الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
.تفسير الآية رقم (13): {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}{ذلكم} مبتدأ. و{الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} أخبار مترادفة. أو {الله رَبُّكُمُ} خبران. وله الملك: جملة مبتدأة واقعة في قران قوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله صفة لاسم الإشارة. أو عطف بيان. وربكم خبراً. لولا أن المعنى يأباه: والقطمير: لفافة النواة، وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها..تفسير الآية رقم (14): {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}إن تدعوا الأوثان {لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ} لأنهم جماد {وَلَوْ سَمِعُواْ} على سبيل الفرض والتمثيل ل {مَا استجابوا لَكُمْ} لأنهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية، ويتبرؤون منها. وقيل: ما نفعوكم {يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي: باشراككم وعبادتكم إياهم يقولون كنتم إيانا تعبدون {وَلاَ يُنَبِئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به. ويريد: أن الخبير بالأمر وحده، هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به. والمعنى: أنّ هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق، لأني خبير بما أخبرت به. وقرئ: {يدعون}، بالياء والتاء..تفسير الآيات (15- 17): {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)}فإن قلت: لم عرف الفقراء؟ قلت: قصد بذلك أن يريهم أنهم لشدة افتقارهم إليه هم جنس الفقراء، وإن كانت الخلائق كلهم مفتقرين إليه من الناس وغيرهم، لأن الفقر مما يتبع الضعف، وكلما كان الفقير أضعف كان أفقر، وقد شهد الله سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] وقال سبحانه وتعالى: {الله الذى خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} [الروم: 54] ولو نكر لكان المعنى أنتم بعض الفقراء.فإن قلت: قد قوبل الفقراء بالغنى، فما فائدة الحميد؟ قلت: لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم- وليس كل غني نافعاً بغناه إلاّ إذا كان الغني جواداً منعماً فإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق- بإنعامه عليهم أن يحمدوه الحميد على ألسنه مؤمنيهم {بِعَزِيزٍ} بممتنع، وهذا غضب عليهم لاتخاذهم له أنداداً، وكفرهم بآياته ومعاصيهم، كما قال: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] وعن ابن عباس رضي الله عنهما: يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً..تفسير الآية رقم (18): {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}الوزر والوقر: أخوان؛ ووزر الشيء إذا حمله. والوازرة: صفة للنفس، والمعنى: أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلاّ وزرها الذي اقترفته: لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا: الولي بالولي، والجار بالجار.فإن قلت: هلا قيل: ولا تزر نفس وزر أخرى؟ ولم قيل وازرة؟ قلت: لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلاّ حاملة وزرها، لا وزر غيرها.فإن قلت: كيف توفق بين هذا وبين قوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؟ قلت: تلك الآية في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم. ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم: {اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم} [العنكبوت: 12] بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَيْء} [العنكبوت: 12].فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} وبين معنى: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْء}؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار وبهظتها، لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ.فإن قلت: إلام أسند كان في {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى}؟ قلت: إلى المدعو المفهوم من قوله: {وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ}.فإن قلت: فلم ترك ذكر المدعو؟ قلت: ليعمّ، ويشمل كل مدعوّ.فإن قلت: كيف استقام إضمار العام؟ ولا يصحّ أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؟ قلت: هو من العموم الكائن على طريق البدل.فإن قلت: ما تقول فيمن قرأ: {ولو كان ذو قربى} على كان التامّة، كقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 290]؟ قلت: نظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة؛ لأن المعنى على أن المثقلة إن دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء وإن كان مدعوّها ذا قربى، وهو معنى صحيح ملتئم، ولو قلت: ولو وجد ذو قربى، لتفكك وخرج من اتساقه والتئامه، على أنّ هاهنا ما ساغ أن يستتر له ضمير في الفعل بخلاف ما أوردته {بالغيب} حال من الفاعل أو المفعول، أي: يخشون ربهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه غائباً عنهم. وقيل: بالغيب في السر، وهذه صفة الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه، فكانت عادتهم المستمرّة أن يخشوا الله، وهم الذين أقاموا الصلاة وتركوها مناراً منصوباً وعلماً مرفوعاً، يعني: إنما تقدر على إنذار هؤلاء وتحذيرهم من قومك، وعلى تحصيل منفعة الإنذار فيهم دون متمرّديهم وأهل عنادهم {وَمَن تزكى} ومن تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي. وقرئ: {من أزكى فإنما يزكي}، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة، لأنهما من جملة التزكي {وإلى الله المصير} وعد للمتزكين بالثواب.فإن قلت: كيف اتصل قوله: {إِنَّمَا تُنذِرُ} بما قبله؟ قلت: لما غضب عليهم في قوله: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها، ثم قال: إنما تنذر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل: {إِنَّمَا تُنذِرُ} أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم..تفسير الآيات (19- 23): {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)}{الأعمى والبصير} مثل للكافر والمؤمن، كما ضرب البحرين مثلاً لهما أو للصنم والله عزّ وجلّ، والظلمات والنور والظل والحرور: مثلان للحق والباطل، وما يؤدّيان إليه من الثواب والعقاب. والأحياء والأموات: مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه، وأصروا على الكفر والحرور: السموم؛ إلاّ أنّ السموم يكون بالنهار، والحرور بالليل والنهار. وقيل: بالليل خاصة.فإن قلت: لا المقرونة بواو العطف ما هي؟ قلت: إذا وقعت الواو في النفي قرنت بها لتأكيد معنى النفي.فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات؟ قلت: بعضها ضمت شفعاً إلى شفع، وبعضها وتراً إلى وتر {إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء} يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه، فيهدي الذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، ويخذل من علم أنها لا تنفع فيه. وأمّا أنت فخفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين. ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر، وذلك ما لا سبيل إليه، ثم قال: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} أي ما عليك إلاّ أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المصرين فلا عليك. ويحتمل أنّ الله يسمع من يشاء وأنه قادر على أن يهدي المطبوع على قلوبهم على وجه القسر والإلجاء، وغيرهم على وجه الهداية والتوفيق، وأما أنت فلا حيلة لك في المطبوع على قلوبهم الذين هم بمنزلة الموتى..تفسير الآية رقم (24): {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)}{بالحق} حال من أحد الضميرين، يعني: محقاً أو محقين، أو صفة للمصدر، أي: إرسالاً مصحوباً بالحق. أو صلة لبشير ونذير على: بشيراً بالوعد الحق، ونذيراً بالوعيد الحق {وإن من أُمة إلا خلا فيها نذير}. والأمّة الجماعة الكثيرة. قال الله تعالى: {وجد عليه أمّة من الناس} [القصص: 23]، ويقال لأهل كل عصر: أمّة، وفي حدود المتكلمين: الأمّة هم المصدقون بالرسول صلى الله عليه وسلم دون المبعوث إليهم، وهم الذين يعتبر إجماعهم، والمراد ههنا: أهل العصر.فإن قلت: كم من أمّة في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ولم يخل فيها نذير؟ قلت: إذا كانت آثار النذارة باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس، وحين اندرست آثار نذارة عيسى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم.فإن قلت: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ قلت: لما كانت النذارة مشفوعة بالبشارة لا محالة، دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما قد اشتملت الآية على ذكرهما..تفسير الآيات (25- 26): {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)}{بالبينات} بالشواهد على صحة النبوّة وهي المعجزات {وبالزبر} وبالصحف {وبالكتاب المنير} نحو التوراة والإنجيل والزبور. لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً، وإن كان بعضها في جميعهم: وهي البينات، وبعضها في بعضهم: وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم..تفسير الآيات (27- 28): {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}{أَلْوَانُهَا} أجناسها من الرمّان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها. والجدد: الخطط والطرائق. قال لبيد:ويقال: جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، وقد يكون للظبي جدتان مسكيتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه {وَغَرَابِيبُ} معطوف على بيض أو على جدد، كأنه قيل: ومن الجبال مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب.وعن عكرمة رضي الله عنه: هي الجبال الطوال السود.فإن قلت: الغربيب تأكيد للأسود. يقال: أسود غربيب، وأسود حلكوك: وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه. ومنه الغراب: ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك: أصفر فاقع، وأبيض يقق وما أشبه ذلك.قلت: وجهه أن يضمر المؤكد قبله ويكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر، كقول النابغة: وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدلّ على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً، ولا بدّ من تقدير حذف المضاف في قوله تعالى: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ} بمعنى: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود، حتى يؤول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال: ثمرات مختلفاً ألوانها {وَمِنَ الناس والدواب والانعام مُخْتَلِفٌ ألوانه} يعني: ومنهم بعض مختلف ألوانه. وقرئ: {ألوانها}، وقرأ الزهري: {جدد}، بالضم: جمع جديدة، وهي الجدّة. يقال: جديدة وجدد وجدائد، كسفينة وسفن وسفائن. وقد فسر بها قول أبي ذؤيب يصف حمار وحش: وروي عنه: جدد، بفتحتين، وهو الطريق الواضح المسفر وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها من بعض. وقرئ: {والدواب} مخففاً ونظير هذا التخفيف قراءة من قرأ: {ولا الضألين} لأنّ كل واحد منهما فرار من التقاء الساكنين، فحرك ذاك أوّلهما، وحذف هذا أخرهما. وقوله: {كذلك} أي كاختلاف الثمرات والجبال. والمراد: العلماء به الذين علموه بصفاته وعدله وتوحيده، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه حق قدره، وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علماً ازداد منه خوفاً، ومن كان علمه به أقل كان آمن. وفي الحديث: «أَعلمُكُم بِاللَّهِ أَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً» وعن مسروق: كفى بالمرء علماً أن يخشى، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه. وقال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه.فإن قلت: هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام أو أخر؟ قلت: لابد من ذلك، فإنك إذا قدمت اسم الله وأخرت العلماء كان المعنى: أنّ الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس انقلب المعنى إلى أنهم لا يخشون إلا الله، كقوله تعالى:{وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله} [الأحزاب: 39] وهما معنيان مختلفان.فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال: {أَلَمْ تَرَ} بمعنى ألم تعلم أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك: ممن عرفه حق معرفته وعلمه كنه علمه.وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَرجُو أَنْ أكونَ أتقاكُم للَّهِ وأَعْلَمَكُمْ بِهِ» فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} وهو عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجلّ المهيب المخشي من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده {إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ} تعليل لوجوب الخشية، لدلالته على عقوبة العصاة، وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب: حقه أن يخشى.
|