهم الوزير ومضى إلى الديوان فكتب الفقهاء مطالعة يشكون أصحاب الوزير فأمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار فمضى أستاذ الدار وعاقبهم هناك واختفى مدرسهم الشيخ أبو طالب ثم إن الوزير أعطى كل فقير دينارًا واستحل منهم وأعادهم إلى المدرسة وظهر مدرسهم‏.‏

  ذكر قتل ترشك في هذه الأيام

قصد جمع من التركمان إلى البندنيجين فأمر الخليفة بتجهيز عسكر إليهم وأن يكون مقدمهم الأمير ترشك وكان في أقطاعه بلد اللحف فأرسل إلى الخليفة يستدعيه فامتنع من المجيء إلى بغداد وقال‏:‏ يحضر العسكر فأنا أقاتل بهم وكان عازمًا على الغدر فجهز العسكر وساروا إليه وفيهم جماعة من الأمراء فلما اجتمعوا بترشك قتلوه وأرسلوا رأسه إلى بغداد وكان قتل مملوكًا للخليفة فدعا أولياء القتيل وقيل لهم‏:‏ إن أمير المؤمنين قد اقتص لأبيكم ممن قتله‏.‏

في هذه السنة في ربيع الآخر قتل السلطان سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملكشاه وسبب ذلك أنه كان فيه تهور وخرق وبلغ به شرب الخمر حتى أنه شربها في رمضان نهارًا وكان يجمع المساخر ولا يلتفت إلى الأمراء فأهمل العسكر أمره وصاروا لا يحضرون بابه وكان قد رد جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم وهو من مشايخ الخدم السلجوقية يرجع إلى دين وعقل وحسن تدبير فكان الأمراء يشكون إليه وهو يسكنهم‏.‏

فاتفق أنه شرب يومًا بظاهر همذان في الكشك الأخضر فحضر عنده كردبازو فلامه على فعله فأمر سليمان شاه من عنده من المساخر فعبثوا بكردبازو حتى أن بعضهم كشف له عن سوءته فخرج مغضبًا فلما صحا سليمان أرسل له يعتذر فقبل عذره إلا أنه تجنب الحضور عنده فكتب سليمان إلى إينانج صاحب الري يطلب منه أن ينجده على كردبازو فوصل الرسول وإينانج مريض فأعاد الجواب يقول‏:‏ إذا أفقت من مرضي حضرت إليك بعسكري فبلغ الخبر كردبازو فازداد استيحاشًا فأرسل إليه سليمان يومًا يطلبه فقال‏:‏ إذا جاء إينانج حضرت وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته وكانوا كارهين لسليمان فحلفوا له فأول ما عمل أن قتل المساخرة الذين لسليمان وقال‏:‏ إنما أفعل ذلك صيانة لملكك ثم اصطلحا وعمل كردبازو دعوة عظيمة حضرها السلطان والأمراء فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبض عليه كردبازو وعلى وزيره ابن القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي وعلى أصحابه في شوال سنة خمس وخمسين وخمسمائة فقتل وزيره وخواصه وحبس سليمان شاه في قلعة ثم أرسل إليه من خنقه وقيل بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان وفيها قتل وقيل بل سقي سمًا فمات والله اعلم‏.‏

وأرسل إلى إيلدكز صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان يستدعيه إليه ليخطب للملك أرسلان شاه الذي معه وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري فسار ينهب البلاد إلى أن وصل إلى همذان فتحصن كردبازو فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافًا فقال‏:‏ أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز‏.‏

وسار إيلدكو في عساكره جميعًا يزيد على عشرين ألف فارس ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه فوصل إلى همذان فلقيهم كردبازو وأنزله دار المملكة وخطب لأرسلان شاه بالسلطنة بتلك البلاد وكان إيلدكز قد تزوج بأم أرسلان شاه وهي أم البهلوان بن إيلدكز وكان إيلدكز أتابكه والبهلوان حاجبه وهو أخوه لأمه وكان إيلدكز هذا أحد مماليك السلطان مسعود واشتراه في أول أمره فلما ملك أقطعه أران وبعض أذربيجان واتفق الحروب والاختلاف فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية وعظم شأنه وقوي أمره وتزوج بأم الملك أرسلان شاه فولدت له أولادًا منهم البهلوان محمد وقزل أرسلان وقد ذكرنا سبب انتقال أرسلان شاه إليهن وبقي عنده إلى الآن فلما خطب له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضًا وأن تعاد القواعد إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فأهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة وأما إيناننج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونقلت إليه بهمذان‏.‏