الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: [تَعْرِيفُ الْفَقْرِ]: قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ.الْفَقْرُ تَعْرِيفُ الْفَقْرِ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْمَلَكَةِ.عَدَلَ الشَّيْخُ عَنْ لَفْظِ عَدَمِ الْمَلَكَةِ إِلَى قَوْلِهِ: الْبَرَاءَةُ مِنَ الْمَلَكَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَلَكَةِ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكُلِّ أَحَدٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمَالِكُ حَقِيقَةً. فَعَدَمُ الْمَلَكَةِ: أَمْرٌ ثَابِتٌ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ لِذَاتِهِ. وَالْكَلَامُ فِي الْفَقْرِ الَّذِي يُمْدَحُ بِهِ صَاحِبُهُ: هُوَ فَقْرُ الِاخْتِيَارِ. وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْفَقْرِ. وَهُوَ بَرَاءَةُ الْعَبْدِ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُ مَالِكَهُ الْحَقَّ.وَلَمَّا كَانَتْ نَفْسُ الْإِنْسَانِ لَيْسَتْ لَهُ. وَإِنَّمَا هِيَ مِلْكٌ لِلَّهِ. فَمَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا وَيُسَلِّمْهَا لِمَالِكِهَا الْحَقُّ: لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي الْفَقْرِ قَدَمٌ. فَلِذَلِكَ كَانَ أَوَّلَ قَدَمِ الْفَقْرِ: الْخُرُوجُ عَنِ النَّفْسِ وَتَسْلِيمُهَا لِمَالِكِهَا وَمَوْلَاهَا. فَلَا يُخَاصِمُ لَهَا وَلَا يَتَوَكَّلُ لَهَا وَلَا يُحَاجِجُ عَنْهَا وَلَا يَنْتَصِرُ لَهَا، بَلْ يُفَوِّضُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا وَسَيِّدِهَا.قَالَ بُنْدَارُ بْنُ الْحُسَيْنِ: لَا تُخَاصِمْ لِنَفْسِكَ. فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ. دَعْهَا لِمَالِكِهَا يَفْعَلُ بِهَا مَا يُرِيدُ.وَقَدْ أَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا وُصُولَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْفَقْرِ. وَلَا دُخُولَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ بَابِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْفَقْرِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى فَقْرُ الزُّهَّادِ]: قَالَ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْفَقْرِ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: فَقْرُ الزُّهَّادِ. وَهُوَ قَبْضُ الْيَدِ عَنْ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا. وَإِسْكَاتُ اللِّسَانِ عَنْهَا مَدْحًا أَوْ ذَمًّا. وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا طَلَبًا أَوْ تَرْكًا. وَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ.الدُّنْيَا عِنْدَ الْقَوْمِ: مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمَالِ، وَالْجَاهِ، وَالصُّوَرِ، وَالْمَرَاتِبِ.وَاخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ. حَكَاهُمَا أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي مَقَالَاتِهِ.أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا اسْمٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ هَذَا الْعَالَمِ.وَالثَّانِي: أَنَّهَا اسْمٌ لِمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَمَا فَوْقَ السَّمَاءِ لَيْسَ مِنَ الدُّنْيَا. وَمَا تَحْتَ الْأَرْضِ لَيْسَ مِنْهَا.فَعَلَى الْأَوَّلِ: تَكُونُ الدُّنْيَا زَمَانًا. وَعَلَى الثَّانِي: تَكُونُ مَكَانًا.وَلَمَّا كَانَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْجَوَارِحِ وَالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، كَانَ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ: تَعْطِيلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَنْ تَعَلُّقِهَا بِهَا وَسَلْبِهَا مِنْهَا. فَلِذَلِكَ قَالَ قَبْضُ الْيَدِ عَنِ الدُّنْيَا ضَبْطًا أَوْ طَلَبًا.يَعْنِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنْ إِمْسَاكِهَا إِذَا حَصَلَتْ لَهُ. فَإِذَا قَبَضَ يَدَهُ عَنِ الْإِمْسَاكِ جَادَ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ حَاصِلَةٍ لَهُ كَفَّ يَدَهُ عَنْ طَلَبِهَا. فَلَا يَطْلُبُ مَعْدُومَهَا. وَلَا يَبْخَلُ بِمَوْجُودِهَا.وَأَمَّا تَعْطِيلُهَا عَنِ اللِّسَانِ:فَهُوَ أَنْ لَا يَمْدَحَهَا وَلَا يَذُمَّهَا. فَإِنَّ اشْتِغَالَهُ بِمَدْحِهَا أَوْ ذَمِّهَا دَلِيلٌ عَلَى مَحَبَّتِهَا وَرَغْبَتِهِ فِيهَا. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ. وَإِنَّمَا اشْتَغَلَ بِذَمِّهَا حَيْثُ فَاتَتْهُ. كَمَنْ طَلَبَ الْعُنْقُودَ فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَ حَامِضٌ. وَلَا يَتَصَدَّى لِذَمِّ الدُّنْيَا إِلَّا رَاغِبٌ مُحِبٌّ مُفَارِقٌ. فَالْوَاصِلُ مَادِحٌ. وَالْمُفَارِقُ ذَامٌّ.وَأَمَّا تَعْطِيلُ الْقَلْبِ مِنْهَا فَبِالسَّلَامَةِ مِنْ آفَاتِ طَلَبِهَا وَتَرْكِهَا. فَإِنَّ لِتَرْكِهَا آفَاتٌ. وَلِطَلَبِهَا آفَاتٌ. وَالْفَقْرُ سَلَامَةُ الْقَلْبِ مِنْ آفَاتِ الطَّلَبِ وَالتَّرْكِ. بِحَيْثُ لَا يَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. لَا فِي طَلَبِهَا وَأَخْذِهَا وَلَا فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا.فَإِنْ قُلْتَ: عَرَفْتُ الْآفَةَ فِي أَخْذِهَا وَطَلَبِهَا. فَمَا وَجْهُ الْآفَةِ فِي تَرْكِهَا وَالرَّغْبَةِ عَنْهَا؟قُلْتُ: مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى:أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا تَرَكَهَا- وَهُوَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ- تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَا يُقِيمُهُ وَيُقِيتُهُ وَيُعَيِّشُهُ. وَمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. فَيَبْقَى فِي مُجَاهَدَةٍ شَدِيدَةٍ مَعَ نَفْسِهِ لِتَرْكِ مَعْلُوِمِهَا وَحَظِّهَا مِنَ الدُّنْيَا. وَهَذِهِ قِلَّةُ فِقْهٍ فِي الطَّرِيقِ، بَلِ الْفَقِيهُ الْعَارِفُ: يَرُدُّهَا عَنْهُ بِلُقْمَةٍ. كَمَا يَرُدُّ الْكَلْبَ إِذَا نَبَحَ عَلَيْهِ بِكِسْرَةٍ. وَلَا يَقْطَعُ زَمَانَهُ بِمُجَاهَدَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ، بَلْ أَعْطِهَا حَظَّهَا، وَطَالِبْهَا بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ.هَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ. وَهِيَ طَرِيقَةُ الْعَارِفِينَ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. وَلِضَيْفِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ».وَالْعَارِفُ الْبَصِيرُ يَجْعَلُ عِوَضَ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ فِي تَرْكِ شَهْوَةٍ مُبَاحَةٍ: مُجَاهَدَتَهُ لِأَعْدَاءِ اللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْقُلُوبِ. كَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ بَنِي الْعِلْمِ، وَبَنِي الْإِرَادَةِ، وَيَسْتَفْرِغُ قُوَاهُ فِي حَرْبِهِمْ وَمُجَاهَدَتِهِمْ. وَيَتَقَوَّى عَلَى حَرْبِهِمْ بِإِعْطَاءِ النَّفْسِ حَقَّهَا مِنَ الْمُبَاحِ. وَلَا يَشْتَغِلُ بِهَا.وَمِنْ آفَاتِ التَّرْكِ: تَطَلُّعُهُ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِذَا مَسَّتْهُ الْحَاجَةُ إِلَى مَا تَرَكَهُ، فَاسْتِدَامَتُهَا كَانَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ هَذَا التَّرْكِ.وَمِنْ آفَاتِ تَرْكِهَا، وَعَدَمِ أَخْذِهَا: مَا يُدَاخِلُهُ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالزَّهْوِ. وَهَذَا يُقَابِلُ الزُّهْدَ فِيهَا وَتَرْكَهَا. كَمَا أَنَّ كَسْرَةَ الْآخِذِ وَذِلَّتَهُ وَتَوَاضُعَهُ: يُقَابِلُ الْآخِذَ التَّارِكَ. فَفِي الْأَخْذِ آفَاتٌ. وَفِي التَّرْكِ آفَاتٌ.فَالْفَقْرُ الصَّحِيحُ: السَّلَامَةُ مِنْ آفَاتِ الْأَخْذِ وَالتَّرْكِ. وَهَذَا لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِفِقْهٍ فِي الْفَقْرِ.قَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا هُوَ الْفَقْرُ الَّذِي تَكَلَّمُوا فِي شَرَفِهِ.يَعْنِي تَكَلَّمَ فِيهِ أَرْبَابُ السُّلُوكِ. وَفَضَّلُوهُ وَمَدَحُوهُ..فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ]: قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى السَّبْقِ بِمُطَالَعَةِ الْفَضْلِ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَقْرِ. وَهُوَ يُورِثُ الْخَلَاصَ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ. وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ. وَيُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ.يُرِيدُ بِالرُّجُوعِ إِلَى السَّبْقِ: الِالْتِفَاتَ إِلَى مَا سَبَقَتْ بِهِ السَّابِقَةُ مِنَ اللَّهِ بِمُطَالَعَةِ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ وَجُودِهِ. وَأَنَّ الْعَبْدَ- وَكُلَّ مَا فِيهِ مِنْ خَيْرٍ- فَهُوَ مَحْضُ جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ ذَاتِهِ سِوَى الْعَدَمِ. وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَإِيمَانُهُ وَأَعْمَالُهُ كُلُّهَا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَإِذَا شَهِدَ هَذَا وَأَحْضَرَهُ قَلْبُهُ. وَتَحَقَّقَ بِهِ: خَلَّصَهُ مِنْ رُؤْيَةِ أَعْمَالِهِ. فَإِنَّهُ لَا يَرَاهَا إِلَّا مِنَ اللَّهِ وَبِاللَّهِ. وَلَيْسَتْ مِنْهُ هُوَ وَلَا بِهِ.وَاتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الطَّائِفَةِ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ الْأَعْمَالِ حِجَابٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ. وَيُخَلِّصُهُ مِنْهَا: شُهُودُ السَّبْقِ، وَمُطَالِعَةُ الْفَضْلِ.وَقَوْلُهُ: وَيَقْطَعُ شُهُودَ الْأَحْوَالِ.لِأَنَّهُ إِذَا طَالَعَ سَبْقَ فَضْلِ اللَّهِ: عَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ حَالٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَهُوَ مَحْضُ جُودِهِ. فَلَا يَشْهَدُ لَهُ حَالًا مَعَ اللَّهِ وَلَا مَقَامًا، كَمَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ عَمَلًا. فَقَدْ جَعَلَ عُدَّتَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ: فَقْرَهُ مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ. فَهُوَ لَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بِالْفَقْرِ الْمَحْضِ. فَالْفَقْرُ خَيْرُ الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالنِّسْبَةِ الَّتِي يَنْتَسِبُ بِهَا إِلَيْهِ، وَالْبَابُ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ عَلَيْهِ.وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يُمَحِّصُ مِنْ أَدْنَاسِ مُطَالَعَةِ الْمَقَامَاتِ.هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّخَلُّصِ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ، وَالِانْقِطَاعِ عَنْ رُؤْيَةِ شُهُودِ الْأَحْوَالِ، وَمُطَالِعَةُ الْمَقَامَاتِ: دَنَسٌ عِنْدَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ. فَمُطَالَعَةُ الْفَضْلِ يُمَحِّصُ مِنْ هَذَا الدَّنَسِ.وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْحَالِ وَالْمَقَامِ: أَنَّ الْحَالَ مَعْنًى يَرِدُ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ اجْتِلَابٍ لَهُ، وَلَا اكْتِسَابٍ، وَلَا تَعَمُّدٍ. وَالْمَقَامُ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهِ بِنَوْعِ كَسْبٍ وَطَلَبٍ.فَالْأَحْوَالُ عِنْدَهُمْ مَوَاهِبٌ، وَالْمَقَامَاتُ مَكَاسِبٌ. فَالْمَقَامُ يَحْصُلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ. وَأَمَّا الْحَالُ: فَمِنْ عَيْنِ الْجُودِ.وَلَمَّا دَخَلَ الْوَاسِطِيُّ نَيْسَابُورَ سَأَلَ أَصْحَابَ أَبِي عُثْمَانَ: بِمَاذَا كَانَ يَأْمُرُكُمْ شَيْخُكُمْ؟ فَقَالُوا: كَانَ يَأْمُرُ بِالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ، وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ فِيهَا. فَقَالَ: أَمَرَكُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ الْمَحْضَةِ. هَلَّا أَمَرَكُمْ بِالْغَيْبَةِ عَنْهَا بِرُؤْيَةِ مُنْشِئِهَا وَمُجْرِيهَا؟.قُلْتُ: لَمْ يَأْمُرْهُمْ أَبُو عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَنِيفِيَّةِ الْمَحْضَةِ. وَهِيَ الْقِيَامُ بِالْأَمْرِ وَمُطَالَعَةُ التَّقْصِيرِ فِيهِ. وَلَيْسَ فِي هَذَا مِنْ رَائِحَةِ الْمَجُوسِيَّةِ شَيْءٌ. فَإِنَّهُ إِذَا بَذَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ صَانَهُ ذَلِكَ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالشِّرْكِ. وَإِذَا شَهِدَ تَقْصِيرَهُ فِيهَا صَانَهُ عَنِ الْإِعْجَابِ. فَيَكُونُ قَائِمًا بِـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.وَأَمَّا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْوَاسِطِيُّ: فَمَشْهَدُ الْفَنَاءِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَشْهَدَ الْبَقَاءِ أَكْمَلُ. فَإِنَّ مَنْ غَابَ عَنْ طَاعَاتِهِ: لَمْ يَشْهَدْ تَقْصِيرَهُ فِيهَا. وَمِنْ تَمَامِ الْعُبُودِيَّةِ: شُهُودُ التَّقْصِيرِ. فَمَشْهَدُ أَبِي عُثْمَانَ أَتَمُّ مِنْ مَشْهَدِ الْوَاسِطِيِّ.وَأَبُو عُثْمَانَ هَذَا: هُوَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ النَّيْسَابُورِيُّ مِنْ جُلَّةِ شُيُوخِ الْقَوْمِ وَعَارِفِيهِمْ. وَكَانَ يُقَالُ: فِي الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ، لَا رَابِعَ لَهُمْ: أَبُو عُثْمَانَ النَّيْسَابُورِيُّ بِنَيْسَابُورَ، وَالْجُنَيْدُ بِبَغْدَادَ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْجَلَا بِالشَّامِ. وَلَهُ كَلَامٌ رَفِيعٌ عَالٍ فِي التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَكَانَ شَدِيدَ الْوَصِيَّةِ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَتَحْكِيمِهَا وَلُزُومِهَا. وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ مَزَّقَ ابْنُهُ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَهُوَ فِي السِّيَاقِ. فَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ، عَلَامَةُ رِيَاءٍ فِي الْبَاطِنِ..فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الِاضْطِرَارُ]: قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الِاضْطِرَارُ مِنْ دَرَجَاتِ الْفَقْرِ. وَالْوُقُوعُ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ. أَوْ الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ. وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ.الِاضْطِرَارُ: شُهُودُ كَمَالِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَاقَةُ عِلْمًا وَحَالًا.وَيُرِيدُ بِالْوُقُوعِ فِي يَدِ التَّقَطُّعِ الْوِجْدَانِيِّ: حَضْرَةَ الْجَمْعِ الَّتِي لَيْسَ عِنْدَهَا أَغْيَارٌ. فَهِيَ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، وَحْدَانِيَّةٌ فِي نَفْسِهَا. وَالْوُقُوعُ فِي يَدِهَا: الِاسْتِسْلَامُ وَالْإِذْعَانُ لَهَا. وَالدُّخُولُ فِي رِقِّهَا.وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ حَضْرَةَ الْجَمْعِ عِنْدَهُمْ: هِيَ شُهُودُ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَرُؤْيَتُهَا بِنُورِ الْكَشْفِ، حَيْثُ يَشْهَدُهَا مَنْشَأُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ. وَالْكَائِنَاتُ عَدَمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا.وَأَمَّا الِاحْتِبَاسُ فِي بَيْدَاءِ قَيْدِ التَّجْرِيدِ.فَهُوَ تَجْرِيدُ الْفَرْدَانِيَّةِ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهَا غَيْرَهَا، وَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ شُهُودِ السِّوَى.وَسُمِّيَ ذَلِكَ احْتِبَاسًا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ شُهُودِ الْأَغْيَارِ. وَجَعَلَ لِلتَّجْرِيدِ قَيْدًا. وَهُوَ التَّقَيُّدُ بِشُهُودِ الْحَقِيقَةِ.وَجَعَلَ الْقَيْدَ بَيْدَاءَ لِوَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَغْيَارَ تَبِيدُ فِيهِ وَتَنْعَدِمُ. وَلَا يَكُونُ مَعَهُ سِوَاهُ.وَالثَّانِي: لِسَعَتِهِ وَفَضَائِهِ. فَصَاحِبُ مَشْهَدِهِ: فِي بَيْدَاءَ وَاسِعَةٍ، وَإِنِ احْتُبِسَ فِي قَيْدِ شُهُودِهِ.وَقَوْلُهُ: وَهَذَا فَقْرُ الصُّوفِيَّةِ.قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ: أَنَّ التَّصَوُّفَ أَعْلَى عِنْدِهِ مِنَ الْفَقْرِ. فَإِنَّ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ- الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَقْرِ عِنْدَهُ- هِيَ مِنْ بَعْضِ مَقَامَاتِ الصُّوفِيَّةِ.وَطَائِفَةٌ تُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ، وَتَقُولُ: التَّصَوُّفُ دُونَ هَذَا الْمَقَامِ بِكَثِيرٍ. وَالتَّصَوُّفُ وَسِيلَةٌ إِلَى هَذَا الْفَقْرِ. فَإِنَّ التَّصَوُّفَ خُلُقٌ. وَهَذَا الْفَقْرُ حَقِيقَةٌ، وَغَايَةٌ لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا.وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْقَوْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَحَكَيْنَا فِيهَا ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، هَذَيْنِ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا تَتِمُّ حَقِيقَتُهُ إِلَّا بِالْآخَرِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّامِيِّينَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْغِنَى: وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْغِنَى الْعَالِي.وَهُوَ نَوْعَانِ: غِنًى بِاللَّهِ، وَغِنًى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، وَهُمَا حَقِيقَةُ الْفَقْرِ. وَلَكِنَّ أَرْبَابَ الطَّرِيقِ أَفْرَدُوا لِلْغِنَى مَنْزِلَةً.قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ: بَابُ الْغِنَى. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى}.وَفِي الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ بَعْدَ فَقْرِهِ: وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِقَوْلِهِ: عَائِلًا، وَالْعَائِلُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ. لَيْسَ ذَا الْعَيْلَةِ. فَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَرْضَاهُ بِمَا أَعْطَاهُ. وَأَغْنَاهُ بِهِ عَنْ سِوَاهُ. فَهُوَ غِنَى قَلْبٍ وَنَفْسٍ، لَا غِنَى مَالٍ. وَهُوَ حَقِيقَةُ الْغِنَى.وَالثَّالِثُ:- وَهُوَ الصَّحِيحُ- أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ: نَوْعَيِ الْغِنَى؛ فَأَغْنَى قَلْبَهُ بِهِ. وَأَغْنَاهُ مِنَ الْمَالِ.ثُمَّ قَالَ: الْغِنَى اسْمٌ لِلْمِلْكِ التَّامِّ.يَعْنِي أَنَّهُ مَنْ كَانَ مَالِكًا مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَيْسَ بِغَنِيٍّ. وَعَلَى هَذَا: فَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْغَنِيَّ بِالْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ..[دَرَجَاتُ الْغِنَى]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى غِنَى الْقَلْبِ]: قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْغِنَى. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: غِنَى الْقَلْبِ مِنْ دَرَجَاتِ الْغِنَى. وَهُوَ سَلَامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ. وَمُسَالَمَتُهُ لِلْحُكْمِ. وَخَلَاصُهُ مِنَ الْخُصُومَةِ.حَقِيقَةُ غِنَى الْقَلْبِ: تُعَلُّقَهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ. وَحَقِيقَةُ فَقْرِهِ الْمَذْمُومِ: تُعَلُّقُهُ بِغَيْرِهِ. فَإِذَا تَعَلَّقَ بِاللَّهِ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا.سَلَامَتُهُ مِنَ السَّبَبِ أَيْ مِنَ التَّعَلُّقِ بِهِ. لَا مِنَ الْقِيَامِ بِهِ. وَالْغِنَى عِنْدَ أَهْلِ الْغَفْلَةِ بِالسَّبَبِ. وَلِذَلِكَ قُلُوبُهُمْ مُعَلَّقَةٌ بِهِ. وَعِنْدَ الْعَارِفِينَ بِالْمُسَبِّبِ. وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَةُ وَالْقُوَّةُ. فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ: هِيَ جِهَاتُ الْغِنَى عِنْدَ النَّاسِ. وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ. وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَهُوَ غِنًى بِالشَّيْءِ. فَصَاحِبُهَا غَنِيٌّ بِهَا إِذَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ إِلَيْهَا. وَإِنْ كَانَ سُكُونُهُ إِلَى رَبِّهِ: فَهُوَ غَنِيٌّ بِهِ. وَكُلُّ مَا سَكَنَتِ النَّفْسُ إِلَيْهِ فَهِيَ فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ.وَأَمَّا مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ فَعَلَى نَوْعَيْنِ.أَحَدُهُمَا: مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ. وَهِيَ مُعَانَقَتُهُ وَمُوَافَقَتُهُ. ضِدَّ مُحَارَبَتِهِ.وَالثَّانِي: مُسَالَمَةُ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ. الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِدَفْعِهِ.وَفِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ نُكْتَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَهِيَ تَجْرِيدُ إِضَافَتِهِ وَنِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ صَدَرَ عَنْهُ، بِحَيْثُ لَا يَنْسُبُهُ إِلَى غَيْرِهِ.وَهَذَا يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ الرُّبُوبِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ. وَتَوْحِيدَ الْإِلَهِيَّةِ فِي مُسَالَمَةِ الْحُكْمِ الدِّينِيِّ. وَهُمَا حَقِيقَةُ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.وَأَمَّا الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ:فَإِنَّمَا يُحْمَدُ مِنْهُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ. وَأَمَّا إِذَا خَاصَمَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ: فَهَذَا مِنْ كَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهِ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ. وَبِكَ آمَنْتُ. وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ. وَبِكَ خَاصَمْتُ. وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ»..[الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ غِنَى النَّفْسِ]: قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ. غِنَى النَّفْسِ مِنْ دَرَجَاتِ الْغِنَى. وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ. وَسَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ. وَبَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ.جَعَلَ الشَّيْخُ: غِنَى النَّفْسِ فَوْقَ غِنَى الْقَلْبِ.وَمَعْلُومٌ: أَنَّ أُمُورَ الْقَلْبِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ أُمُورِ النَّفْسِ. لَكِنَّ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ نُكْتَةً لَطِيفَةً. وَهِيَ أَنَّ النَّفْسَ مِنْ جُنْدِ الْقَلْبِ وَرَعِيَّتِهِ. وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ جُنْدِهِ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَشِقَاقًا لَهُ. وَمِنْ قِبَلِهَا تَتَشَوَّشُ عَلَيْهِ الْمَمْلَكَةُ. وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُ. فَإِذَا حَصَلَ لَهُ كَمَالٌ بِالْغِنَى: لَمْ يَتِمَّ لَهُ إِلَّا بِغِنَاهَا أَيْضًا. فَإِنَّهَا مَتَى كَانَتْ فَقِيرَةً عَادَ حُكْمُ فَقْرِهَا عَلَيْهِ. وَتَشَوَّشَ عَلَيْهِ غِنَاهُ. فَكَانَ غِنَاهَا تَمَامًا لِغِنَاهُ وَكَمَالًا لَهُ. وَغِنَاهُ أَصْلًا بِغِنَاهَا. فَمِنْهُ يَصِلُ الْغِنَى إِلَيْهَا. وَمِنْهَا يَصِلُ الْفَقْرُ وَالضَّرَرُ وَالْعَنَتُ إِلَيْهِ.إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالشَّيْخُ جَعَلَ غِنَاهَا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:اسْتِقَامَتُهَا عَلَى الْمَرْغُوبِ وَهُوَ الْحَقُّ تَعَالَى. وَاسْتِقَامَتُهَا عَلَيْهِ: اسْتِدَامَةُ طَلَبِهِ. وَقَطْعُ الْمَنَازِلِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِ.الثَّانِي: سَلَامَتُهَا مِنَ الْحُظُوظِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ بِمَا سِوَى اللَّهِ.الثَّالِثُ: بَرَاءَتُهَا مِنَ الْمُرَاءَاةِ وَهِيَ إِرَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهَا وَأَقْوَالِهَا. فَمُرَاءَاتُهَا دَلِيلٌ عَلَى شِدَّةِ فَقْرِهَا. وَتَعَلُّقُهَا بِالْحُظُوظِ مِنْ فَقْرِهَا أَيْضًا.وَعَدَمُ اسْتِقَامَتِهَا عَلَى مَطْلُوبِهَا الْحَقَّ: أَيْضًا مِنْ فَقْرِهَا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِدَةٍ لِلَّهِ. إِذْ لَوْ وَجَدَتْهُ لَاسْتَقَامَتْ عَلَى السَّيْرِ إِلَيْهِ. وَلَقَطَعَتْ تَعَلُّقَاتِها وَحُظُوظَهَا مِنْ غَيْرِهِ. وَلَمَا أَرَادَتْ بِعَمَلِهَا غَيْرَهُ.فَلَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ إِلَّا لِمَنْ قَدْ ظَفِرَ بِنَفْسِهِ، وَوَجَدَ مَطْلُوبَهُ. وَمَا لَمْ يَجِدْ رَبَّهُ تَعَالَى فَلَا اسْتِقَامَةَ لَهُ. وَلَا سَلَامَةَ لَهَا مِنَ الْحُظُوظِ. وَلَا بَرَاءَةَ لَهَا مِنَ الرِّيَاءِ..فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ الْغِنَى بِالْحَقِّ]: قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: الْغِنَى بِالْحَقِّ مِنْ دَرَجَاتِ الْغِنَى. وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ مَرَاتِبُ الْغِنَى بِالْحَقِّ. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: شُهُودُ ذِكْرِهِ إِيَّاكَ. وَالثَّانِيَةُ: دَوَامُ مَطَالَعَةِ أَوَّلِيَّتِهِ. وَالثَّالِثَةُ: الْفَوْزُ بِوُجُودِهِ.أَمَّا شُهُودُ ذِكْرِهِ إِيَّاكَ فَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا.وَأَمَّا مُطَالَعَةُ أَوَّلِيَّتِهِ فَهُوَ سَبْقُهُ لِلْأَشْيَاءِ جَمِيعًا. فَهُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ.قَالَ بَعْضُهُمْ. مَا رَأَيْتُ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَبْلَهُ.فَإِنْ قُلْتَ: وَأَيُّ غِنًى يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ مِنْ مُطَالَعَةِ أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ، وَسَبْقِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا حَاصِلٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، فَمَا وَجْهُ الْغِنَى الْحَاصِلِ بِهِ؟قُلْتُ: إِذَا شَهِدَ الْقَلْبُ سَبْقَهُ لِلْأَسْبَابِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ فِي حَيِّزِ الْعَدَمِ. وَهُوَ الَّذِي كَسَاهَا حُلَّةَ الْوُجُودِ، فَهِيَ مَعْدُومَةٌ بِالذَّاتِ. فَقِيرَةٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. وَهُوَ الْمَوْجُودُ بِذَاتِهِ. وَالْغَنِيُّ بِذَاتِهِ لَا بِغَيْرِهِ. فَلَيْسَ الْغِنَى فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا بِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا لَهُ. فَالْغِنَى بِغَيْرِهِ: عَيْنُ الْفَقْرِ. فَإِنَّهُ غِنًى بِمَعْدُومٍ فَقِيرٍ. وَفَقِيرٌ كَيْفَ يَسْتَغْنِي بِفَقِيرٍ مِثْلِهِ؟وَأَمَّا الْفَوْزُ بِوُجُودِهِ فَإِشَارَةُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَهُوَ نِهَايَةُ سَفَرِهِمْ. وَفِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ: ابْنَ آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدَتْنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ. وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ. وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَى وَجُودِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْفَوْزَ بِهِ: فَلْيَحْثُ عَلَى رَأْسِهِ الرَّمَادَ. وَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْمُـرَادِ: وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْمُـرَادِ.أَفْرَدَهَا الْقَوْمُ بِالذِّكْرِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ: فَكُلُّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. بَلْ لَمْ يَصِرْ مُرِيدًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُرَادًا. لَكِنَّ الْقَوْمَ خَصُّوا الْمُرِيدَ بِالْمُبْتَدِئِ، وَالْمُرَادَ بِالْمُنْتَهِي.قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْمُرِيدُ مُتَحَمِّلٌ، وَالْمُرَادُ مَحْمُولٌ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيدًا، إِذْ قَالَ: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادًا، إِذْ قِيلَ لَهُ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}.وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنِ الْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ؟ فَقَالَ: الْمُرِيدُ يَتَوَلَّى سِيَاسَتَهُ الْعِلْمُ. وَالْمُرَادُ: يَتَوَلَّى رِعَايَتَهُ الْحَقُّ. لِأَنَّ الْمُرِيدَ يَسِيرُ، وَالْمُرَادَ يَطِيرُ. فَمَتَى يَلْحَقُ السَّائِرُ الطَّائِرَ؟.فَصْلٌ: [تَعْرِيفُ الْمُرَادِ]: قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:بَابُ الْمُرَادِ تَعْرِيفُهُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي هَذَا الْعِلْمِ جَعَلُوا الْمُرِيدَ وَالْمُرَادَ اثْنَيْنِ. وَجَعَلُوا مَقَامَ الْمُرَادِ فَوْقَ مَقَامِ الْمُرِيدِ وَإِنَّمَا أَشَارُوا بِاسْمِ الْمُرَادِ إِلَى الضَّنَائِنِ الَّذِينَ وَرَدَ فِيهِمُ الْخَبَرُ.قُلْتُ: وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَلْقَى إِلَى رَسُولِهِ كِتَابَهُ، وَخَصَّهُ بِكَرَامَتِهِ. وَأَهَّلَهُ لِرِسَالَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، أَوْ نَالَهُ بِكَسْبٍ، أَوْ تَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِعَمَلٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ أُرِيدَ بِهِ. فَهُوَ الْمُرَادُ حَقِيقَةً.وَقَوْلُهُ: إِنْ أَكْثَرَهُمْ جَعَلُوا الْمُرِيدَ وَالْمُرَادَ اثْنَيْنِ فَهُوَ تَعَرُّضٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى عَنْ ذِكْرِ مَقَامِ الْمُرَادِ بِمَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُرِيدٌ مُرَادٌ.وَأَمَّا إِشَارَتُهُمْ إِلَى الضَّنَائِنِ فَالْمُرَادُ بِهِ: حَدِيثٌ يُرْوَى مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلَّهِ ضَنَائِنَ مِنْ خَلْقِهِ. يُحْيِيهِمْ فِي عَافِيَةٍ. وَيُمِيتُهُمْ فِي عَافِيَةٍ».وَالضَّنَائِنُ: الْخَصَائِصُ. يُقَالُ: هُوَ ضِنَّتِي مِنْ بَيْنِ النَّاسِ- بِكَسْرِ الضَّادِ- أَيِ الَّذِي أَخْتَصُّ بِهِ وَأَضِنُّ بِجُودَتِهِ، أَيْ أَبْخَلُ بِهَا أَنْ أُضَيِّعَهَا.وَقَدْ مَثَّلَ لِلْمُرِيدِ وَالْمُرَادِ بِقَوْمٍ بَعَثَ إِلَيْهِمْ سُلْطَانُهُمْ يَسْتَدْعِيهِمْ إِلَى حَضْرَتِهِ مِنْ بِلَادٍ نَائِيَةٍ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ بِالْأَدِلَّةِ وَالْأَمْوَالِ، وَالْمَرَاكِبِ وَأَنْوَاعِ الزَّادِ. وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَتَجَشَّمُوا إِلَيْهِ قَطْعَ السُّبُلِ وَالْمَفَاوِزِ. وَأَنْ يَجْتَهِدُوا فِي الْمَسِيرِ حَتَّى يَلْحَقُوا بِهِ. وَبَعَثَ خَيْلًا لَهُ وَمَمَالِيكَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ. فَقَالَ: احْمِلُوهُمْ عَلَى هَذِهِ الْخَيْلِ الَّتِي تَسْبِقُ الرِّكَابَ. وَاخْدُمُوهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ. وَلَا تَدَعُوهُمْ يُعَانُونَ مُؤْنَةَ الشَّدِّ وَالرَّبْطِ، بَلْ إِذَا نَزَلُوا فَأَرِيحُوهُمْ. ثُمَّ احْمِلُوهُمْ حَتَّى تُقَدِّمُوهُمْ عَلَيَّ.فَلَمْ يَجِدْ هَؤُلَاءِ مِنْ مُجَاهَدَةِ السَّيْرِ، وَمُكَابَدَتِهِ، وَوَعْثَاءِ السَّفَرِ مَا وَجَدَهُ غَيْرُهُمْ.وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْمُرِيدُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَنْزِلَةِ الْإِرَادَةِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ مُرَادًا فَكَانَ مُحِبًّا. فَصَارَ مَحْبُوبًا. فَكُلُّ مُرِيدٍ صَادِقٍ نِهَايَةُ أَمْرِهِ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى هَذَا.وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ كَأَنَّ عِنْدَهُ الْمُرَادَ هُوَ الْمَجْذُوبُ، وَالْمُرِيدَ هُوَ السَّالِكُ عَلَى طَرِيقِ الْجَادَّةِ..[دَرَجَاتُ الْمُرَادِ]: .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الْأُولَى أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ]: قَالَ: وَلِلْمُرَادِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الْمُرَادِ: الْأُولَى: أَنْ يَعْصِمَ الْعَبْدَ مِنْ دَرَجَاتِ الْمُرَادِ. وَهُوَ مُسْتَشْرِفٌ لِلْجَفَاءِ، اضْطِرَارًا بِتَنْغِيصِ الشَّهَوَاتِ، وَتَعْوِيقِ الْمَلَاذِ، وَسَدِّ مَسَالِكِ الْمَعَاطِبِ عَلَيْهِ إِكْرَاهًا.يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ لِلْجَفَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَيِّدِهِ- بِمُوَافَقَةِ شَهَوَاتِهِ- عَصَمَهُ سَيِّدُهُ اضْطِرَارًا، بِأَنْ يُنَغِّصَ عَلَيْهِ الشَّهَوَاتِ. فَلَا تَصْفُو لَهُ أَلْبَتَّةَ. بَلْ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ مِنْهَا إِلَّا مَشُوبًا بِأَنْوَاعِ التَّنْغِيصِ، الَّذِي رُبَّمَا أَرْبَى عَلَى لَذَّتِهَا وَاسْتَهْلَكَهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّذَّةُ فِي جَنْبِ التَّنْغِيصِ كَالْخِلْسَةِ وَالْغَفْوَةِ، وَكَذَلِكَ يَعُوقُ الْمَلَاذَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، حَتَّى لَا يَرْكَنَ إِلَيْهَا، وَلَا يَطْمَئِنَّ إِلَيْهَا وَيُسَاكِنَهَا. فَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَسْبَابِهَا. فَإِنْ هُيِّئَتْ لَهُ قُيِّضَ لَهُ مُدَافِعٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَائِهَا، فَيَقُولُ: مِنْ أَيْنَ دُهِيتَ؟ وَإِنَّمَا هِيَ عَيْنُ الْعِنَايَةِ وَالْحَمِيَّةِ وَالصِّيَانَةِ.وَكَذَلِكَ يَسُدُّ عَنْهُ طُرُقَ الْمَعَاصِي. فَإِنَّهَا طُرُقُ الْمَعَاطِبِ. وَإِنْ كَانَ كَارِهًا، عِنَايَةً بِهِ، وَصِيَانَةً لَهُ.
|