الآية رقم ( 85 : 86 )
{وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}
قوله تعالى{وإسماعيل وإدريس{ وهو أخنوخ وقد تقدم. {وذا الكفل{ أي واذكرهم. وخرج الترمذي الحكيم في {نوادر الأصول{ وغيره من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فاتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك قالت من هذا العمل والله ما عملته قط قال أأكرهتك قالت لا ولكن حملني عليه الحاجة قال اذهبي فهو لك والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل) وخرجه أبو عيسى الترمذي أيضا ولفظه. ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحدث حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع موات - [لم أحدث به] ولكني سمعته أكثر من ذلك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان ذو الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال ما يبكيك أأكرهتك قالت لا ولكنه عمل ما عملته قط وما حملني عليه إلا الحاجة فقال تفعلين أنت هذا وما فعلته اذهبي فهي لك وقال والله لا أعصي الله بعدها أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه إن الله قد غفر لذي الكفل) قال: حديث حسن. وقيل إن اليسع لما كبر قال: لو استخلفت رجلا على الناس أنظر كيف يعمل. فقال: من يتكفل لي بثلاث: بصيام النهار وقيام الليل وإلا يغضب وهو يقضي؟ فقال رجل من ذرية العيص: أنا؛ فرده ثم قال مثلها من الغد؛ فقال الرجل: أنا؛ فاستخلفه فوفي فأثنى الله عليه فسمي ذا الكفل؛ لأنه تكفل بأمر؛ قال أبو موسى ومجاهد وقتادة. وقال عمرو بن عبدالرحمن بن الحارث وقال أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته، وكان يصلي، لله كل يوم مائة صلاة فأحسن الله الثناء عليه قال كعب: كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال: والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام. فعرض عليه فقال: ما جزائي؟ قال: الجنة - ووصفها له - قال: من يتكفل لي بذلك؟ قال: أنا؛ فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض: إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان؛ فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الإيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فأمنوا كلهم فسمي ذا الكفل. وقيل: كان رجلا عفيفا يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه. وقيل: سمي ذا الكفل لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. والجمهور على أنه ليس بنبي. وقال الحسن: هو نبي قبل إلياس. وقيل: هو زكريا بكفالة مريم. {كل من الصابرين{ أي على أمر الله والقيام بطاعته واجتناب معاصيه. {وأدخلناهم في رحمتنا{ أي في الجنة.
الآية رقم ( 87 : 88 )
{وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}
قوله تعالى{وذا النون{ أي واذكر {ذا النون{ وهو لقب ليونس بن متى لابتلاع النون إياه. والنون الحوت. وفي حديث عثمان رضي الله عنه أنه رأى صبيا مليحا فقال: دسموا نونته كي لا تصيبه العين. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: النونة النقبة التي تكون في ذقن الصبي الصغير، ومعنى دسموا سودوا.
قوله تعالى{إذ ذهب مغاضبا{ قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير: مغاضبا لربه عز وجل. واختاره الطبري والقتبي واستحسنه المهدوي، وروي عن ابن مسعود. وقال النحاس: وربما أنكره هذا من لا يعرف اللغة وهو قول صحيح. والمعنى: مغاضبا من أجل ربه، كما تقول: غضبت لك أي من أجلك. والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي. وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: (اشترطي لهم الولاء) من هذا. وبالغ القتبي في نصرة هذا القول. وفي الخبر في وصف يونس: إنه كان ضيق الصدر فلما حمل أعباء النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فمضى على وجهه مضي الآبق الناد. وهذه المغاضبة كانت صغيرة. ولم يغضب على الله ولكن غضب لله إذ رفع العذاب عنهم. وقال ابن مسعود: أبق من ربه أي من أمر ربه حتى أمره بالعودة إليهم بعد رفع العذاب عنهم. فإنه كان يتوعد قومه بنزول العذاب في وقت معلوم، وخرج من عندهم في ذلك الوقت، فأظلهم العذاب فتضرعوا فرفع عنهم ولم يعلم يونس بتوبتهم؛ فلذلك ذهب مغاضبا وكان من حقه ألا يذهب إلا بإذن محدد. وقال الحسن: أمره الله تعالى بالمسيرة إلى قومه فسأل أن ينظر ليتأهب، فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلا ليلبسها فلم ينظر، وقيل له: الأمر أعجل من ذلك - وكان في خلقه ضيق - فخرج مغاضبا لربه، فهذا قول وقول النحاس أحسن ما قيل في تأويله. أي خرج مغاضبا من أجل ربه، أي غضب على قومه من أجل كفرهم بربه وقيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم فذهب فارا بنفسه، ولم يصبر على أذاهم وقد كان الله أمره بملازمتهم والدعاء، فكان ذنبه خروجه من بينهم من غير إذن من الله. روي عن ابن عباس والضحاك، وأن يونس كان شابا ولم يحمل أثقال النبوة؛ ولهذا قيل للنبي صلى الله عليه وسلم{ولا تكن كصاحب الحوت}القلم: 48]. وعن الضحاك أيضا خرج مغاضبا لقومه؛ لأن قومه لما لم يقبلوا منه وهو رسول من الله عز وجل كفروا بهذا فوجب أن يغاضبهم، وعلى كل أحد أن يغاضب من عصى الله عز وجل. وقالت فرقة منهم الأخفش: إنما خرج مغاضبا للملك الذين كان على قومه. قال ابن عباس: أراد شعيا النبي والملك الذي كان في وقته اسمه حزقيا أن يبعثوا يونس إلى ملك نينوى، وكان غزا بني إسرائيل وسبى الكثير منهم ليكلمه حتى يرسل معه بني إسرائيل، وكان الأنبياء في ذلك الزمان يوحى إليهم، والأمر والسياسة إلى ملك قد اختاروه فيعمل على وحي ذلك النبي، وكان أوحى الله لشعيا: أن قل لحزقيا الملك أن يختار نبيا قويا أمينا من بني إسرائيل فيبعثه إلى أهل نينوى فيأمرهم بالتخلية عن بني إسرائيل فإني ملق في قلوب ملوكهم وجبابرتهم التخلية عنهم. فقال يونس لشعيا: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فهل سماني لك؟ قال: لا. قال فها هنا أنبياء أمناء أقوياء. فألحوا عليه فخرج مغاضبا للنبي الملك وقومه، فأتى بحر الروم وكان من قصته ما كان؛ فابتلي ببطن الحوت لتركه أمر شعيا؛ ولهذا قال الله تعالى{فالتقمه الحوت وهو مليم}الصافات: 142] والمليم من فعل ما يلام عليه. وكان ما فعله إما صغيرة أو ترك الأولى. وقيل: خرج ولم يكن نبيا في ذلك الوقت ولكن أمره ملك من ملوك بني إسرائيل أن يأتي نينوى؛ ليدعو أهلها بأمر شعيا فأنف أن يكون ذهابه إليهم بأمر أحد غير الله، فخرج مغاضبا للملك؛ فلما نجا من بطن الحوت بعثه الله إلى قومه فدعاهم وآمنوا به. وقال القشيري: والأظهر أن هذه المغاضبة كانت بعد إرسال الله تعالى إياه، وبعد رفع العذاب عن القوم بعد ما أظلهم؛ فإنه كره رفع العذاب عنهم.
قلت: هذا أحسن ما قيل فيه على ما يأتي بيانه في {والصافات{ إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه كان من أخلاق قومه قتل من جربوا عليه الكذب فخشي أن يقتل فغضب، وخرج فارا على وجهه حتى ركب في سفينة فسكنت ولم تجر. فقال أهلها: أفيكم آبق؟ فقال: أنا هو. وكان من قصته ما كان، وابتلي ببطن الحوت تمحيصا من الصغيرة كما قال في أهل أحد{حتى إذا فشلتم}آل عمران: 152] إلى قوله{وليمحص الله الذين آمنوا}آل عمران: 141] فمعاصي الأنبياء مغفورة، ولكن قد يجري تمحيص ويتضمن ذلك زجرا عن المعاودة. وقول رابع: إنه لم يغاضب ربه، ولا قومه، ولا الملك، وأنه من قولهم غضب إذا أنف. وفاعل قد يكون من واحد؛ فالمعنى أنه لما وعد قومه بالعذاب وخرج عنهم تابوا وكشف عنهم العذاب، فلما رجع وعلم أنهم لم يهلكوا أنف من ذلك فخرج أبقا. وينشد هذا البيت:
وأغضب أن تهجي تميم بداوم
أي آنف. وهذا فيه نظر؛ فإنه يغال لصاحب هذا القول: إن تلك المغاضبة وإن كانت من الأنفة، فالأنفة لا بد أن يخالطها الغضب وإن ذلك دق على من كان؟! وأنت تقول لم يغضب على ربه ولا على قومه.
قوله تعالى{فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات{ قيل: معناه استنزله إبليس ووقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته. وهذا قول مردود مرغوب عنه؛ لأنه كفر. روي عن سعيد بن جبير حكاه عنه المهدوي، والثعلبي عن الحسن وذكر الثعلبي وقال عطاء وسعيد بن جبير وكثير من العلماء معناه: فظن أن لن نضيق عليه. الحسن: هو من قوله تعالى{الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر}الرعد: 26] أي يضيق. وقوله {ومن قدر عليه رزقه}الطلاق: 7].
قلت: وهذا الأشبه بقول سعيد والحسن وقدر وقدر وقتر وقتر بمعنى، أي ضيق وهو قول ابن عباس فيما ذكره الماوردي والمهدوي. وقيل: هو من القدر الذي هو القضاء والحكم؛ أي فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة؛ قال قتادة ومجاهد والفراء. مأخوذ من القدر وهو الحكم دون القدرة والاستطاعة. وروي عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنه قال في قول الله عز وجل{فظن أن لن نقدر عليه{ هو من التقدير ليس من القدرة، يقال منه: قدر الله لك الخير يقدره قدرا، بمعنى قدر الله لك الخير. وأنشد ثعلب:
فليست عشيات اللوى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
يعني ما تقدره وتقضي به يقع. وعلى هذين التأويلين العلماء. وقرأ عمر بن عبدالعزيز والزهري{فظن أن لن نُقدِّر عليه{ بضم النون وتشديد الدال من التقدير. وحكى هذه القراءة الماوردي عن ابن عباس. وقرأ عبيد بن عمير وقتادة والأعرج{أن لن يقدر عليه{ بضم الياء مشددا على، الفعل المجهول. وقرأ يعقوب وعبدالله بن أبي إسحاق والحسن وابن عباس أيضا {يُقْدَر عليه{ بياء مضمومة وفتح الدال مخففا على الفعل المجهول. وعن الحسن أيضا {فظن أن لن يقدر عليه{. الباقون {نقدر{ بفتح النون وكسر الدال وكله بمعنى التقدير.
قلت: وهذان التأويلان تأولهما العلماء في قول الرجل الذي لم يعمل خيرا قط لأهله إذا مات فحرقوه (فوالله لئن قدر الله على) الحديث فعلى التأويل الأول يكون تقديره: والله لئن ضيق الله علي وبالغ في محاسبتي وجزائي على ذنوبي ليكونن ذلك، ثم أمر أن يحرق بإفراط خوفه. وعلى التأويل الثاني: أي لن كان سبق في قدر الله وقضائه أن يعذب كل ذي جرم على جرمه ليعذبني الله على إجرامي وذنوبي عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين غيري. وحديثه خرجه الأئمة في الموطأ وغيره. والرجل كان مؤمنا موحدا. وقد جاء في بعض طرقه (لم يعمل خيرا إلا التوحيد) وقد قال حين قال الله تعالى: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب. والخشية لا تكون إلا لمؤمن مصدق؛ قال الله تعالى{إنما يخشى الله من عباده العلماء{. [فاطر: 28]. وقد قيل: إن معنى {فظن أن لن نقدر عليه{ الاستفهام وتقديره: أفظن، فحذف ألف الاستفهام إيجازا؛ وهو قول سليمان {أبو{ المعتمر. وحكى القاضي منذر بن سعيد: أن بعضهم قرأ {أفظن{ بالألف.
قوله تعالى{فنادى في الظلمات{ اختلف العلماء في جمع الظلمات ما المراد به، فقالت فرقة منهم ابن عباس وقتادة: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال قال: لما ابتلع الحوت يونس عليه السلام أهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس تسبيح الحصى فنادى في الظلمات ظلمات ثلاث: ظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل، وظلمة البحر {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين{ {فنبذناه بالعراء وهو سقيم}الصافات: 145] كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. وقالت فرقة منهم سالم بن أبي الجعد: ظلمة البحر، وظلمة حوت التقم الحوت الأول. ويصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط؛ كما قال{في غيابة الجب}يوسف: 10] وفي كل جهاته ظلمة فجمعها سائغ. وذكر الماوردي: أنه يحتمل أن يعبر بالظلمات عن ظلمة الخطيئة، وظلمة الشدة، وظلمة الوحدة. وروي: أن الله تعالى أوحى إلى الحوت{لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنه ولم أجعله طعامك{ وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر. وذكر ابن أبي الدنيا حدثنا العباس بن يزيد العبدي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن سعيد بن أبي الحسن قال: لما التقم الحوت يونس عليه السلام ظن أنه قد مات فطول رجليه فإذا هو لم يمت فقام إلى عادته يصلي فقال في دعائه{واتخذت لك مسجدا حيث لم يتخذه أحد{. وقال أبو المعالي: قوله صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى) المعنى فإني لم أكن وأنا في سدرة المنتهى بأقرب إلى الله منه، وهو في قعر البحر في بطن الحوت. وهذا يدل على أن الباري سبحانه وتعالى ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في {البقرة{ و{الأعراف{. {أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين{ يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل: في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان؛ ذكره الماوردي. وقيل: من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه: نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء{ربنا ظلمنا أنفسنا}الأعراف: 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.
روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعاء ذي النون في بطن الحوت{ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين{ لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له) وقد قيل: إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر: في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه، وهو قوله{وكذلك ننجي المؤمنين{ وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله{إني كنت من الظالمين{ فاعترف بالظلم فكان تلويحا.
قوله تعالى{وكذلك ننجي المؤمنين{ أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله{فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}الصافات: 143 - 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبده يونس رعى له حق تعبده، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق: صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون، فما ظنك بعيد عبده سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {من الغم{ أي من بطن الحوت. قوله تعالى{وكذلك ننجي المؤمنين{ قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجي{ بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين؛ كما تقول: ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد:
ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن {وذروا ما بقي من الربا}البقرة: 278] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد:
خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا
سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب؛ أي وحدا المشيب البعير؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا: هو لحن؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله؛ وإنما يقال: نجي المؤمنون. كما يقال: كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا؛ لأنه لا فائدة [فيه] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس: وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها، ولا يجوز في {من جاء بالحسنة{ {مجاء بالحسنة{ قال النحاس: ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال: الأصل ننجي فحذف إحدى النونين؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل{ولا تفرقوا}آل عمران: 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية {وكذلك نجى المؤمنين{ أي نجى الله المؤمنين؛ وهي حسنة.
الآية رقم ( 89 : 90 )
{وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين، فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}
قوله تعالى{وزكريا إذ نادى ربه{ أي واذكر زكريا. وقد تقدم في {آل عمران{ ذكره. {رب لا تذرني فردا{ أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. {وأنت خير الوارثين{ أي خير من يبقي بعد كل من يموت؛ وإنما قال {وأنت خير الوارثين{ لما تقدم من قوله{يرثني}مريم: 6] أي أعلم أنك، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي. كما تقدم في {مريم{ بيانه.
قوله تعالى{فاستجبنا له{ أي أجبنا دعاءه{ووهبنا له يحيى{. تقدم. {وأصلحنا له زوجه{ قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين: إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء: كانت سيئة الخلق، طويلة اللسان، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق.
قلت: ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. {إنهم{ يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات{ وقيل: الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى.
قوله تعالى{ويدعوننا رغبا ورهبا{ أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل: المعنى يدعون وقت تعبدهم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل: الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء، والرهب رفع ظهورها؛ قاله خصيف؛ وقال ابن عطية: وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه.
روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في {الأعراف{ الاختلاف في رفع الأيدي، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يد بباطن كفيه؛ وعن أنس مثله، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم). وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري؛ قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال: إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس: إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و{رغبا ورهبا{ منصوبان على المصدر؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف {ويدعونا{ بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا {رغبا ورهبا{ بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. {وكانوا لنا خاشعين{ أي متواضعين خاضعين.
الآية رقم ( 91 )
{والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين}
قوله تعالى{والتي أحصنت فرجها{ أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال{وجعلناها وابنها آيه للعالمين{ ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين. وقال الزجاج: إن الآية فيهما واحدة؛ لأنها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير: وجعلنا آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف. وعلى مذهب الفراء: وجعلناها آية للعالمين وابنها؛ مثل قوله جل ثناؤه{والله ورسوله أحق أن يرضوه{. وقيل: إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد. ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيدة. وقيل: إنها لم تلقم ثديا قط. و{أحصنت{ يعني عفت فامتنعت من الفاحشة. وقيل: إن المراد بالفرج فرج القميص؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة؛ أي إنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل. قال السهيلي: فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى، وأوزن لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس. {فنفخنا فيها من روحنا{ يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها. وقد مضى هذا في {النساء{ و{مريم{ فلا معنى للإعادة. {آية{ أي علامة وأعجوبة للخلق، وعلما لنبوة عيسى، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
الآية رقم ( 92 )
{إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}
قوله تعالى{إن هذه أمتكم أمة واحدة{ لما ذكر الأنبياء قال: هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد؛ فالأمة هنا بمعنى الدين الذي هو الإسلام؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. فأما المشركون فقد خالفوا الكل. {وأنا ربكم{ أي إلهكم وحدي. {فاعبدوني{ أي أفردوني بالعبادة. وقرأ عيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق{إن هذه أمتكم أمة واحدة{ ورواها حسين عن أبي عمرو. الباقون {أمة واحدة{ بالنصب على القطع بمجيء النكرة بعد تمام الكلام؛ قال الفراء. الزجاج: انتصب {أمة{ على الحال؛ أي في حال اجتماعها على الحق؛ أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق؛ وهو كما تقول: فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي. وأما الرفع فيجوز أن يكون على البدل من {أمتكم{ أو على إضمار مبتدأ؛ أي إن هذه أمتكم، هذه أمة واحدة. أو يكون خبرا بعد خبر. ولو نصبت {أمتكم{ على البدل من {هذه{ لجاز ويكون {أمة واجدة{ خبر {إن{.
الآية رقم ( 93 : 94 )
{وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون، فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون}
قوله تعالى{وتقطعوا أمرهم بينهم{ أي تفرقوا في الدين؛ قال الكلبي. الأخفش: اختلفوا فيه. والمراد المشركون؛ ذمهم لمخالفة الحق، واتخاذهم آلهة من دون الله. قال الأزهري: أي تفرقوا في أمرهم؛ فنصب {أمرهم{ بحذف {في{. فالمتقطع على هذا لازم وعلى الأول متعد. والمراد جميع الخلق؛ أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم، فمن موحد، ومن يهودي، ومن نصراني، ومن عابد ملك أو صنم. {كل إلينا راجعون{ أي إلى حكمنا فنجازيهم.
قوله تعالى{فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن{ {من{ للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها؛ فالمعنى: من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن عباس: مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم. {فلا كفران لسعيه{ أي لا جحود لعمله، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الإيمان. والكفر أيضا جحود النعمة، وهو ضد الشكر. وقد كفره كفورا وكفرانا. وفي ابن مسعود {فلا كفر لسعيه{. {وإنا له كاتبون{ لعمله حافظون. نظيره {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى}آل عمران: 195] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به.
الآية رقم ( 95 : 97 )
{وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين}
قوله تعالى{وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون{ قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة {وحرام{ وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وأهل الكوفة {وحرم{ ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. وهما مثل حل وحلال. وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير {وحرم{ بفتح الحاء والميم وكسر الراء. وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي العالية {وحرم{ بضم الراء وفتح الحاء والميم. وعن ابن عباس أيضا {وحرم{ وعنه أيضا {وحرم{، {وحرم{. وعن عكرمة أيضا {وحرم{. عن قتادة ومطر الوارق {وحرم{ تسع قراءات. وقرأ السلمي {على قرية أهلكتها{. واختلف في {لا{ في {لا يرجعون{ فقيل: هي صلة؛ روي ذلك عن ابن عباس، واختاره أبو عبيد؛ أي وحرام قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل: ليست بصلة، وإنما هي ثابتة ويكون الحرام بمعنى الواجب؛ أي وجب على قرية؛ كما قالت الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على صخر
تريد أخاها؛ فــ {لا{ ثابتة على هذا القول. قال النحاس: والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس في قول الله عز وجل{وحرام على قرية أهلكناها{ قال: وجب انهم لا يرجعون؛ قال: لا يتوبون. قال أبو جعفر: واشتقاق هذا بين في اللغة، وشرحه: أن معنى حرم الشيء حظر ومنع منه، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه، فإذا كان {حرام{ و{حرم{ بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا؛ فأما قول أبي عبيدة: إن {لا{ زائدة فقد رده عليه جماعة؛ لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع، ولا فيما يقع فيه إشكال، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا؛ لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم. وقيل: في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون؛ قال الزجاج وأبو علي؛ و{لا{ غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس.
قوله تعالى{حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج{ تقدم القول فيهم. وفي الكلام حذف، أي حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، مثل {واسأل القرية}يوسف: 82]. {وهم من كل حدب ينسلون{ قال ابن عباس: من كل شرف يقبلون؛ أي لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. والحدب ما ارتفع من الأرض، والجمع الحداب مأخوذ من حدبة الظهر؛ قال عنترة:
فما رعشت يداي ولا ازدهاني تواترهم إلي إلي من الحداب
وقيل{ينسلون{ يخرجون؛ ومنه قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقيل: يسرعون؛ ومنه قول النابغة:
عسلان الذئب أمسى قاربا برد الليل عليه فنسل
يقال: عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع. وفي الحديث: (كذب عليك العسل) أي عليك بسرعة المشي. وقال الزجاج: والنسلان مشية الذئب إذا أسرع؛ يقال: نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا؛ أي أسرع. ثم قيل في الذين ينسلون من كل حدب: إنهم يأجوج ومأجوج، وهو الأظهر؛ وهو قول ابن مسعود وابن عباس. وقيل: جميع الخلق؛ فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف، وهم يسرعون من كل صوب. وقرئ في الشواذ {وهم من كل جدث ينسلون{ أخذا من قوله{فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون}يس: 51]. وحكى هذه القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء.
قوله تعالى{واقترب الوعد الحق{ يعني القيامة. وقال الفراء والكسائي وغيرهما: الواو زائدة مقحمة؛ والمعنى: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق {فاقترب{ جواب {إذا{. وأنشد الفراء:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى، والواو زائدة؛ ومنه قوله تعالى{وتله للجبين. وناديناه}الصافات: 103 - 104] أي للجبين ناديناه. وأجاز الكسائي أن يكون جواب {إذا{ {فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا{ ويكون قوله{واقترب الوعد الحق{ معطوفا على الفعل الذي هو شرط. وقال البصريون: الجواب محذوف والتقدير: قالوا يا ويلنا؛ وهو قول الزجاج، وهو قول حسن. قال الله تعالى{والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}الزمر: 3] المعنى: قالوا ما نعبدهم، وحذف القول كثير. {فإذا هي شاخصة{ {هي{ ضمير الأبصار، والأبصار المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال: فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجيء الوعد. وقال الشاعر:
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها. وقال الفراء{هي{ عماد، مثل {فإنها لا تعمى الأبصار}الحج: 46]. وقيل: إن الكلام تم قول {هي{ التقدير: فإذا هي؛ بمعنى القيامة بارزة واقعة؛ أي من قربها كأنها آتية حاضرة ابتداء فقال{أبصار الذين كفروا{ على تقديم الخبر على الابتداء؛ أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا اليوم؛ أي من هوله لا تكاد تطرف؛ يقولون: يا ويلنا إنا كنا ظالمين ووضعنا العبادة في غير موضعها.
الآية رقم ( 98 )
{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون}
قوله تعالى{إنكم وما تعبدون{ قال ابن عباس: آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها، أو جهلوها فلا يسألون عنها؛ فقيل: وما هي؟ قال{إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون{ لما أنزلت شق على كفار قريش، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه، فقال: لو حضرته لرددت عليه. قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم؛ فأنزل الله تعالى{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون}الأنبياء: 101] وفيه نزل {ولما ضرب ابن مريم مثلا}الزخرف: 57] يعني ابن الزبعرى {إذا قومك منه يصدون}الزخرف: 57] بكسر الصاد؛ أي يضجون؛ وسيأتي.
هذه الآية أصل القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة، خلافا لمن قال: ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها؛ فهذا عبدالله بن الزبعرى قد فهم {ما{ في جاهليته جميع من عبد، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء، واللسن البلغاء، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح.
قراءة العامة بالمهملة أي إنكم يا معشر الكفار والأوثان التي تعبدونها من دون الله وقود جهنم؛ قال ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة: حطبها. وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما {حطمت جهنم{ بالطاء. وقرأ ابن عباس {حضب{ بالضاد المعجمة؛ قال الفراء: يريد الحصب. قال: وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب، وكل ما هيجت به النار وأوقدتها به فهو حضب؛ ذكره الجوهري. والموقد محضب. وقال أبو عبيدة في قوله تعالى{حصب جهنم{ كل ما ألقيته في النار فقد حصبتها به. ويظهر من هذه الآية أن الناس من الكفار وما يعبدون من الأصنام حطب لجهنم. ونظير هذه الآية قوله تعالى{فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة}البقرة: 24]. وقيل: إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت؛ على ما تقدم في {البقرة{ وأن النار لا تكون على الأصنام عذابا ولا عقوبة؛ لأنها لم تذنب، ولكن تكون عذابا على من عبدها: أول شيء بالحسرة، ثم تجمع على النار فتكون نارها أشد من كل نار، ثم يعذبون بها. وقيل: تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم وقيل: إنما جعلت في النار تبكيتا لعبادتهم.
قوله تعالى{أنتم لها واردون{ أي فيها داخلون. والخطاب للمشركين عبده الأصنام؛ أي أنتم واردوها مع الأصنام. ويجوز أن يقال: الخطاب للأصنام وعبدتها؛ لأن الأصنام وإن كانت جمادات فقد يخبر عنها بكنايات الآدميين. وقال العلماء: لا يدخل في هذا عيسى ولا عزير ولا الملائكة صلوات الله عليهم؛ لأن {ما{ لغير الآدميين. فلو أراد ذلك لقال{ومن{. قال الزجاج: ولأن المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم.
الآية رقم ( 99 : 100 )
{لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون، لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون}
قوله تعالى{لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها{ أي لو كانت الأصنام آلهة لما ورد عابدوها النار. وقيل: ما وردها العابدون والمعبودون؛ ولهذا قال{وكل فيها خالدون{.
قوله تعالى{لهم فيها زفير{ أي لهؤلاء الذين وردوا النار من الكفار والشياطين؛ فأما الأصنام فعلى الخلاف فيها؛ هل يحييها الله تعالى ويعذبها حتى يكون لها زفير أو لا؟ قولان: والزفير صوت نفس المغموم يخرج من القلب. وقد تقدم في {هود{. {وهم فيها لا يسمعون{ قيل: في الكلام حذف؛ والمعنى وهم فيها لا يسمعون شيئا؛ لأنهم يحشرون صما، كما قال الله تعالى{ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما}الإسراء: 97]. وفي سماع الأشياء روح وأنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار. وقيل: لا يسمعون ما يسرهم، بل يسمعون صوت من يتولى تعذيبهم من الزبانية. وقيل: إذا قيل لهم {اخسئوا فيها ولا تكلمون}المؤمنون: 108] يصيرون حينئذ صما بكما؛ كما قال ابن مسعود: إذا بقي من يخلد في النار في جهنم جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يسمعون شيئا، ولا يرى أحد منهم أن في النار من يعذب غيره.
الآية رقم ( 101 : 103 )
{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون}
قوله تعالى{إن الذين سبقت لهم منا الحسنى{ أي الجنة {أولئك عنها{ أي عن النار. {مبعدون{ فمعنى الكلام الاستثناء؛ ولهذا قال بعض أهل العلم{إن{ ههنا بمعنى {إلا{ وليس في القرآن غيره. وقال محمد بن حاطب: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ هذه الآية على المنبر {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى{ فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عثمان منهم).
قوله تعالى{لا يسمعون حسيسها{ أي حس النار وحركة لهبها. والحسيس والحس الحركة. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري لابن عباس{لا يسمعون حسيسها{ فقال ابن عباس: أمجنون أنت؟ فأين قوله تعالى{وإن منكم إلا واردها{ وقوله تعالى{فأوردهم النار}هود: 98] وقوله{إلى جهنم وردا}مريم: 86]. ولقد كان من دعاء من مضى: اللهم أخرجني من النار سالما، وأدخلني الجنة فائزا. وقال أبو عثمان النهدي: على الصراط حيات تلسع أهل النار فيقولون: حس حس. وقيل: إذا دخل أهل الجنة لم يسمعوا حس أهل النار وقبل ذلك يسمعون؛ فالله أعلم. {وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون{ أي دائمون وهم فيما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقال {ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون}فصلت: 31].
قوله تعالى{لا يحزنهم الفزع الأكبر{ وقرأ أبو جعفر وابن محيصن {لا يحزنهم{ بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتح الياء وضم الزاي. قال اليزيدي: حزنه لغة قريش، وأحزنه لغة تميم، وقد قرئ بهما. والفزع الأكبر أهوال يوم القيامة والبعث؛ عن ابن عباس. وقال الحسن: هو وقت يؤمر بالعباد إلى النار. وقال ابن جريح وسعيد بن جبير والضحاك: هو إذا أطبقت النار على أهلها، وذبح الموت بين الجنة والنار وقال ذو النون المصري: هو القطيعة والفراق. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يوم القيامة في كثيب من المسك الأذفر ولا يحزنهم الفزع الأكبر رجل أم قوما محتسبا وهم له رضوان ورجل أذن لقوم محتسبا ورجل ابتلى برق الدنيا فلم يشغله عن طاعة ربه). وقال أبو سلمة بن عبدالرحمن: مررت برجل يضرب غلاما له، فأشار إليّ الغلام، فكلمت مولاه حتى عفا عنه؛ فلقيت أبا سعيد الخدري فأخبرته، فقال: يا ابن أخي من أغاث مكروبا أعتقه الله من النار يوم الفزع الأكبر) سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. {وتتلقاهم الملائكة{ أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم ويقولون لهم{هذا يومكم الذي كنتم توعدون{ وقيل: تستقبلهم ملائكة الرحمة عند خروجهم من القبور عن ابن عباس {هذا يومكم{ أي ويقولون لهم؛ فحذف. {الذي كنتم توعدون{ فيه الكرامة.
الآية رقم ( 104 )
{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين}
قوله تعالى{يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب{ قرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والأعرج والزهري {تُطوى{ بتاء مضمومة {السماء{ رفعا على ما لم يسم فاعله. مجاهد {يطوي{ على معنى يطوي الله السماء. الباقون {نطوي{ بنون العظمة. وانتصاب {يوم{ على البدل من الهاء المحذوفة في الصلة؛ التقدير: الذي كنتم توعدونه يوم نطوي السماء. أو يكون منصوبا بـ {نعيد{ من قول {كما بدأنا أول خلق نعيده{. أو بقول{لا يحزنهم{ أي لا يحزنهم الفزع الأكبر في اليوم الذي نطوي فيه السماء. أو على إضمار واذكر، وأراد بالسماء الجنس؛ دليله{والسموات مطويات بيمنه}الزمر: 67]. {كطي السجل للكتاب{ قال ابن عباس ومجاهد: أي كطي الصحيفة على ما فيها؛ فاللام بمعنى {على{. وعن ابن عباس أيضا اسم كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بالقوي؛ لأن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفون ليس هذا منهم، ولا في أصحابه من اسمه السجل. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر والسدي{السجل{ ملك، وهو الذي يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه. ويقال: إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه أعمال العباد، يرفعها إليه الحفظة الموكلون بالخلق في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه فيما ذكروا هاروت وماروت. والسجل الصك، وهو اسم مشتق من السجالة وهي الكتابة؛ وأصلها من السجل وهو الدلو؛ تقول: ساجلت الرجل إذا نزعت دلوا ونزع دلوا، ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة. وقد سجل الحاكم تسجيلا. وقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
من يساجلني يساجل ماجدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم بني هذا الاسم على فعل مثل حمر وطمر وبلي. وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير {كطي السجل{ بضم السين والجيم وتشديد اللام. وقرأ الأعمش وطلحة {كطي السجل{ بفتح السين وإسكان الجيم وتخفيف اللام. قال النحاس: والمعنى واحد إن شاء الله تعالى. والتمام عند قوله{للكتاب{. والطي في هذه الآية يحتمل معنيين: أحدهما: الدرج الذي هو ضد النشر، قال الله تعالى{والسموات مطويات بيمينه}الزمر: 67]. والثاني: الإخفاء والتعمية والمحو؛ لأن الله تعالى يمحو ويطمس رسومها ويكدر نجومها. قال الله تعالى{إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت}التكوير: 1 - 2] {وإذا السماء كشطت}التكوير: 11]. {للكتاب{ وتم الكلام. وقراءة الأعمش وحفص وحمزة والكسائي ويحي وخلف{للكتب{ جمعا ثم استأنف الكلام فقال{كما بدأنا أول خلق نعيده{ أي نحشرهم حفاة عراة غرلا كما بدؤوا في البطون. وروى النسائي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الناس يوم القيامة عراة غرلا أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام - ثم قرأ - {كما بدأنا أول خلق نعيده{ أخرجه مسلم أيضا عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا {كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين{ ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام) وذكر الحديث. وقد ذكرنا هذا الباب في كتاب {التذكرة{ مستوفى. وذكر سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن عبدالله بن مسعود قال: يرسل الله عز وجل ماء من تحت العرش كمني الرجال فتنبت منه لحمانهم وجسمانهم كما تنبت الأرض بالثرى. وقرأ {كما بدأنا أول خلق نعيده{. وقال ابن عباس: المعنى. نهلك كل شيء ونفنيه كما كان أول مرة؛ وعلى هذا فالكلام متصل بقوله{يوم نطوي السماء{ أي نطويها فنعيدها إلى الهلاك والفناء فلا تكون شيئا. وقيل: نفني السماء ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها؛ كقول{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات}إبراهيم: 48] والقول الأول أصح وهو نظير قوله{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}الأنعام: 94] وقوله عز وجل{وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة{ {وعدا{ نصب على المصدر؛ أي وعدنا وعدا {علينا{ إنجازه والوفاء به أي من البعث والإعادة ففي الكلام حذف. ثم أكد ذلك بقول جل ثناؤه{إنا كنا فاعلين{ قال الزجاج: معنى {إنا كنا فاعلين{ إنا كنا قادرين على ما نشاء. وقيل {إنا كنا فاعلين{ أي ما وعدناكم وهو كما قال{كان وعده مفعولا}المزمل: 18]. وقيل{كان{ للإخبار بما سبق من قضائه. وقيل: صلة.
الآية رقم ( 105 : 106 )
{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين}
قوله تعالى{ولقد كتبنا في الزبور{ الزبور والكتاب واحد؛ ولذلك جاز أن يقال للتوراة والإنجيل زبور. زبرت أي كتبت وجمعة زبر. وقال سعيد بن جبير{الزبور{ التوراة والإنجيل والقرآن. {من بعد الذكر{ الذي في السماء {أن الأرض{ أرض الجنة {يرثها عبادي الصالحون{ رواه سفيان عن الأعمش عن سعيد بن جبير. الشعبي{الزبور{ زبور داود، و{الذكر{ توراة موسى عليه السلام. مجاهد وابن زيد {الزبور{ كتب الأنبياء عليهم السلام، و{الذكر{ أم الكتاب الذي عند الله في السماء. وقال ابن عباس{الزبور{ الكتب التي أنزلها الله من بعد موسى على أنبيائه، و{الذكر{ التوراة المنزلة على موسى. وقرأ حمزة {في الزبور{ بضم الزاي جمع زبر {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون{ أحسن ما قيل فيه أنه يراد بها أرض الجنة كما قال سعيد بن جبير؛ لأن الأرض في الدنيا قال قد يرثها الصالحون وغيرهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال مجاهد وأبو العالية: ودليل هذا التأويل قوله تعالى{وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض}الزمر: 74] وعن ابن عباس أنها الأرض المقدسة. وعنه أيضا: أنها أرض الأمم الكافرة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالفتوح. وقيل: إن المراد بذلك بنو إسرائيل؛ بدليل قوله تعالى{وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها}الأعراف: 137] وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ حمزة {عبادي الصالحون{ بتسكين الياء. {إن في هذا{ أي فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه. وقيل: إن في القرآن {لبلاغا لقوم عابدين{ قال أبو هريرة وسفيان الثوري: هم أهل الصلوات الخمس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما{عابدين{ مطيعين. والعابد المتذلل الخاضع. قال القشيري: ولا يبعد أن يدخل فيه كل عاقل؛ لأنه من حيث الفطرة متذلل للخالق، وهو بحيث لو تأمل القرآن واستعمله لأوصله ذلك إلى الجنة. وقال ابن عباس أيضا: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يصلون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان. وهذا هو القول الأول بعينه.
الآية رقم ( 107 : 109 )
{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون}
قوله تعالى{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ قال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد، ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق. وقال ابن زيد: أراد بالعالمين المؤمنين خاصة.
قوله تعالى{قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد{ فلا يجوز الإشراك به. {فهل أنتم مسلمون{ أي منقادون لتوحيد الله تعالى؛ أي فأسلموا؛ كقوله تعالى{فهل أنتم منتهون}المائدة: 91] أي انتهوا.
قوله تعالى{فإن تولوا{ أي إن أعرضوا عن الإسلام {فقل آذنتكم على سواء{ أي أعلمتكم على بيان أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا؛ كقوله تعالى{وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء}الأنفال: 58] أي أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا، أي استويت أنت وهم فليس لفريق عهد ملتزم في حق الفريق الآخر. وقال الزجاج: المعنى أعلمتكم بما يوحى إلي على استواء في العلم به، ولم أظهر لأحد شيئا كتمته عن غيره. {وإن أدري{ {إن{ نافيه بمعنى {ما{ أي وما أدري. {أقريب أم بعيد ما توعدون{ يعني أجل يوم القيامة لا يدريه أحد لا نبي مرسل ولا ملك مقرب؛ قاله ابن عباس. وقيل: آذنتكم بالحرب ولكني لا أدري متى يؤذن لي في محاربتكم.
الآية رقم ( 110 : 112 )
{إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}
قوله تعالى{إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون{ أي من الشرك وهو المجازي عليه. {وإن أدري لعله{ أي لعل الإمهال {فتنة لكم{ أي اختبار ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم. {ومتاع إلى حين{ قيل: إلى انقضاء المدة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بني أمية في منامه يلون الناس، فخرج الحكم من عنده فأخبر بني أمية بذلك؛ فقالوا له: ارجع فسله متى يكون دلك. فأنزل الله تعالى {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون{ {وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين{ يقول لنبيه عليه السلام قل لهم ذلك.
قوله تعالى{قال رب احكم بالحق{ ختم السورة بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إليه وتوقع الفرج من عنده، أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وانصرني عليهم. روى سعيد عن قتادة قال: كانت الأنبياء تقول{ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق}الأعراف: 89] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول{رب احكم بالحق{ فكان إذا لقي العدو يقول وهو يعلم أنه على الحق وعدوه على الباطل {رب احكم بالحق{ أي اقض به. وقال أبو عبيدة: الصفة ههنا أقيمت مقام الموصوف والتقدير: رب احكم بحكمك الحق. و{رب{ في موضع نصب، لأنه نداء مضاف. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن {قل ربُّ احكم بالحق{ بضم الباء. قال النحاس: وهذا لحن عند النحويين؛ لا يجوز عندهم رجل أقبل، حتى تقول يا رجل أقبل أو ما أشبهه. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب {قال ربي أَحكَم بالحق{ بقطع الألف مفتوحة الكاف والميم مضمومة. أي قال محمد ربي أحكم بالحق من كل حاكم. وقرأ الجحدري {قل ربي أحكم{ على معنى أحكم الأمور بالحق. {وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون{ أي تصفونه من الكفر والتكذيب. وقرأ المفضل والسلمي {على ما يصفون{ بالياء على الخبر. الباقون بالتاء على الخطاب.