الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج المشهور بـ «شرح النووي على مسلم»
.باب مِنْ فَضَائِلِ الأَشْعَرِيِّينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالَ: وَاخْتَارَ بَعْضهمْ هَذِهِ الرِّوَايَة. قُلْت: وَالْأُولَى صَحِيحَة، أَوْ أَصَحّ، وَالْمُرَاد يَدْخُلُونَ مَنَازِلهمْ إِذَا خَرَجُوا لِشُغْلٍ ثُمَّ رَجَعُوا. وَفيه دَلِيل لِفَضِيلَةِ الْأَشْعَرِيِّينَ. وَفيه أَنَّ الْجَهْر بِالْقُرْآنِ فِي اللَّيْل فَضِيلَة إِذَا لَمْ يَكُنْ فيه إِيذَاء لِنَائِمٍ أَوْ لِمُصَلٍّ أَوْ غَيْرهمَا، وَلَا رِيَاء. وَاَللَّه أَعْلَم. وَالرُّفْقَة بِضَمِّ الرَّاء وَكَسْرهَا. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمِنْهُمْ حَكِيم إِذَا لَقِيَ الْخَيْل، أَوْ قَالَ الْعَدُوّ، قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَصْحَابِي يَأْمُرُونَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوهُمْ» أَيْ تَنْتَظِرُوهُمْ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {اُنْظُرُونَا نَقْتَبِس مِنْ نُوركُمْ} قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ شُيُوخنَا فِي الْمُرَاد بِحَكِيمٍ هُنَا، فَقَالَ أَبُو عَلِيّ الْجَيَّانِيّ: هُوَ اِسْم عَلَم لِرَجُلٍ، وَقَالَ أَبُو عَلِيّ الصَّدَفِيّ: هُوَ صِفَة مِنْ الْحِكْمَة. 4556- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْو إِلَى آخِره» مَعْنَى (أَرْمَلُوا) فَنِيَ طَعَامهمْ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَضِيلَة الْأَشْعَرِيِّينَ، وَفَضِيلَة الْإِيثَار وَالْمُوَاسَاة، وَفَضِيلَة خَلْط الْأَزْوَاد فِي السَّفَر، وَفَضِيلَة جَمْعهَا فِي شَيْء عِنْد قِلَّتهَا فِي الْحَضَر، ثُمَّ يَقْسِم، وَلَيْسَ الْمُرَاد بِهَذَا الْقِسْمَة الْمَعْرُوفَة فِي كُتُب الْفِقْه بِشُرُوطِهَا، وَمَنَعَهَا فِي الرِّبَوِيَّات، وَاشْتِرَاط الْمُوَاسَاة وَغَيْرهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَاد هُنَا إِبَاحَة بَعْضهمْ بَعْضًا وَمُوَاسَاتهمْ بِالْمَوْجُودِ. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» سَبَقَ تَفْسِيره فِي بَاب فَضَائِل جُلَيْبِيب. .باب مِنْ فَضَائِلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْله: حَدَّثَنَا أَبُو زُمَيْل قَالَ: حَدَّثَنِي اِبْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى أَبِي سُفْيَان، وَلَا يُقَاعِدُونَهُ، فَقَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا نَبِيّ اللَّه ثَلَاث أَعْطِنِيهِنَّ. قَالَ: نَعَمْ قَالَ: عِنْدِي أَحْسَن الْعَرَب وَأَجْمَله أُمّ حَبِيبَة بِنْت أَبِي سُفْيَان أُزَوِّجكهَا قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَمُعَاوِيَة تَجْعَلهُ كَاتِبًا بَيْن يَدَيْك قَالَ: نَعَمْ قَالَ: وَتُؤَمِّرنِي حَتَّى أُقَاتِل الْكُفَّار كَمَا كُنْت أُقَاتِل الْمُسْلِمِينَ قَالَ: نَعَمْ قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: وَلَوْلَا أَنَّهُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَاهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا قَالَ نَعَمْ» أَمَّا (أَبُو زُمَيْلٍ) فَبِضَمِّ الزَّاي وَفَتْح الْمِيم وَإِسْكَان الْيَاء، وَاسْمه سِمَاك بْن الْوَلِيد الْحَنَفِيّ الْيَمَامِيُّ ثُمَّ الْكُوفِيّ. وَأَمَّا قَوْله: «أَحْسَن الْعَرَب وَأَجْمَله» فَهُوَ كَقَوْلِهِ: «كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَن النَّاس وَجْهًا وَأَحْسَنه خَلْقًا»، وَقَدْ سَبَقَ شَرْحه فِي فَضَائِل النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْله الْحَدِيث بَعْده فِي نِسَاء قُرَيْش: «أَحْنَاهُ عَلَى وَلَد وَأَرْعَاهُ لِزَوْجٍ» قَالَ أَبُو حَاتِم السِّجِسْتَانِيُّ وَغَيْره: أَيْ وَأَجْمَلهمْ، وَأَحْسَنهمْ، وَأَرْعَاهُمْ، لَكِنْ لَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إِلَّا مُفْرَدًا. قَالَ النَّحْوِيُّونَ: مَعْنَاهُ وَأَجْمَل مَنْ هُنَاكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة بِالْإِشْكَالِ، وَوَجْه الْإِشْكَال أَنَّ أَبَا سُفْيَان إِنَّمَا أَسْلَمَ يَوْم فَتْح مَكَّة سَنَة ثَمَان مِنْ الْهِجْرَة، وَهَذَا مَشْهُور لَا خِلَاف فيه، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَزَوَّجَ أُمّ حَبِيبَة قَبْل ذَلِكَ بِزَمَانٍ طَوِيل. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَخَلِيفَة بْن خَيَّاط وَابْن الْبَرْقِيّ وَالْجُمْهُور: تَزَوَّجَهَا سَنَة سِتّ، وَقِيلَ: سَنَة سَبْع. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض: وَاخْتَلَفُوا أَيْنَ تَزَوَّجَهَا؟ فَقِيلَ: بِالْمَدِينَةِ بَعْد قُدُومهَا مِنْ الْحَبَشَة، وَقَالَ الْجُمْهُور: بِأَرْضِ الْحَبَشَة. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ عَقَدَ لَهُ عَلَيْهَا هُنَاكَ؟ فَقِيلَ: عُثْمَان، وَقِيلَ: خَالِد بْن سَعِيد بْن الْعَاصِي بِإِذْنِهَا، وَقِيلَ: النَّجَاشِيّ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِير الْمَوْضِع وَسُلْطَانه. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي فِي مُسْلِم هُنَا أَنَّهُ زَوَّجَهَا أَبُو سُفْيَان غَرِيب جِدًّا. وَخَبَرهَا مَعَ أَبِي سُفْيَان حِين وَرَدَ الْمَدِينَة فِي حَال كُفْره مَشْهُور. وَلَمْ يَزِدْ الْقَاضِي عَلَى هَذَا. وَقَالَ اِبْن حَزْم: هَذَا الْحَدِيث وَهْم مِنْ بَعْض الرُّوَاة؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَاف بَيْن النَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمّ حَبِيبَة قَبْل الْفَتْح بِدَهْرٍ، وَهِيَ بِأَرْضِ الْحَبَشَة، وَأَبُوهَا كَافِر. وَفِي رِوَايَة عَنْ اِبْن حَزْم أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: مَوْضُوع قَالَ: وَالْآفَة فيه مِنْ عِكْرِمَة بْن عَمَّار الرَّاوِي عَنْ أَبِي زُمَيْل. وَأَنْكَرَ الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بْن الصَّلَاح رَحِمَهُ اللَّه هَذَا عَلَى اِبْن حَزْم، وَبَالَغَ فِي الشَّنَاعَة عَلَيْهِ. قَالَ: وَهَذَا الْقَوْل مِنْ جَسَارَته فَإِنَّهُ كَانَ هَجُومًا عَلَى تَخْطِئَة الْأَئِمَّة الْكِبَار، وَإِطْلَاق اللِّسَان فيهمْ. قَالَ: وَلَا نَعْلَم أَحَدًا مِنْ أَئِمَّة الْحَدِيث نَسَبَ عِكْرِمَة بْن عَمَّار إِلَى وَضْع الْحَدِيث، وَقَدْ وَثَّقَهُ وَكِيع وَيَحْيَى بْن مَعِين وَغَيْرهمَا، وَكَانَ مُسْتَجَاب الدَّعْوَة. قَالَ: وَمَا تَوَهَّمَهُ اِبْن حَزْم مِنْ مُنَافَاة هَذَا الْحَدِيث لِتَقَدُّمِ زَوَاجهَا غَلَط مِنْهُ وَغَفْلَة؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِل أَنَّهُ سَأَلَهُ تَجْدِيد عَقْد النِّكَاح تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يَرَى عَلَيْهَا غَضَاضَة مِنْ رِيَاسَته وَنَسَبه أَنْ تُزَوَّج اِبْنَته بِغَيْرِ رِضَاهُ، أَوْ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إِسْلَام الْأَب فِي مِثْل هَذَا يَقْتَضِي تَجْدِيد الْعَقْد، وَقَدْ خَفِيَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا عَلَى أَكْبَر مَرْتَبَة مِنْ أَبِي سُفْيَان مِمَّنْ كَثُرَ عِلْمه وَطَالَتْ صُحْبَته. هَذَا كَلَام أَبِي عَمْرو رَحِمَهُ اللَّه، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّدَ الْعَقْد، وَلَا قَالَ لِأَبِي سُفْيَان إِنَّهُ يَحْتَاج إِلَى تَجْدِيده، فَلَعَلَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: نَعَمْ أَنَّ مَقْصُودك يَحْصُل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِحَقِيقَةِ عَقْد. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب مِنْ فَضَائِلِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ وَأَهْلِ سَفِينَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عنهم: قَوْله: «فَأَسْهَمَ لَنَا، أَوْ قَالَ أَعْطَانَا: مِنْهَا» هَذَا الْإِعْطَاء مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ بِرِضَا الْغَانِمِينَ، وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ مَا يُؤَيِّدهُ، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيِّ التَّصْرِيح بِأَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ، فَشَرِكُوهُمْ فِي سُهْمَانهمْ. قَوْلهَا لِعُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: «كَذَبْت» أَيْ أَخْطَأْت، وَقَدْ اِسْتَعْمَلُوا كَذَبَ بِمَعْنَى أَخْطَأَ. قَوْلهَا: «وَكُنَّا فِي دَار الْبُعَدَاء الْبُغَضَاء» قَالَ الْعُلَمَاء: الْبُعَدَاء فِي النَّسَب، الْبُغَضَاء فِي الدِّين؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّار إِلَّا النَّجَاشِيّ، وَكَانَ يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِ عَنْ قَوْمه، وَيَرْوِي لَهُمْ. قَوْلهَا: «يَأْتُونِي أَرْسَالًا» بِفَتْحِ الْهَمْزَة أَيْ أَفْوَاجًا، فَوْجًا بَعْد فَوْج يُقَال: أَوْرَدَ إِبِله أَرْسَالًا أَيْ مُتَقَطِّعَة مُتَتَابِعَة، وَأَوْرَدَهَا عِرَاكًا أَيْ مُجْتَمِعَة. وَاَللَّه أَعْلَم. .باب مِنْ فَضَائِلِ سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبِلاَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَوْله: «يَا إِخْوَتاه أَغْضَبْتُكُمْ؟ قَالُوا: لَا، يَغْفِر اللَّه لَك يَا أُخَيّ» أَمَّا قَوْلهمْ: «يَا أُخَيّ» فَضَبَطُوهُ بِضَمِّ الْهَمْزَة عَلَى التَّصْغِير، وَهُوَ تَصْغِير تَحْبِيب. وَتَرْقِيق وَمُلَاطَفَة. وَفِي بَعْض النُّسَخ بِفَتْحِهَا. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْر أَنَّهُ نَهَى عَنْ مِثْل هَذِهِ الصِّيغَة، وَقَالَ: قُلْ: عَافَاك اللَّه، رَحِمَك اللَّه، لَا تَزِدْ. أَيْ لَا تَقُلْ قَبْل الدُّعَاء لَا فَتَصِير صُورَته صُورَة نَفْي الدُّعَاء. قَالَ بَعْضهمْ: قُلْ: لَا، وَيَغْفِر لَك اللَّه. .باب مِنْ فَضَائِلِ الأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: 4563- قَوْله: «فَقَامَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمَثَّلًا» هُوَ بِضَمِّ الْمِيم الْأُولَى وَإِسْكَان الثَّانِيَة وَبِفَتْحِ الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَكَسْرهَا. كَذَا رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ، وَهُمَا مَشْهُورَانِ. قَالَ الْقَاضِي: جُمْهُور الرُّوَاة بِالْفَتْحِ. قَالَ: وَصَحَّحَهُ بَعْضهمْ. قَالَ: وَلِبَعْضِهِمْ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيّ بِالْكَسْرِ، وَمَعْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَصِبًا. قَالَ: وَعِنْد بَعْضهمْ: «مُقْبِلًا». وَلِلْبُخَارِيِّ فِي كِتَاب النِّكَاح: «مُمْتَنًّا» بِتَاءٍ مُثَنَّاة فَوْق وَنُون مِنْ الْمِنَّة أَيْ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَاخْتَارَ بَعْضهمْ هَذَا وَضَبَطَهُ بَعْض الْمُتَّفِقِينَ مُمْتِنًا بِكَسْرِ التَّاء وَتَخْفِيف النُّون أَيْ قِيَامًا طَوِيلًا. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُخْتَار مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُور. 4564- قَوْله: «جَاءَتْ اِمْرَأَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَلَا بِهَا» هَذِهِ الْمَرْأَة إِمَّا مَحْرَم لَهُ كَأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُخْتهَا. وَإِمَّا الْمُرَاد بِالْخَلْوَةِ أَنَّهَا سَأَلَتْهُ سُؤَالًا خَفِيًّا بِحَضْرَةِ نَاس، وَلَمْ يَكُنْ خَلْوَة مُطْلَقَة وَهِيَ الْخَلْوَة الْمَنْهِيّ عَنْهَا. 4565- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَنْصَار كَرِشِي وَعَيْبَتِي» قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ جَمَاعَتِي وَخَاصَّتِي، الَّذِينَ أَثِق بِهِمْ، وَأَعْتَمِدهُمْ فِي أُمُورِي. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: ضَرَبَ مَثَلًا بِالْكَرِشِ لِأَنَّهُ مُسْتَقَرّ غِذَاء الْحَيَوَان الَّذِي يَكُون بِهِ بَقَاؤُهُ، وَالْعَيْبَة وِعَاء مَعْرُوف أَكْبَر مِنْ الْمِخْلَاة يَحْفَظ الْإِنْسَان فيها ثِيَابه وَفَاخِر مَتَاعه، وَيَصُونهَا، ضَرَبَهَا مَثَلًا لِأَنَّهُمْ أَهْل سِرّه وَخَفِيّ أَحْوَاله. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ النَّاس سَيَكْثُرُونَ وَيَقِلُّونَ» أَيْ وَيَقِلّ الْأَنْصَار، وَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَات. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنهمْ وَاعْفُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ» وَفِي بَعْض الْأُصُول: «عَنْ سَيِّئَتهمْ»، وَالْمُرَاد بِذَلِكَ فِيمَا سِوَى الْحُدُود. .باب فِي خَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: قَالَ الْعُلَمَاء: وَتَفْضِيلهمْ عَلَى قَدْر سَبْقهمْ إِلَى الْإِسْلَام، وَمَآثِرهمْ فيه. وَفِي هَذَا دَلِيل لِجَوَازِ تَفْضِيل الْقَبَائِل وَالْأَشْخَاص بِغَيْرِ مُجَازَفَة وَلَا هَوًى، وَلَا يَكُون هَذَا غِيبَة. 4567- قَوْله: (سَمِعْت أَبَا أُسَيْدٍ خَطِيبًا عِنْد اِبْن عُتْبَة) أَمَّا (أُسَيْدٍ) فَبِضَمِّ الْهَمْزَة عَلَى الْمَشْهُور، وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن مَهْدِيّ فَتْحهَا، وَهُوَ شَاذّ ضَعِيف. وَخَطِيبًا بِكَسْرِ الطَّاء اِسْم فَاعِل، وَفِي بَعْض النُّسَخ: (خَطَبَنَا) بِفَتْحِهَا فِعْل مَاضٍ. قَوْله: (عِنْد اِبْن عُتْبَة): بِالْمُثَنَّاةِ فَوْق هُوَ الْوَلِيد بْن عُتْبَة بْن أَبِي سُفْيَان عَامِل عَمّه مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان عَلَى الْمَدِينَة. 4568- قَوْله: (خُلِّفْنَا) أَيْ أُخِّرْنَا فَجُعِلْنَا آخِر النَّاس. .باب فِي حُسْنِ صُحْبَةِ الأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: .باب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِغِفَارَ وَأَسْلَمَ: قَالَ الْقَاضِي فِي الْمَشَارِق: هُوَ مِنْ أَحْسَن الْكَلَام، مَأْخُوذ مِنْ سَالَمْته إِذَا لَمْ تَرَ مِنْهُ مَكْرُوهًا، فَكَأَنَّهُ دَعَا لَهُمْ بِأَنْ يَصْنَع اللَّه بِهِمْ مَا يُوَافِقهُمْ، فَيَكُون سَالَمَهَا بِمَعْنَى سَلَّمَهَا، وَقَدْ جَاءَ فَاعَلَ بِمَعْنَى فَعَلَ كَقَاتَلَهُ اللَّه أَيْ قَتَلَهُ. 4572- سبق شرحه بالباب. 4573- سبق شرحه بالباب. 4574- سبق شرحه بالباب. 4575- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اِلْعَنْ بَنِي لِحْيَان وَرِعْلًا» (لِحْيَان) بِكَسْرِ اللَّام وَفَتْحهَا، وَهُمْ بَطْن مِنْ هُذَيْل. و(رِعْل) بِكَسْرِ الرَّاء وَإِسْكَان الْعَيْن الْمُهْمَلَة. وَفيه جَوَاز لَعْن الْكُفَّار جُمْلَة، أَوَالطَّائِفَة مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْوَاحِد بِعَيْنِهِ. 4576- سبق شرحه بالباب. .باب مِنْ فَضَائِلِ غِفَارَ وَأَسْلَمَ وُجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَمُزَيْنَةَ وَتَمِيمٍ وَدَوْسٍ وَطَيِّئٍ: قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَاد بِبَنِي عَبْد اللَّه هُنَا بَنُو عَبْد الْعُزَّى عَنْ غَطَفَانَ سَمَّاهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْد اللَّه فَسَمَّتْهُمْ الْعَرَب بَنِي مُحَوِّلَة لِتَحْوِيلِ اِسْم أَبِيهِمْ. 4578- سبق شرحه بالباب. 4579- قَوْله: (وَالْحَلِيفَيْنِ أَسَد وَغَطَفَان) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَة مِنْ الْحِلْف أَيْ الْمُتَحَالِفَيْنِ. 4580- سبق شرحه بالباب. 4581- سبق شرحه بالباب. 4582- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُمْ لَأَخْيَر مِنْهُمْ» هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع النُّسَخ: (لَأَخْيَر)، وَهِيَ لُغَة قَلِيلَة تَكَرَّرَتْ فِي الْأَحَادِيث، وَأَهْل الْعَرَبِيَّة يُنْكِرُونَهَا، وَيَقُولُونَ: الصَّوَاب خَيْر وَشَرّ، وَلَا يُقَال أَخْيَر وَلَا أَشَرُّ، وَلَا يُقْبَل إِنْكَارهمْ. فَهِيَ لُغَة قَلِيلَة الِاسْتِعْمَال. وَأَمَّا تَفْضِيل هَذِهِ الْقَبَائِل فَلِسَبْقِهِمْ إِلَى الْإِسْلَام وَآثَارهمْ فيه. قَوْله: (حَدَّثَنِي سَيِّد بَنِي تَمِيم مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي يَعْقُوب الضَّبِّيُّ) قَالَ الْقَاضِي: كَذَا وَقَعَ هُنَا، وَضَبَّة لَا تَجْتَمِع فِي بَنِي تَمِيم، إِنَّمَا ضَبَّة بْن أُدّ بْن طَابِخَة بْن إِلْيَاس بْن مُضَر، وَفِي قُرَيْش أَيْضًا ضَبَّة بْن الْحَارِث فِهْر. قَالَ: وَقَدْ نَسَبَهُ الْبُخَارِيّ فِي التَّارِيخ كَمَا وَقَعَ فِي مُسْلِم. قُلْت: وَفِي هُذَيْل أَيْضًا ضَبَّة بْن عَمْرو بْن الْحَارِث بْن تَمِيم بْن سَعْد بْن هُذَيْل فَيَجُوز أَنْ يَكُون ضَبِّيًّا بِالْحِلْفِ، أَوْ مَجَازًا لِمُقَارَبَتِهِ؛ فَإِنَّ تَمِيمًا تَجْتَمِع هِيَ، وَضَبَّة قَرِيبًا. 4583- سبق شرحه بالباب. 4584- سبق شرحه بالباب. 4585- قَوْله: «أَوَّل صَدَقَة بَيَّضَتْ وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُجُوه أَصْحَابه صَدَقَة طَيِّئ» أَيْ سَرَّتْهُمْ وَأَفْرَحَتْهُمْ وَطَيِّئ بِالْهَمْزَةِ عَلَى الْمَشْهُور، وَحُكِيَ تَرْكه، وَسَبَقَ بَيَانه. 4587- وَالْمَلَاحِم مَعَارِك الْقِتَال وَالْتِحَامه. .باب خِيَارِ النَّاسِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ: «إِنَّهُ مِنْ شِرَار النَّاس»، فَسَبَبه ظَاهِر لِأَنَّهُ نِفَاق مَحْض، وَكَذِب وَخِدَاع، وَتَحَيُّل عَلَى اِطِّلَاعه عَلَى أَسْرَار الطَّائِفَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي كُلّ طَائِفَة بِمَا يُرْضِيهَا، وَيَظْهَر لَهَا أَنَّهُ مِنْهَا فِي خَيْر أَوْ شَرّ، وَهِيَ مُدَاهَنَة مُحَرَّمَة. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَتَجِدُونَ مِنْ خَيْر النَّاس فِي هَذَا الْأَمْر أَشَدُّهُمْ لَهُ كَرَاهِيَة حَتَّى يَقَع فيه» قَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِهِ الْإِسْلَام كَمَا كَانَ مِنْ عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَخَالِد بْن الْوَلِيد، وَعَمْرو بْن الْعَاصِ، وَعِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل، وَسُهَيْل بْن عَمْرو، وَغَيْره مِنْ مَسْلَمَة الْفَتْح، وَغَيْرهمْ، مِمَّنْ كَانَ يَكْرَه الْإِسْلَام كَرَاهِيَة شَدِيدَة، لَمَّا دَخَلَ فيه أَخْلَصَ، وَأَحَبَّهُ، وَجَاهَدَ فيه حَقَّ جِهَاده. قَالَ: وَيَحْتَمِل أَنَّ الْمُرَاد بِالْأَمْرِ فِي ذِي الْوَجْهَيْنِ هُنَا الْوِلَايَات لِأَنَّهُ إِذَا أُعْطِيهَا مِنْ غَيْر مَسْأَلَة أُعِينَ عَلَيْهَا. .باب مِنْ فَضَائِلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ: وَمَعْنَى: «أَحْنَاهُ» أَشْفَقه. وَالْحَانِيَة عَلَى وَلَدهَا الَّتِي تَقُوم عَلَيْهِمْ بَعْد يُتْمهمْ فَلَا تَتَزَوَّج؛ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَلَيْسَتْ بِحَانِيَةٍ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَدْ سَبَقَ فِي بَاب فَضْل أَبِي سُفْيَان قَرِيبًا بَيَان أَحْنَاهُ وَأَرْعَاهُ، وَأَنَّ مَعْنَاهُ أَحْنَاهُنَّ وَاَللَّه أَعْلَم. 4590- وَمَعْنَى: «رَكِبْنَ الْإِبِل» نِسَاء الْعَرَب، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي الْحَدِيث: لَمْ تَرْكَب مَرْيَم بِنْت عِمْرَان بَعِيرًا قَطُّ، وَالْمَقْصُود أَنَّ نِسَاء قُرَيْش خَيْر نِسَاء الْعَرَب، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعَرَب خَيْر مِنْ غَيْرهمْ فِي الْجُمْلَة، وَأَمَّا الْأَفْرَاد فَيَدْخُل بِهَا الْخُصُوص. 4591- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْر نِسَاء رَكِبْنَ الْإِبِل نِسَاء قُرَيْش أَحْنَاهُ عَلَى وَلَد فِي صِغَره، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْج فِي ذَات يَده» فيه فَضِيلَة نِسَاء قُرَيْش، وَفَضْل هَذِهِ الْخِصَال، وَهِيَ الْحَنْوَةُ عَلَى الْأَوْلَاد، وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ، وَحُسْن تَرْبِيَتهمْ، وَالْقِيَام عَلَيْهِمْ إِذَا كَانُوا يَتَامَى. وَنَحْو ذَلِكَ مُرَاعَاة حَقِّ الزَّوْج فِي مَاله، وَحِفْظه، وَالْأَمَانَة فيه، وَحُسْن تَدْبِيره فِي النَّفَقَة وَغَيْرهَا، وَصِيَانَته، وَنَحْو ذَلِكَ. .باب مُؤَاخَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالَ الْقَاضِي: قَالَ الطَّبَرِيُّ: لَا يَجُوز الْحِلْف الْيَوْم، فَإِنَّ الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث، وَالْمُوَارَثَة بِهِ وَبِالْمُؤَاخَاةِ كُلّه مَنْسُوخ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولُوا الْأَرْحَام بَعْضهمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} وَقَالَ الْحَسَن: كَانَ التَّوَارُث بِالْحِلْفِ، فَنُسِخَ بِآيَةِ الْمَوَارِيث. قُلْت: أَمَّا مَا يَتَعَلَّق بِالْإِرْثِ فَيُسْتَحَبّ فيه الْمُحَالَفَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَأَمَّا الْمُؤَاخَاة فِي الْإِسْلَام وَالْمُحَالَفَة عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى وَالتَّنَاصُر فِي الدِّين وَالتَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَإِقَامَة الْحَقّ فَهَذَا بَاقٍ لَمْ يُنْسَخ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث: «وَأَيّمَا حِلْف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَام إِلَّا شِدَّة» وَأَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا حِلْف فِي الْإِسْلَام» فَالْمُرَاد بِهِ حِلْف التَّوَارُث وَالْحِلْف عَلَى مَا مَنَعَ الشَّرْع مِنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم. 4592- سبق شرحه بالباب. 4593- سبق شرحه بالباب. 4594- سبق شرحه بالباب. 4595- سبق شرحه بالباب. .باب بَيَانِ أَنَّ بَقَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانٌ لأَصْحَابِهِ وَبَقَاءَ أَصْحَابِهِ أَمَانٌ لِلأُمَّةِ: قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَة لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» مَعْنَاهُ مِنْ ظُهُور الْبِدَع، وَالْحَوَادِث فِي الدِّين، وَالْفِتَن فيه، وَطُلُوع قَرْن الشَّيْطَان، وَظُهُور الرُّوم وَغَيْرهمْ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَاك الْمَدِينَة وَمَكَّة وَغَيْر ذَلِكَ. وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ مُعْجِزَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .باب فَضْلِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ: 4598- فيه فَضْل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. 4599- قَوْله (عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ) هُوَ بِفَتْحِ الْعَيْن وَالسِّين وَإِسْكَان اللَّام مَنْسُوب إِلَى بَنِي سَلْمَان. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَجِيء قَوْم تَسْبِق شَهَادَة أَحَدهمْ يَمِينه، وَيَمِينه شَهَادَته» هَذَا ذَمٌّ لِمَنْ يَشْهَد وَيَحْلِف مَعَ شَهَادَته. وَاحْتَجَّ بِهِ بَعْض الْمَالِكِيَّة فِي رَدِّ شَهَادَة مَنْ حَلَفَ مَعَهَا، وَجُمْهُور الْعُلَمَاء أَنَّهَا لَا تُرَدّ. وَمَعْنَى الْحَدِيث أَنَّهُ يُجْمَع بَيْن الْيَمِين وَالشَّهَادَة، فَتَارَة تَسْبِق هَذِهِ، وَتَارَة هَذِهِ. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: «تَبْدُر شَهَادَة أَحَدهمْ» وَهُوَ بِمَعْنَى تَسْبِق. 4600- قَوْله: «يَنْهَوْنَنَا عَنْ الْعَهْد وَالشَّهَادَات» أَيْ الْجَمْع بَيْن الْيَمِين وَالشَّهَادَة، وَقِيلَ: الْمُرَاد النَّهْي عَنْ قَوْله: عَلَى عَهْد اللَّه أَوْ أَشْهَد بِاَللَّهِ. 4601- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَتَخَلَّف مِنْ بَعْدهمْ خَلْف» هَكَذَا هُوَ فِي مُعْظَم النُّسَخ: «يَتَخَلَّف»، وَفِي بَعْضهَا: «يَخْلُف» بِحَذْفِ التَّاء، وَكِلَاهُمَا صَحِيح، أَيْ يَجِيء بَعْدهمْ خَلْف بِإِسْكَانِ اللَّام، هَكَذَا الرِّوَايَة، وَالْمُرَاد خَلْف سُوء. قَالَ أَهْل اللُّغَة: الْخَلْف مَا صَارَ عِوَضًا عَنْ غَيْره، وَيُسْتَعْمَل فِيمَنْ خَلَفَ بِخَيْرٍ أَوْ بِشَرٍّ، لَكِنْ يُقَال فِي الْخَيْر: بِفَتْحِ اللَّام وَإِسْكَانهَا لُغَتَانِ، الْفَتْح أَشْهَر وَأَجْوَد، وَفِي الشَّرّ بِإِسْكَانِهَا عِنْد الْجُمْهُور، وَحُكِيَ أَيْضًا فَتْحهَا. 4602- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ يَخْلُف قَوْم يُحِبُّونَ السَّمَانَة يَشْهَدُونَ قَبْل أَنْ يُسْتَشْهَدُوا» وَفِي رِوَايَة: «وَيَظْهَر قَوْم فيهمْ السِّمَن» السَّمَانَة بِفَتْحِ السِّين هِيَ السِّين هِيَ السِّمَن. قَالَ جُمْهُور الْعُلَمَاء فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: الْمُرَاد بِالسِّمَنِ هُنَا كَثْرَة اللَّحْم، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَكْثُر ذَلِكَ فيهمْ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَتَمَحَّضُوا سِمَانًا. قَالُوا: وَالْمَذْمُوم مِنْهُ مَنْ يَسْتَكْسِبُهُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فيه خِلْقَة فَلَا يَدْخُل فِي هَذَا، وَالْمُتَكَسِّب لَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّع فِي الْمَأْكُول وَالْمَشْرُوب زَائِدًا عَلَى الْمُعْتَاد، وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالسِّمَنِ هُنَا أَنَّهُمْ يَتَكَثَّرُونَ بِمَا لَيْسَ فيهمْ، وَيَدَّعُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الشَّرَف وَغَيْره، وَقِيلَ: الْمُرَاد جَمْعهمْ الْأَمْوَال. وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَشْهَدُونَ قَبْل أَنْ يُسْتَشْهَدُوا» هَذَا الْحَدِيث فِي ظَاهِره مُخَالَفَة لِلْحَدِيثِ الْآخَر: «خَيْر الشُّهُود الَّذِي يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ قَبْل أَنْ يُسْأَلهَا» قَالَ الْعُلَمَاء: الْجَمْع بَيْنهمَا أَنَّ الذَّمّ فِي ذَلِكَ لِمَنْ بَادَرَ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْآدَمِيّ هُوَ عَالِم قَبْل أَنْ يَسْأَلهَا صَاحِبهَا، وَأَمَّا الْمَدْح فَهُوَ لِمَنْ كَانَتْ عِنْده شَهَادَة الْآدَمِيّ، وَلَا يَعْلَم بِهَا صَاحِبهَا، فَيُخْبِرهُ بِهَا لِيَسْتَشْهِدهُ بِهَا عِنْد الْقَاضِي إِنْ أَرَادَ، وَيَلْتَحِق بِهِ مَنْ كَانَتْ عِنْده شَهَادَة حِسْبَة، وَهِيَ الشَّهَادَة بِحُقُوقِ اللَّه تَعَالَى، فَيَأْتِي الْقَاضِي وَيَشْهَد بِهَا، وَهَذَا مَمْدُوح إِلَّا إِذَا كَانَتْ الشَّهَادَة بِحَدٍّ، وَرَأَى الْمَصْلَحَة فِي السِّتْر. هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْجَمْع بَيْن الْحَدِيثَيْنِ هُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا وَمَالِك وَجَمَاهِير الْعُلَمَاء، وَهُوَ الصَّوَاب، وَقِيلَ فيه أَقْوَال ضَعِيفَة: خِلَاف قَوْل مَنْ قَالَ بِالذَّمِّ مُطْلَقًا، وَنَابَذَ حَدِيث الْمَدْح، وَمِنْهَا قَوْل مَنْ حَمَلَهُ عَلَى شَهَادَة الزُّور، وَمِنْهَا قَوْل مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الشَّهَادَة بِالْحُدُودِ، وَكُلّهَا فَاسِدَة. وَاحْتَجَّ عَبْد اللَّه بْن شُبْرُمَةَ بِهَذَا الْحَدِيث لِمَذْهَبِهِ فِي مَنْعه الشَّهَادَة عَلَى الْإِقْرَار قَبْل أَنْ يُسْتَشْهَد، وَمَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور قَبُولهَا. 4603- قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْركُمْ قَرْنِي» وَفِي رِوَايَة: «خَيْر النَّاس قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ إِلَى آخِره». اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ خَيْر الْقُرُون قَرْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَاد أَصْحَابه، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّ كُلّ مُسْلِم رَأَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَاعَة فَهُوَ مِنْ أَصْحَابه، وَرِوَايَة: «خَيْر النَّاس» عَلَى عُمُومهَا، وَالْمُرَاد مِنْهُ جُمْلَة الْقَرْن، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ تَفْضِيل الصَّحَابِيّ عَلَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَلَا أَفْرَاد النِّسَاء عَلَى مَرْيَم وَآسِيَة وَغَيْرهمَا، بَلْ الْمُرَاد جُمْلَة الْقَرْن بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلّ قَرْن بِجُمْلَتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَاد بِالْقَرْنِ هُنَا، فَقَالَ الْمُغِيرَة: قَرْنه أَصْحَابه، وَاَلَّذِينَ يَلُونَهُمْ أَبْنَاؤُهُمْ، وَالثَّالِث أَبْنَاء أَبْنَائِهِمْ: وَقَالَ شَهْر: قَرْنه مَا بَقِيَتْ عَيْن رَأَتْهُ، وَالثَّانِي مَا بَقِيَتْ عَيْن رَأَتْ مَنْ رَآهُ، ثُمَّ كَذَلِكَ. وَقَالَ غَيْر وَاحِد: الْقَرْن كُلّ طَبَقَة مُقْتَرِنِينَ فِي وَقْت، وَقِيلَ: هُوَ لِأَهْلِ مُدَّةٍ بُعِثَ فيها نَبِيّ طَالَتْ مُدَّته أَمْ قَصُرَتْ. وَذَكَرَ الْحَرْبِيّ الِاخْتِلَاف فِي قَدْره بِالسِّنِينَ مِنْ عَشْر سِنِينَ إِلَى مِائَة وَعِشْرِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مِنْهُ شَيْء وَاضِح، وَرَأَى أَنَّ الْقَرْن كُلّ أُمَّة هَلَكَتْ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَد. وَقَالَ الْحَسَن وَغَيْره: الْقَرْن عَشْر سِنِينَ، وَقَتَادَةُ سَبْعُونَ، وَالنَّخَعِيُّ أَرْبَعُونَ، وَزُرَارَةُ بْن أَبِي أَوْفَى مِائَة وَعِشْرُونَ، وَعَبْد الْمَلِك بْن عُمَيْر مِائَة، وَقَالَ اِبْن الْأَعْرَابِيّ: هُوَ الْوَقْت. هَذَا آخِر نَقْل الْقَاضِي، وَالصَّحِيح أَنَّ قَرْنه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّحَابَة، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ، وَالثَّالِث تَابِعُوهُمْ. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيَخُونُونَ وَلَا يَتَمَنَّوْنَ» هَكَذَا فِي أَكْثَر النُّسَخ: «يَتَمَنَّوْنَ» بِتَشْدِيدِ النُّون، وَفِي بَعْضهَا: «يُؤْتَمَنُونَ»، وَمَعْنَاهُ يَخُونُونَ خِيَانَة ظَاهِرَة بِحَيْثُ لَا يَبْقَى مَعَهَا أَمَانَة، بِخِلَافِ مَنْ خَانَ بِحَقِيرٍ مَرَّة وَاحِدَة؛ فَإِنَّهُ يَصْدُق عَلَيْهِ أَنَّهُ خَانَ، وَلَا يَخْرُج بِهِ عَنْ الْأَمَانَة فِي بَعْض الْمَوَاطِن. قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيُنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ» هُوَ بِكَسْرِ الذَّال وَضَمّهَا، لُغَتَانِ. وَفِي رِوَايَة: «يَفُونَ»، وَهُمَا صَحِيحَانِ. يُقَال: وَفَى وَأَوْفَى فيه وُجُوب الْوَفَاء بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاجِب بِلَا خِلَاف، وَإِنْ كَانَ اِبْتِدَاء النَّذْر مَنْهِيًّا عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فِي بَابه. وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيث دَلَائِل لِلنُّبُوَّةِ، وَمُعْجِزَة ظَاهِرَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ كُلّ الْأُمُور الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ. قَوْله: (سَمِعْت أَبَا جَمْرَة قَالَ: حَدَّثَنِي زَهْدَم بْن مُضَرِّب) أَمَّا أَبُو جَمْرَة فَبِالْجِيمِ، وَهُوَ أَبُو جَمْرَة بُصْر بْن عِمْرَان سَبَقَ بَيَانه فِي كِتَاب الْإِيمَان فِي حَدِيث وَفْد عَبْد الْقَيْس، ثُمَّ فِي مَوَاضِع، وَلَا خِلَاف أَنَّهُ الْمُرَاد هُنَاكَ. وَأَمَّا زَهْدَم فَبِزَايٍ مَفْتُوحَة ثُمَّ هَاء سَاكِنَة ثُمَّ دَال مُهْمَلَة مَفْتُوحَة. وَمُضَرِّب بِضَمِّ الْمِيم وَفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَكَسْر الرَّاء الْمُشَدَّدَة. 4604- قَوْله: (عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْد اللَّه الْبَهِيّ عَنْ عَائِشَة) هُوَ بِفَتْحِ الْبَاء الْمُوَحَّدَة وَكَسْر الْهَاء، وَهَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا اِسْتَدْرَكَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَى الْبَهِيّ عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة. قَالَ الْقَاضِي: قَدْ صَحَّحُوا رِوَايَته عَنْ عَائِشَة، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ رِوَايَته عَنْ عَائِشَة.
|