الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل
.تفسير الآية رقم (54): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}وقرئ: {من يرتد} ومن {يرتدد} وهو في الإمام بدالين، وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل: بل كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:بنو مدلج، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي، وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي بَيَّتَهُ فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد. وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول.وبنو حنيفة، قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أمّا بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب عليه الصلاة والسلام: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. أمّا بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة. وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشرّ الناس في الإسلام، أراد في جاهليتي وإسلامي. وبنو أسد: قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه. وسبع في عهد أبي بكر رضي الله عنه: فزاره قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل.وبنو يربوع، قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وفيها يقول أبو العلاء المعري في كتاب استغفر واستغفري:وكندة، قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم بن زيد، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه: غسان قوم جبلة ابن الأيهم نصرته اللطيمة وسيرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه {فَسَوْفَ يَأْتِى الله بِقَوْمٍ} قيل: لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري فقال: «قوم هذا» وقيل: هم ألفان من النخع، وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء الناس جاهدوا يوم القادسية. وقيل: هم الأنصار. وقيل: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فضرب يده على عاتق سلمان وقال: «هذا وذووه» ثم قال: «لو كان الإيمان معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس» {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته، وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم: وأما ما يعتقده أجهل الناس وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المتفعلة من الصوف، وما يدينون به من المحبة والعشق، والتغني على كراسيهم خربها الله، وفي مراقصهم عطلها الله، بأبيات الغزل المقولة في المردان الذين يسمونهم شهداء، وصعقاتهم التي أين عنها صعقة موسى عند دكّ الطور، فتعالى الله عنه علواً كبيراً، ومن كلماتهم: كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته، فإنّ الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات. ومنها: الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة، فإذا لم يكن ذلك لم تكن فيه حقيقة.فإن قلت: أين الراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن لمعنى الشرط؟ قلت: هو محذوف معناه: فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم، أو ما أشبه ذلك {أَذِلَّةٍ} جمع ذليل. وأما ذلول فجمعه ذلل. ومن زعم أنه من الذلّ الذي هو نقيض الصعوبة، فقد غبى عنه أن ذلولاً لا يجمع على أذلة.فإن قلت: هلا قيل أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما أن يضمن الذلّ معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع.والثاني: أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. ونحوه قوله عزّ وجلّ: {أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] وقرئ: أذلة وأعزة بالنصب على الحال {وَلاَ يخافون لَوْمَةَ لائِمٍ} يحتمل أن تكون الواو للحال، على أنهم يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود- لعنت- فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئاً مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم. وأمّا المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف، على أن من صفتهم المجاهدة في سبيل الله، وأنهم صلاب في دينهم، إذا شرعوا في أمر من أمور الدين إنكار منكر أو أمر بمعروف، مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم، يشقّ عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. واللومة: المرّة من اللوم، وفيها وفي التنكير مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام. و{ذلك} إشارة إلى ما وصف به القوم من المحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة {يُؤْتِيهُ} يوفق له {مَن يَشَآءُ} ممن يعلم أنّ له لطفاً {واسع} كثير الفواضل والألطاف {عَلِيمٌ} بمن هو من أهلها. .تفسير الآية رقم (55): {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)}عقب النهي عن موالاة من تجب معاداتهم ذكر من تجب موالاتهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين ءامَنُواْ} ومعنى (إنما) وجوب اختصاصهم بالموالاة.فإن قلت: قد ذكرت جماعة فهلا قيل: إنما أولياؤكم؟ قلت: أصل الكلام: إنما وليكم الله، فجعلت الولاية لله على طريق الأصالة، ثم نظم في سلك إثباتها له إثباتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على سبيل التبع، ولو قيل: إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين آمنوا، لم يكن في الكلام أصل وتبع وفي قراءة عبد الله: {إنما مولاكم}.فإن قلت: {الذين يُقِيمُونَ} ما محله؟ قلت: الرفع على البدل من الذين آمنوا، أو على: هم الذين يقيمون. أو النصب على المدح. وفيه تمييز للخلص من الذين آمنوا نفاقاً، أو واطأت قلوبهم ألسنتهم إلا أنهم مفرطون في العمل {وَهُمْ رَاكِعُونَ} الواو فيه للحال، أي يعملون ذلك في حال الركوع وهو الخشوع والإخبات والتواضع لله إذا صلوا وإذا زكوا. وقيل: هو حال من يؤتون الزكاة، بمعنى يؤتونها في حال ركوعهم في الصلاة، وأنها نزلت في عليٍّ كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه.كأنه كان مرجاً في خنصره، فلم يتكلف لخلعه كثير عما تفسد بمثله صلاته، فإن قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحداً، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخروه إلى الفراغ منها..تفسير الآية رقم (56): {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)}{فَإِنَّ حِزْبَ الله} من إقامة الظاهر مقام المضمر. ومعناه: فإنهم هم الغالبون، ولكنهم بذلك جعلوا أعلاماً لكونهم حزب الله. وأصل الحزب؟ القوم يجتمعون لأمر حزبهم. ويحتمل أن يريد بحزب الله: الرسول والمؤمنين. ويكون المعنى: ومن يتولهم فقد تولى حزب الله، واعتضد بمن لا يغالب..تفسير الآيات (57- 58): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)}روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث كانا قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يؤادّونهما، فنزلت. يعني أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً لا يصحّ أن يقابل باتخاذكم إياهم أولياء، بل يقابل ذلك بالبغضاء والشنآن والمنابذة. وفصل المستهزئين بأهل الكتاب والكفار- وإن كان أهل الكتاب من الكفار- إطلاقاً للكفار على المشركين خاصة. والدليل عليه قراءة عبد الله: {ومن الذين أشركوا}. وقرئ: {والكفار} بالنصب والجرّ. وتعضد قراءة الجرّ قراءة أُبيّ: {ومن الكفار} {واتقوا الله} في موالاة الكفار وغيرها {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} حقاً؛ لأن الإيمان حقاً يأبى موالاة أعداء الدين {اتخذوها} الضمير للصلاة أو للمناداة. قيل: كان رجلاً من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) قال: حرّق الكاذب، فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم، فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت، واحترق هو وأهله. وقيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده {لاَ يَعْقِلُونَ} لأنّ لعبهم وهزؤهم من أفعال السفهاء والجهلة، فكأنه لا عقل لهم..تفسير الآية رقم (59): {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}قرأ الحسن: {هل تنقمون} بفتح القاف. والفصيح كسرها. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلا الإيمان بالكتب المنزلة كلها {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسقون}.فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَنْ أَكْثَرَكُمْ فاسقون}؟ قلت: فيه وجوه: منها أن يعطف على أن آمنا، بمعنى: وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم وخروجكم عن الإيمان، كأنه قيل: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، أي واعتقاد أنكم فاسقون ومنها أن يعطف على المجرور، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم فاسقون. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أنّ أكثركم فاسقون. ويجوز أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف، كأنه قيل: وما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم واتباعكم الشهوات. ويدل عليه تفسير الحسن: بفسقكم نقمتم ذلك علينا..تفسير الآيات (60- 61): {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)}وروي: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: «أومن بالله وما أنزل إلينا إلى قوله: ونحن له مسلمون» فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام: ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً أشرّ من دينكم. فنزلت.وعن نعيم بن ميسرة: {وإنّ أكثركم}، بالكسر. ويحتمل أن ينتصب (وأن أكثركم) بفعل محذوف يدل عليه هل تنقمون، أي: ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع على الابتداء والخبر محذوف، أي و فسقكم ثابت معلوم عندكم، لأنكم علمتم أنا على الحق وأنكم على الباطل، إلا أن حب الرياسة وكسب الأموال لا يدعكم فتنصفوا {ذلك} إشارة إلى المنقوم، ولا بدّ من حذف مضاف قبله، أو قبل (من) تقديره: بشرّ من أهل ذلك، أو دين من لعنه الله. و{مَن لَّعَنَهُ الله} في محل الرفع على قولك: هو من لعنه الله، كقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم النار} [الحج: 72] أو في محل الجرّ على البدل من شرّ. وقرئ: {مثوبة}. {ومثوبة}. ومثالهما: مشورة، ومشورة.فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف جاءت في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله:ومنه {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21].فإن قلت: المعاقبون من الفريقين هم اليهود، فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهود- لعنوا- يزعمون أن المسلمين ضالون مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه الله شرّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم {وَعَبَدَ الطاغوت} عطف على صلة (من) كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. وفي قراءة أبيّ {وعبدوا الطاغوت}، على المعنى.وعن ابن مسعود: {ومن عبدوا}. وقرئ: {وعابد الطاغوت} عطفاً على القردة. {وعابدي}. {وعباد}. {وعبد}. {وعبد}. ومعناه: الغلوّ في العبودية، كقولهم، رجل حذر وفطن، للبليغ في الحذر والفطنة. قال: وعبد بوزن حطم. وعبيد. وعبد- بضمتين- جمع عبيد: وعبدة بوزن كفرة. وعبد، وأصله عبدة، فحذفت التاء للإضافة. أو هو كخدم في جمع خادم. وعبد وعباد. وأعبد، وعبد الطاغوت، على البناء للمفعول، وحذف الراجع، بمعنى: وعبد الطاغوت فيهم، أو بينهم، وعبد الطاغوت بمعنى صار الطاغوت معبوداً من دون الله، كقولك (أمر) إذا صار أميراً. وعبد الطاغوت، بالجر عطفاً على {مَن لَّعَنَهُ الله}.فإن قلت: كيف جاز أن يجعل الله منهم عباد الطاغوت؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أنه خذلهم حتى عبدوه.والثاني: أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به، كقوله تعالى:{وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19] وقيل: الطاغوت: العجل؛ لأنه معبود من دون الله، ولأن عبادتهم للعجل مما زينه لهم الشيطان، فكانت عبادتهم له عبادة للشيطان وهو الطاغوت.وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أطاعوا الكهنة، وكل من أطاع أحداً في معصية الله فقد عبده.وقرأ الحسن: {الطواغيت}. وقيل: وجعل منهم القردة أصحاب السبت، والخنازير كفار أهل مائدة عيسى. وقيل: كلا المسخين من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة، ومشايخهم مسخوا خنازير.وروي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون اليهود ويقولون: يا أخوة القردة والخنازير فينكسون رءوسهم {أولئك} الملعونون الممسوخون {شَرٌّ مَّكَاناً} جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله. وفيه مبالغة ليست في قولك: أولئك شرّ وأضلّ، لدخوله في باب الكناية التي هي أخت المجاز. نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً، فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا، لم يتعلق بهم شيء مما سمعوا به من تذكيرك بآيات الله ومواعظك. وقوله: (بالكفر) و(به) حالان، أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وتقديره: ملتبسين بالكفر. وكذلك قوله: (وقد دخلوا)؛ (وهم قد خرجوا) ولذلك دخلت (قد) تقريباً للماضي في الحال. ولمعنى آخر: وهو أن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله ما كتموه، فدخل حرف التوقع وهو متعلق بقوله: (قالوا آمنا) أي قالوا ذلك وهذه حالهم.
|