الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
.تفسير الآية رقم (11): {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}{فَاطِرُ السماوات} قرئ بالرفع والجر، فالرفع على أنه أحد أخبار ذلكم. أو خبر مبتدأ محذوف، والجرّ على: فحكمه إلى الله فاطر السموات، و{ذلكم} إلى {أُنِيبُ} اعتراض بين الصفة والموصوف {جَعَلَ لَكُم} خلق لكم {مِّنْ أَنفُسِكُمْ} من جنسكم من الناس {أزواجا وَمِنَ الأنعام أزواجا} أي: وخلق من الأنعام أزواجاً. ومعناه: وخلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً {يَذْرَؤُكُمْ} يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم. والذر، والذرو، والذرء: أخوات {فِيهِ} في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل. والضمير في {يَذْرَؤُكُمْ} يرجع إلى المخاطبين والأنعام، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل، وهي من الأحكام ذات العلتين، فإن قلت: ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير؟ وهلا قيل: يذرؤكم به؟ قلت: جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير؛ ألا تراك تقول: للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة} [البقرة: 179] قالوا: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عن ذاته، قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية، لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه، فقد نفوه عنه. ونظيره قولك للعربي: العرب لا تخفر الذمم، كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر. ومنه قولهم: قد أيفعت لداته وبلغت أترابه، يريدون: إيفاعه وبلوغه. وفي حديث رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لداته والقصد إلى طهارته وطيبه، فإذا علم أنه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كالله شيء، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} إلا ما تعطيه الكناية من فائدتها، وكأنهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد: وهو نفي المماثلة عن ذاته، ونحوه قوله عز وجل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] فإن معناه: بل هو جواد من غير تصوّر يد ولا بسط لها: لأنها وقعت عبارة عن الجود لا يقصدون شيئاً آخر، حتى إنهم استعملوها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل ومن لا مثل له، ولك أن تزعم أنّ كلمة التشبيه كرّرت للتأكيد، كما كرّرها من قال:ومن قال: .تفسير الآية رقم (12): {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}وقرئ {ويقدّر} {إِنَّهُ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ} فإذا علم أنّ الغني خير للعبد أغناه، وإلا أفقره..تفسير الآية رقم (13): {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)}{شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين} دين نوح ومحمد ومن بينهما من الأنبياء، ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه، وبيوم الجزاء، وسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلماً، ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسب أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة. قال الله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48] ومحل {أَنْ أَقِيمُواْ} إما نصب بدل من مفعول شرع والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف، كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] {كَبُرَ عَلَى المشركين} عظم عليهم وشق عليهم {مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} من إقامة دين الله والتوحيد {يَجْتَبِى إِلَيْهِ} يجتلب إليه ويجمع. والضمير للدين بالتوفيق والتسديد {مَن يَشَآءُ} من ينفع فيهم توفيقه ويجرى عليهم لطفاً..تفسير الآية رقم (14): {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}{وَمَا تَفَرَّقُواْ} يعني أهل الكتاب بعد أنبيائهم {إِلاَّ مِن بَعْدِ} أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد، وأمر متوعد عليه على ألسنة الأنبياء {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} وهي عدة التأخير إلى يوم القيامة {لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ} حين افترقوا لعظم ما اقترفوا {وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ} وهم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم {لَفِى شَكٍّ} من كتابهم لا يؤمنون به حق الإيمان. وقيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين بعد أن أهلك الله أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلما مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم، وذلك حين بعث الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين وجاءهم العلم. وإنما اختلفوا للبغي بينهم. وقيل: وما تفرّق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} [البينة: 4] {وإنّ الذين أورثوا الكتاب من بعدهم} هم المشركون: أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل. وقرئ {ورّثوا} وورثوا..تفسير الآية رقم (15): {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}{فَلِذَلِكَ} فلأجل التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً {فادع} إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية القديمة {واستقم} عليها وعلى الدعوة إليها كما أمرك الله {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} المختلفة الباطنة بما أنزل الله من كتاب، أيّ كتاب صحّ أنّ الله أنزله، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة؛ لأنّ المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، كقوله تعالى: {وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} [النساء: 151] {لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إليّ {لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي لا خصومة: لأنّ الحق قد ظهر وصرتم محجوبين به فلا حاجة إلى المحاجة. ومعناه: لا إيراد حجة بيننا؛ لأنّ المتحاجين: يورد هذا حجته وهذا حجته {الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا} يوم القيامة فيفصل بيننا وينتقم لنا منكم؛ وهذه محاجزة ومتاركة بعد ظهور الحق وقيام الحجة والإلزام.فإن قلت: كيف حوجزوا وقد فعل بهم بعد ذلك ما فعل من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلت: المراد محاجزتهم في مواقف المقاولة لا المقاتلة..تفسير الآية رقم (16): {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)}{يُحَاجُّونَ فِي الله} يخاصمون في دينه {مِن بَعْدِ} ما استجاب له الناس ودخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهلية، كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا} [البقرة: 109] كان اليهود والنصارى يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم وأولى بالحق. وقيل: من بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر وأظهر دين الإسلام {دَاحِضَةٌ} باطلة زالة..تفسير الآيات (17- 18): {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)}{أَنزَلَ الكتاب} أي جنس الكتاب {والميزان} والعدل والتسوية. ومعنى إنزال العدل: أنه أنزله في كتبه المنزلة. وقيل: الذي يوزن به. بالحق: ملتبساً بالحق، مقترناً به، بعيداً من الباطل أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة. أو بالواجب من التحليل والتحريم وغير ذلك {الساعة} في تأويل البعث، فلذلك قيل: {قَرِيبٌ} أو لعل مجيء الساعة قريب.فإن قلت: كيف يوفق ذكر اقتراب الساعة مع إنزال الكتاب والميزان؟ قلت: لأنّ الساعة يوم الحساب ووضع الموازين للقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم، ويوفي لمن أوفى ويطفف لمن طفف. المماراة: الملاجة لأنّ كل واحد منهما يمرى ما عند صاحبه {لَفِى ضلال بَعِيدٍ} من الحق: لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة الله، ولدلالة الكتاب المعجز على أنها آتية لا ريب فيها، ولشهادة العقول على أنه لابد من دار الجزاء..تفسير الآية رقم (19): {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}{لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} برّ بليغ البرّ بهم، قد توصل برّه إلى جميعهم، وتوصل من كل واحد منهم إلى حيث لا يبلغه، وهم أحد من كلياته وجزئياته.فإن قلت: فما معنى قوله: {يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ} بعد توصل برّه إلى جميعهم؟ قلت: كلهم مبرورون لا يخلو أحد من برّه، إلا أنّ البرّ أصناف، وله أوصاف. والقسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا الحكمة والتدبير، فيطير لبعض العباد صنف من البر لم يطر مثله لآخر، ويصيب هذا حظ له وصف ليس ذلك الوصف لحظ صاحبه، فمن قسم له منهم ما لا يقسم للآخر فقد رزقه، وهو الذي أراد بقوله: {يَرْزُقُ مَن يَشَاء} [البقرة: 212] كما يرزق أحد الأخوين ولداً دون الآخر، على أنه أصابه بنعمة أخرى لم يرزقها صاحب الولد {وَهُوَ القوى} الباهر القدرة، الغالب على كل شيء {العزيز} المنيع الذي لا يغلب..تفسير الآية رقم (20): {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}سمى ما يعمله العامل مما يبغى به الفائدة والزكاء حرثاً على المجاز. وفرق بين عملي العاملين: بأن من عمل للآخرة وفق في عمله وضوعفت حسناته، ومن كان عمله للدنيا أعطى شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه. وهو رزقه الذي قسم له وفرغ منه وماله نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة وله في الدنيا نصيب، على أن رزقه المقسوم له واصل إليه لا محالة، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من زكاء عمله وفوزه في المآب..تفسير الآية رقم (21): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)}معنى الهمزة في {أَمْ} التقرير والتقريع. وشركاؤهم: شياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا؛ لأنهم لا يعلمون غيرها وهو الدين الذي شرعت لهم الشياطين، وتعالى الله عن الإذن فيه والأمر به وقيل شركاؤهم: أوثانهم. وإنما أضيفت إليهم لأنهم متخذوها شركاء لله، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة. وتارة إلى الله؛ ولما كانت سبباً لضلالتهم وافتتانهم: جعلت شارعة لدين الكفر، كما قال إبراهيم صلوات الله عليه: {أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} [ابراهيم: 36] {وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل} أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء. أو: ولولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي بين الكافرين والمؤمنين. أو بين المشركين وشركائهم.وقرأ مسلم بن جندب {وأنّ الظالمين} بالفتح عطفاً له على كلمة الفصل، يعني: ولولا كلمة الفصل وتقدير تعذيب الظالمين في الآخرة. لقضي بينهم في الدنيا..تفسير الآيات (22- 23): {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}{تَرَى الظالمين} في الآخرة {مُشْفِقِينَ} خائفين خوفاً شديداً أرق قلوبهم {مِمَّا كَسَبُواْ} من السيئات {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} يريد: ووباله واقع بهم وواصل إليهم لابد لهم منه، أشفقوا أو لم يشفقوا. كأن روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها {عِندَ رَبِّهِمْ} منصوب بالظرف لا بيشاؤون قرئ {يبشر} من بشره. ويبشر من أبشره. ويبشر، من بشره. والأصل: ذلك الثواب الذي يبشر الله به عباده، فحذف الجار، كقوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ثم حذف الراجع إلى الموصول، كقوله تعالى: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده. روي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أترون محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ فنزلت الآية: {إِلاَّ المودة فِي القربى} يجوز أن يكون استثناء متصلاً، أي: لا أسألكم أجراً إلا هذا، وهو أن تودوا أهل قرابتي؛ ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة؛ لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعاً، أي: لا أسألكم أجراً قط ولكنني أسألكم أن تودوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم.فإن قلت: هلا قيل: إلا مودّة القربى: أو إلا المودة للقربى. وما معنى قوله: {إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23]؟ قلت: جلعوا مكاناً للمودة ومقراً لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة. ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد: أحبهم وهم مكان حبي ومحله، وليست (في) بصلة للمودَّة، كاللام إذا قلت: إلا المودّة للقربى. إنما هي متعلقة بمحذوف تعلق الظرف به في قولك: المال في الكيس. وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة. والمراد في أهل القربى. وروى أنها لما نزلت قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وابناهما» ويدل عليه ما روى عن علي رضي الله عنه: شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي. فقال: {أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا، وذريتنا خلف أزواجنا} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي. ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة» وروي: أنّ الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا، كأنهم افتخروا، فقال عباس أو ابن عباس رضي الله عنهما: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم في مجالسهم فقال: «يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي»؟ قالوا: بلى يا رسول الله.قال: «ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي»؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «أفلا تجيبونني»؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: «ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك، أو لم يكذبوك فصدقناك، أو لم يخذلوك فنصرناك» قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ولرسوله. فنزلت الآية. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة، ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة» وقيل: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قربى، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه نزلت. والمعنى: إلا أن تودوني في القربى، أي: في حق القربى أو من أجلها، كما تقول: الحب في الله والبغض في الله، بمعنى: في حقه ومن أجله، يعني: أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا عليّ. وقيل: أتت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا: يا رسول الله، قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت وردّه.وقيل {القربى}: التقرب إلى الله تعالى، أي: إلا أن تحبوا الله ورسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح. وقرئ: {إلا مودّة في القربى} {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} عن السدّي أنها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومودّته فيهم. والظاهر: العموم في أي حسنة كانت؛ إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى: دل ذلك على أنها تناولت المودّة تناولاً أوّلياً، كأنّ سائر الحسنات لها توابع. وقرئ {يزد} أي: يزد الله. وزيادة حسنها من جهة الله مضاعفتها، كقوله تعالى: {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وقرئ {حسنى} وهي مصدر كالبشرى، الشكور في صفة الله: مجاز للاعتداد بالطاعة، وتوفيه ثوابها، والتفضل على المثاب.
|