الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: فِي مَرَاتِبِ الْمَحَبَّةِ: أَوَّلُهَا: الْعَلَاقَةُ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:الثَّانِيَةُ: الْإِرَادَةُ، وَهِيَ مَيْلُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَطَلَبُهُ لَهُ.الثَّالِثَةُ: الصَّبَابَةُ، وَهِيَ انْصِبَابُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُهُ صَاحِبُهُ. كَانْصِبَابِ الْمَاءِ فِي الْحُدُورِ. فَاسْمُ الصِّفَةِ مِنْهَا صَبٌّ وَالْفِعْلُ صَبَا إِلَيْهِ يَصْبُو صَبًا، وَصَبَابَةً، فَعَاقَبُوا بَيْنَ الْمُضَاعَفِ وَالْمُعْتَلِّ، وَجَعَلُوا الْفِعْلَ مِنَ الْمُعْتَلِّ وَالصِّفَةَ مِنَ الْمُضَاعَفِ. وَيُقَالُ: صَبَا وَصَبْوَةً، وَصَبَابَةً. فَالصَّبَا: أَصْلُ الْمَيْلِ. وَالصَّبْوَةُ: فَوْقَهُ، وَالصَّبَابَةُ: الْمَيْلُ اللَّازِمُ. وَانْصِبَابُ الْقَلْبِ بِكُلِّيَّتِهِ.الرَّابِعَةُ: الْغَرَامُ وَهُوَ الْحُبُّ اللَّازِمُ لِلْقَلْبِ، الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يُلَازِمُهُ كَمُلَازَمَةِ الْغَرِيمِ لِغَرِيمِهِ. وَمِنْهُ سُمِّيَ عَذَابُ النَّارِ غَرَامًا لِلُزُومِهِ لِأَهْلِهِ. وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُمْ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}.الْخَامِسَةُ: الْوِدَادُ وَهُوَ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، مَرَاتِبُهَا عَشَرَةٌ وَخَالِصُهَا وَلُبُّهَا، وَالْوَدُودُ مِنْ أَسْمَاءِ الرَّبِّ تَعَالَى. وَفِيهِ قَوْلَانِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْمَوْدُودُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْوَادُّ لِعِبَادِهِ. أَيِ الْمُحِبُّ لَهُمْ. وَقَرَنَهُ بِاسْمِهِ الْغَفُورِ إِعْلَامًا بِأَنَّهُ يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيُحِبُّ التَّائِبَ مِنْهُ، وَيَوَدُّهُ. فَحَظُّ التَّائِبِ: نَيْلُ الْمَغْفِرَةِ مِنْهُ.وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الْوَدُودُ فِي مَعْنًى يَكُونُ سِرُّ الِاقْتِرَانِ. أَيِ اقْتِرَانُ الْوَدُودِ بِالْغَفُورِ اسْتِدْعَاءَ مَوَدَّةِ الْعِبَادِ لَهُ، وَمَحَبَّتِهِمْ إِيَّاهُ بِاسْمِ الْغَفُورِ.السَّادِسَةُ: الشَّغَفُ يُقَالُ: شُغِفَ بِكَذَا. فَهُوَ مَشْغُوفٌ بِهِ. وَقَدْ شَغَفَهُ الْمَحْبُوبُ. أَيْ وَصَلَ حُبُّهُ إِلَى شَغَافِ قَلْبِهِ. كَمَا قَالَ النِّسْوَةُ عَنِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.أَحَدُهَا: أَنَّهُ الْحُبُّ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْقَلْبِ، بِحَيْثُ يَحْجُبُهُ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَجَبَ حُبُّهُ قَلْبَهَا حَتَّى لَا تَعْقِلَ سِوَاهُ.الثَّانِي: الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى دَاخِلِ الْقَلْبِ. قَالَ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ: الْمَعْنَى أَحَبَّتْهُ حَتَّى دَخَلَ حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا، أَيْ دَاخِلَهُ.الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحُبُّ الْوَاصِلُ إِلَى غِشَاءِ الْقَلْبِ. وَالشَّغَافُ غِشَاءُ الْقَلْبِ إِذَا وَصَلَ الْحُبُّ إِلَيْهِ بَاشَرَ الْقَلْبَ. قَالَ السُّدِّيُّ: الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ عَلَى الْقَلْبِ. يَقُولُ: دَخَلَهُ الْحُبُّ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ.وَقَرَأَ بَعْضُ السَّلَفِ شَعَفَهَا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ. وَمَعْنَاهُ: ذَهَبَ الْحُبُّ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ. وَبَلَغَ بِهَا أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، وَمِنْهُ: شَعَفُ الْجِبَالِ، لِرُءُوسِهَا.السَّابِعَةُ: الْعِشْقُ وَهُوَ الْحُبُّ الْمُفْرِطُ الَّذِي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْهُ. وَعَلَيْهِ تَأَوَّلَ إِبْرَاهِيمُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ {وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ الْعِشْقُ.وَرُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- شَابٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَهُوَ يَعْرِفُهُ- قَدْ صَارَ كَالْخَلَالِ. فَقَالَ: مَا بِهِ؟ قَالُوا: الْعِشْقُ. فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَامَّةَ دُعَائِهِ بِعَرَفَةَ: الِاسْتِعَاذَةَ مِنَ الْعِشْقِ.وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنَ الْعَشَقَةِ- مُحَرَّكَةً- وَهِيَ نَبْتٌ أَصْفَرُ يَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ، فَشُبِّهَ بِهِ الْعَاشِقُ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْإِفْرَاطِ. وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ: فَلَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَا الْعَبْدُ فِي مَحَبَّةِ رَبِّهِ. وَإِنْ أَطْلَقَهُ سَكْرَانُ مِنَ الْمَحَبَّةِ قَدْ أَفْنَاهُ الْحُبُّ عَنْ تَمْيِيزِهِ. كَانَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ وَمَحَبَّتِهِ.الثَّامِنَةُ: التَّتَيُّمُ وَهُوَ التَّعَبُّدُ، وَالتَّذَلُّلُ. يُقَالُ: تَيَّمَهُ الْحُبُّ أَيْ ذَلَّلَهُ وَعَبَّدَهُ. وَتَيْمُ اللَّهُ: عَبْدُ اللَّهِ. وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيُتْمِ- الَّذِي هُوَ الِانْفِرَادُ- تَلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ، وَتَنَاسُبٌ فِي الْمَعْنَى. فَإِنَّ الْمُتَيَّمَ الْمُنْفَرِدُ بِحُبِّهِ وَشَجْوِهِ. كَانْفِرَادِ الْيَتِيمِ بِنَفْسِهِ عَنْ أَبِيهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَكْسُورٌ ذَلِيلٌ. هَذَا كَسَرَهُ يُتْمٌ. وَهَذَا كَسَرَهُ تَتَيُّمٌ.التَّاسِعَةُ: التَّعَبُّدُ وَهُوَ فَوْقَ التَّتَيُّمِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي قَدْ مَلَكَ الْمَحْبُوبُ رِقَّهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ أَلْبَتَّةَ. بَلْ كُلُّهُ عَبَدٌ لِمَحْبُوبِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ. وَمَنْ كَمَّلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَمَّلَ مَرْتَبَتَهَا.وَلَمَّا كَمَّلَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ: وَصَفَهُ اللَّهُ بِهَا فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ. مَقَامِ الْإِسْرَاءِ، كَقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وَمَقَامِ الدَّعْوَةِ. كَقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وَمَقَامِ التَّحَدِّي كَقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وَبِذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ، إِذَا طَلَبُوا مِنْهُ الشَّفَاعَةَ- بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، عَبْدٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: فَحَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ. بِتَكْمِيلِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ لَهُ.وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ: الْحُبُّ التَّامُّ، مَعَ الذُّلِّ التَّامِّ وَالْخُضُوعِ لِلْمَحْبُوبِ. تَقُولُ الْعَرَبُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ قَدْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ وَسَهَّلَتْهُ.الْعَاشِرَةُ: مَرْتَبَةُ الْخُلَّةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا الْخَلِيلَانِ- إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ- كَمَا صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا.وَقَالَ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا. وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ. وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحِ.وَهُمَا يُبْطِلَانِ قَوْلَ مَنْ قَالَ: الْخُلَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ. وَالْمَحَبَّةُ لِمُحَمَّدٍ، فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ وَمُحَمَّدٌ حَبِيبُهُ.وَالْخُلَّةُ هِيَ الْمَحَبَّةُ الَّتِي تَخَلَّلَتْ رُوحَ الْمُحِبِّ وَقَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ الْمَحْبُوبِ، كَمَا قِيلَ: وَهَذَا هُوَ السِّرُّ الَّذِي لِأَجْلِهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أُمِرَ الْخَلِيلُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ، وَثَمَرَةِ فُؤَادِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ. لِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَ الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ، تَعَلَّقَتْ بِهِ شُعْبَةٌ مِنْ قَلْبِهِ. وَالْخُلَّةُ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ وَالْقِسْمَةَ. فَغَارَ الْخَلِيلُ عَلَى خَلِيلِهِ: أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِهِ. فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الْوَلَدِ. لِيُخْرِجَ الْمُزَاحِمَ مِنْ قَلْبِهِ.فَلَمَّا وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا جَازِمًا: حَصَلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ. فَلَمْ يَبْقَ فِي إِزْهَاقِ نَفْسِ الْوَلَدِ مَصْلَحَةٌ. فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ. وَفَدَاهُ بِالذِّبْحِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ لَهُ: {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} أَيْ عَمِلْتَ عَمَلَ الْمُصَدِّقِ {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} نَجْزِي مَنْ بَادَرَ إِلَى طَاعَتِنَا، فَنُقِرُّ عَيْنَهُ كَمَا أَقْرَرْنَا عَيْنَكَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرَنَا، وَإِبْقَاءِ الْوَلَدِ وَسَلَامَتِهِ {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} وَهُوَ اخْتِبَارُ الْمَحْبُوبِ لِمُحِبِّهِ، وَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُ لِيُؤْثِرَ مَرْضَاتَهُ. فَيُتِمَّ عَلَيْهِ نِعَمَهُ، فَهُوَ بَلَاءُ مِحْنَةٍ وَمِنْحَةٍ عَلَيْهِ مَعًا.وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ إِنَّمَا دَعَا إِلَيْهَا بِهَا خَوَاصُّ خَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْأَلْبَابِ وَالْبَصَائِرِ مِنْهُمْ. فَمَا كَلُّ أَحَدٍ يُجِيبُ دَاعِيهَا. وَلَا كُلُّ عَيْنٍ قَرِيرَةً بِهَا. وَأَهْلُهَا هُمُ الَّذِينَ حَصَلُوا فِي وَسَطِ قَبْضَةِ الْيَمِينِ يَوْمَ الْقَبْضَتَيْنِ. وَسَائِرُ أَهْلِ الْيَمِينِ فِي أَطْرَافِهَا. .فَصْلٌ: [الْمَحَبَّةُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ]: قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ:الْمَحَبَّةُ حَقِيقَتُهَا: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ.يَعْنِي: تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَحْبُوبِ تَعَلُّقًا مُقْتَرِنًا بِهِمَّةِ الْمُحِبِّ، وَأُنْسِهِ بِالْمَحْبُوبِ، فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ، وَإِفْرَادِهِ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ فِيهِ نَصِيبٌ.وَإِنَّمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ نِهَايَةُ شِدَّةِ الطَّلَبِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ شَدِيدَ الرَّغْبَةِ وَالطَّلَبِ: كَانَتِ الْهِمَّةُ مِنْ مُقَوِّمَاتِ حُبِّهِ، وَجُمْلَةِ صِفَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَ الطَّلَبُ بِالْهِمَّةِ قَدْ يَعْرَى عَنِ الْأُنْسِ، وَكَانَ الْمُحِبُّ لَا يَكُونُ إِلَّا مُسْتَأْنِسًا بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ، وَطَمَعِهِ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ. فَمِنْ هَذَيْنِ يَتَوَلَّدُ الْأُنْسُ: وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُحِبُّ مَوْصُوفًا بِالْأُنْسِ. فَصَارَتِ الْمَحَبَّةُ قَائِمَةً بَيْنَ الْهِمَّةِ وَالْأُنْسِ.وَيُرِيدُ بِالْبَذْلِ وَالْمَنْعِ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا بَذْلُ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ لِمَحْبُوبِهِ، وَمَنْعُهَا عَنْ غَيْرِهِ. فَيَكُونُ الْبَذْلُ وَالْمَنْعُ صِفَةَ الْمُحِبِّ، وَإِمَّا بَذْلُ الْحَبِيبِ وَمَنْعُهُ. فَتَتَعَلَّقُ هِمَّةُ الْمُحِبِّ بِهِ فِي حَالَتَيْ بَذْلِهِ وَمَنْعِهِ.وَيُرِيدُ بِالْإِفْرَادِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا إِفْرَادُ الْمَحْبُوبِ وَتَوْحِيدُهُ بِذَلِكَ التَّعَلُّقِ. وَإِمَّا فَنَاءُهُ فِي مَحَبَّتِهِ، بِحَيْثُ يَنْسَى نَفْسَهُ وَصِفَاتِهِ فِي ذِكْرِ مَحَاسِنِ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا الْمَحْبُوبُ وَحْدَهُ.وَالْمَقْصُودُ: إِفْرَادُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَحَبَّةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [الْمَحَبَّةُ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ]: قَالَ: وَالْمَحَبَّةُ: أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ، وَالْعَقَبَةُ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ. وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلٍ تَلْتَقِي فِيهِ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ.إِنَّمَا كَانَتْ الْمَحَبَّةُ مَنْزِلَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلَ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ: لِأَنَّهَا تُفْنِي خَوَاطِرَ الْمُحِبِّ عَنِ التَّعَلُّقِ بِالْغَيْرِ. وَأَوَّلُ مَا يَفْنَى مِنَ الْمُحِبِّ: خَوَاطِرُهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِمَا سِوَى مَحْبُوبِهِ. لِأَنَّهُ إِذَا انْجَذَبَ قَلْبُهُ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ انْجَذَبَتْ خَوَاطِرُهُ تَبَعًا.وَيُرِيدُ بِمَنَازِلِ الْمَحْوِ مَقَامَاتِهِ.وَأَوَّلُهَا: مَحْوُ الْأَفْعَالِ فِي فِعْلِ الْحَقِّ تَعَالَى. فَلَا يَرَى لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ فِعْلًا.وَالثَّانِي: مَحْوُ الصِّفَاتِ الَّتِي فِي الْعَبْدِ. فَيَرَاهَا عَارِيَةً أُعِيرَهَا، وَهِبَةً وُهِبَهَا. لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى بَارِئِهِ وَفَاطِرِهِ، وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَيَعْلَمُ بِوَاسِطَةِ حَيَاتِهِ: مَعْنَى حَيَاةِ رَبِّهِ، وَبِوَاسِطَةِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ: مَعْنَى عِلْمِ رَبِّهِ، وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ، وَكَلَامِهِ، وَغَضَبِهِ وَرِضَاهُ. وَلَوْلَا هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ لِمَا عَرَفَهَا مِنْ رَبِّهِ.وَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: اعْرِفْ نَفْسَكَ تَعْرِفْ رَبَّكَ.وَهَذِهِ الصِّفَاتُ فِي الْحَقِيقَةِ: أَثَرُ الصِّفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ. فَإِنَّهَا أَثَرُ أَفْعَالِ الْحَقِّ، وَأَفْعَالُهُ مُوجِبُ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ. فَإِذَنْ عَادَ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَى أَفْعَالِهِ، وَعَادَتْ أَفْعَالُهُ إِلَى صِفَاتِهِ.فَفِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ يَمْحُو الْعَبْدُ شُهُودَ صِفَاتِهِ وَوُجُودَهَا الَّذِي لَيْسَ بِحَقِيقِيٍّ. وَيُثْبِتُ شُهُودَ صِفَاتِ الْمَعْبُودِ وَوُجُودَهَا الْحَقِيقِيِّ. فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنَحَ عَبْدَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ لِيَعْرِفَهُ بِهَا. وَيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا عَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا. فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ. وَلِهَذَا يُوصَفُ الْغَافِلُ عَنِ اللَّهِ بِالصَّمِّ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى وَالْمَوْتِ، وَعَدَمِ الْعَقْلِ.الثَّالِثُ: مَحْوُ الذَّاتِ. وَهُوَ شُهُودُ تَفَرُّدِ الْحَقِّ تَعَالَى بِالْوُجُودِ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَأَنَّهُ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَوُجُودُ كُلِّ مَا سِوَاهُ قَائِمٌ بِهِ وَأَثَرُ صُنْعِهِ. فَوُجُودُهُ هُوَ الْوُجُودُ الْوَاجِبُ الْحَقُّ، الثَّابِتُ لِنَفْسِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا. وَأَنَّهُ الْمُتَفَرِّدُ بِذَلِكَ.وَهَذَا الْمَحْوُ يَصِحُّ بِاعْتَبَارَيْنِ.أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ الذَّاتِيِّ. وَلَا رَيْبَ فِي إِثْبَاتِ مَحْوِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. إِذْ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ مَوْجُودٌ بِذَاتِهِ سِوَاهُ. وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَمَوْجُودٌ بِإِيجَادِهِ سُبْحَانَهُ.الِاعْتِبَارُ الثَّانِي: الْمَحْوُ فِي الْمَشْهَدِ. فَلَا يَشْهَدُ فَاعِلًا غَيْرَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَلَا صِفَاتِ غَيْرَ صِفَاتِهِ، وَلَا مَوْجُودَ سِوَاهُ، لِغَيْبَتِهِ بِكَمَالِ شُهُودِهِ عَنْ شُهُودِ غَيْرِهِ.وَأَمَّا مَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُودِ جُمْلَةً: فَهُوَ مَحْوُ الزَّنَادِقَةِ وَطَائِفَةِ الِاتِّحَادِيَّةِ. وَصَاحِبُ الْمَنَازِلِ وَكُلُّ وَلِيٍّ لِلَّهِ بَرِيءٌ مِنْهُمْ حَالًا وَعَقِيدَةً.وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مِنْ عَقَبَةِ الْمَحَبَّةِ يَنْحَدِرُ الْمُحِبُّ عَلَى مَنَازِلِ الْمَحْوِ.وَلَمَّا كَانَتْ مَنَازِلُ الْمَحْوِ وَالْفَنَاءِ غَايَةً عِنْدَ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ عَقَبَةً يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَيْهَا.وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَحَبَّةَ غَايَةً: فَمَنَازِلُ الْمَحْوِ عِنْدَهُ أَوْدِيَةٌ يَصْعَدُ مِنْهَا إِلَى رُوحِ الْمَحَبَّةِ. وَلَيْسَ بَعْدَ الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا مَنَازِلُ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا الْفَنَاءُ وَالْمَحْوُ: فَعَقَبَاتٌ وَأَوْدِيَةٌ فِي طَرِيقِهَا عِنْدَ هَؤُلَاءِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْلُهُ: وَهِيَ آخِرُ مَنْزِلَةٍ تَلْتَقِي فِيهَا مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ.هَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَهُوَ: أَنَّ الْمَحَبَّةَ يُنْحَدَرُ مِنْهَا عَلَى أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ. فَهِيَ أَوَّلُ أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ. فَمُقَدَّمَةُ الْعَامَّةِ: هُمْ فِي آخِرِ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ، وَسَاقَةُ الْخَاصَّةِ: فِي أَوَّلِ مَنْزِلِ الْفَنَاءِ. وَمَنْزِلَةُ الْفَنَاءِ مُتَّصِلَةٌ بِآخِرِ مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ. فَتَلْتَقِي حِينَئِذٍ مُقَدِّمَةُ الْعَامَّةِ بِسَاقَةِ الْخَاصَّةِ، هَذَا شَرْحُ كَلَامِهِ.وَعِنْدَ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَهُوَ أَنَّ مُقَدِّمَةَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ يَلْتَقُونَ بِسَاقَةِ أَوْ بَابِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّهُمْ أَمَامَهُمْ فِي السَّيْرِ. وَهُمْ أَمَامَ الرَّكْبِ دَائِمًا. وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْبَقَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ أَعْلَى شَأْنًا مِنْ أَهْلِ الْفَنَاءِ. وَهُوَ الصَّوَابُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [مَا دُونَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمَقَامَاتِ]: قَالَ: وَمَا دُونَهَا: أَغْرَاضٌ لِأَعْوَاضٍ.يَعْنِي مَا دُونَ الْمَحَبَّةِ مِنَ الْمَقَامَاتِ مَنْزِلَةُ مَقَامِ الْمَحَبَّةِ: فَهِيَ أَغْرَاضٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لِأَجْلِ أَعْوَاضٍ يَنَالُونَهَا، وَأَمَّا الْمُحِبُّونَ: فَإِنَّهُمْ عَبِيدٌ. وَالْعَبْدُ وَنَفْسُهُ وَعَمَلُهُ وَمَنَافِعُهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يُعَاوِضُهُ عَلَى مِلْكِهِ؟ وَالْأَجِيرُ عِنْدَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ يَنْصَرِفُ. وَالْعَبْدُ فِي الْبَابِ لَا يَنْصَرِفُ. فَلَا عُبُودِيَّةَ إِلَّا عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ الْخَالِصَةِ. أُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِشَرَفِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ..فَصْلٌ: [الْمَحَبَّةُ هِيَ سِمَةُ الطَّائِفَةِ وَعُنْوَانُ الطَّرِيقَةِ]: قَالَ: وَالْمَحَبَّةُ هِيَ سِمَةُ الطَّائِفَةِ، الْمُسَافِرَةِ إِلَى اللَّهِ وَعُنْوَانُ الطَّرِيقَةِ، وَمَعْقِدُ النِّسْبَةِ.يَعْنِي: سِمَةُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُسَافِرِينَ إِلَى رَبِّهِمْ، الَّذِينَ رَكِبُوا جَنَاحَ السَّفَرِ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَمْ يُفَارِقُوهُ إِلَى حِينِ اللِّقَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى الْحَقَائِقِ. وَقَعَدَ مَنْ سِوَاهُمْ عَلَى الرُّسُومِ.وَعُنْوَانُ طَرِيقَتِهِمْ أَيْ دَلِيلُهَا. فَإِنَّ الْعُنْوَانَ يَدُلُّ عَلَى الْكِتَابِ، وَالْمَحَبَّةُ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الطَّالِبِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ.وَمَعْقِدُ النِّسْبَةِ أَيِ النِّسْبَةِ الَّتِي بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. فَإِنَّهُ لَا نِسْبَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ إِلَّا مَحْضُ الْعُبُودِيَّةِ مِنَ الْعَبْدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ مِنَ الرَّبِّ. وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ، وَلَا فِي الرَّبِّ شَيْءٌ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. فَالْعَبْدُ عَبْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَمَعْقِدُ نِسْبَةِ الْعُبُودِيَّةِ هُوَ الْمَحَبَّةُ. فَالْعُبُودِيَّةُ مَعْقُودَةٌ بِهَا، بِحَيْثُ مَتَى انْحَلَّتِ الْمَحَبَّةُ انْحَلَّتِ الْعُبُودِيَّةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ]: قَالَ: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْمَحَبَّةُ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: مَحَبَّةٌ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ، وَتُلِذُّ الْخِدْمَةَ. وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ.قَوْلُهُ تَقْطَعُ الْوَسَاوِسَ فَإِنَّ الْوَسَاوِسَ وَالْمَحَبَّةَ مُتَنَاقِضَانِ. فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ تُوجِبُ اسْتِيلَاءَ ذِكْرِ الْمَحْبُوبِ عَلَى الْقَلْبِ. وَالْوَسَاوِسُ تَقْتَضِي غَيْبَتَهُ عَنْهُ، حَتَّى تُوَسْوِسَ لَهُ نَفْسُهُ بِغَيْرِهِ. فَبَيْنَ الْمَحَبَّةِ وَالْوَسَاوِسِ تَنَاقُضٌ شَدِيدٌ، كَمَا بَيْنَ الذِّكْرِ وَالْغَفْلَةِ.فَعَزِيمَةُ الْمَحَبَّةِ: تَنْفِي تَرَدُّدَ الْقَلْبِ بَيْنَ الْمَحْبُوبِ وَغَيْرِهِ. وَذَلِكَ سَبَبُ الْوَسَاوِسِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَجِدَ الْمُحِبُّ الصَّادِقُ فَرَاغًا لِوَسْوَاسِ الْغَيْرِ، لِاسْتِغْرَاقِ قَلْبِهِ فِي حُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْ مَحْبُوبِهِ. وَهَلِ الْوَسْوَاسُ إِلَّا لِأَهْلِ الْغَفْلَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى؟ وَمِنْ أَيْنَ يَجْتَمِعُ الْحُبُّ وَالْوَسْوَاسُ؟قَوْلُهُ وَتُلِذُّ الْخِدْمَةُ أَيِ الْمُحِبُّ يَلْتَذُّ بِخِدْمَةِ مَحْبُوبِهِ. فَيَرْتَفِعُ عَنْ رُؤْيَةِ التَّعَبِ الَّذِي يَرَاهُ الْخَلِيُّ فِي أَثْنَاءِ الْخِدْمَةِ. وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ.قَوْلُهُ وَتُسَلِّي عَنِ الْمَصَائِبِ فَإِنَّ الْمُحِبَّ يَجِدُ فِي لَذَّةِ الْمَحَبَّةِ مَا يُنْسِيهِ الْمَصَائِبَ وَلَا يَجِدُ مِنْ مَسِّهَا مَا يَجِدُ غَيْرَهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَدِ اكْتَسَى طَبِيعَةً ثَانِيَةً لَيْسَتْ طَبِيعَةَ الْخَلْقِ. بَلْ يَقْوَى سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ، حَتَّى يَلْتَذَّ الْمُحِبُّ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي يُصِيبُهُ بِهَا حَبِيبَهُ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ الْخَلِيِّ بِحُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ. وَالذَّوْقُ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. .فَصْلٌ: [فَوَائِدُ هَذِه الْمَحَبَّةِ]: قَالَ: وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ. وَتُثْبِتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ.قَوْلُهُ تَنْبُتُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ أَيْ تَنْشَأُ مِنْ مُطَالَعَةِ الْعَبْدِ مِنَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَنِعَمَهُ الْبَاطِنَةَ وَالظَّاهِرَةَ، فَبِقَدْرِ مُطَالَعَتِهِ ذَلِكَ تَكُونُ قُوَّةُ الْمَحَبَّةِ ذِكْرُ مَا يُعِينُ عَلَى قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ. فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وَبُغْضِ مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهَا. وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ قَطُّ إِحْسَانٌ إِلَّا مِنَ اللَّهِ. وَلَا إِسَاءَةَ إِلَّا مِنَ الشَّيْطَانِ.وَمِنْ أَعْظَمِ مُطَالَعَةِ مِنَّةِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ: تَأْهِيلُهُ لِمَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَإِرَادَةِ وَجْهِهِ، وَمُتَابَعَةِ حَبِيبِهِ. وَأَصْلُ هَذَا: نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ. فَإِذَا دَارَ ذَلِكَ النُّورُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ وَذَاتِهِ: أَشْرَقَتْ ذَاتُهُ. فَرَأَى فِيهِ نَفْسَهُ، وَمَا أُهِلَّتْ لَهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ وَالْمَحَاسِنِ. فَعَلَتْ بِهِ هِمَّتُهُ. وَقَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ. وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ ظُلُمَاتُ نَفْسِهِ وَطَبْعِهِ. لِأَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ إِلَّا وَيَطْرُدُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ. فَرَقِيَتْ حِينَئِذٍ بَيْنَ الْهَيْبَةِ وَالْأُنْسِ إِلَى الْحَبِيبِ الْأَوَّلِ.وَهَذَا النُّورُ كَالشَّمْسِ فِي قُلُوبِ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ، وَكَالْبَدْرِ فِي قُلُوبِ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَكَالنَّجْمِ فِي قُلُوبِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَتَفَاوُتُهُمْ فِيهِ كَتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الزُّهْرَةِ وَالسُّهَى.قَوْلُهُ وَتَثْبُتُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ أَيْ ثَبَاتُهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَعْمَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ. فَبِحَسَبِ هَذَا الِاتِّبَاعِ يَكُونُ مَنْشَأُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ وَثَبَاتِهَا وَقُوَّتِهَا. وَبِحَسَبِ نُقْصَانِهِ يَكُونُ نُقْصَانُهَا، كَمَا تَقَدَّمَ: أَنَّ هَذَا الِاتِّبَاعَ يُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْمَحْبُوبِيَّةَ مَعًا. وَلَا يَتِمُّ الْأَمْرُ إِلَّا بِهِمَا. فَلَيْسَ الشَّأْنُ فِي أَنْ تُحِبَّ اللَّهَ، بَلِ الشَّأْنُ فِي أَنْ يُحِبَّكَ اللَّهُ. وَلَا يُحِبَّكَ اللَّهُ إِلَّا إِذَا اتَّبَعْتَ حَبِيبَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَصَدَّقْتَهُ خَبَرًا، وَأَطَعْتَهُ أَمْرًا، وَأَجَبْتَهُ دَعْوَةً، وَآثَرْتَهُ طَوْعًا. وَفَنِيَتْ عَنْ حُكْمِ غَيْرِهِ بِحُكْمِهِ، وَعَنْ مَحَبَّتِهِ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ بِمَحَبَّتِهِ، وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَلَا تَتَعَنَّ. وَارْجِعْ مِنْ حَيْثُ شِئْتَ فَالْتَمِسْ نُورًا. فَلَسْتَ عَلَى شَيْءٍ.وَتَأَمَّلْ قوله: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} أَيِ الشَّأْنُ فِي أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّكُمْ. لَا فِي أَنَّكُمْ تُحِبُّونَهُ، وَهَذَا لَا تَنَالُونَهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْحَبِيبِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.قَوْلُهُ وَتَنْمُو عَلَى الْإِجَابَةِ بِالْفَاقَةِ الْإِجَابَةُ بِالْفَاقَةِ: أَنْ يُجِيبَ الدَّاعِي بِمَوْفُورِ الْأَعْمَالِ. وَهُوَ خَالٍ مِنْهَا. كَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْهَا، بَلْ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ وَالْفَقْرِ التَّامِّ. فَإِنَّ طَرِيقَةُ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ: تَأْبَى أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِهَا عَمَلٌ، أَوْ حَالٌ أَوْ مَقَامٌ. وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى رَبِّهِ بِالْإِفْلَاسِ الْمَحْضِ، وَالْفَاقَةِ الْمُجَرَّدَةِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ تَنْمُو عَلَى هَذَا الْمَشْهَدِ، وَهَذِهِ الْإِجَابَةِ. وَمَا أَعَزَّهُ مِنْ مَقَامٍ. وَأَعْلَاهُ مِنْ مَشْهَدٍ. وَمَا أَنْفَعَهُ لِلْعَبْدِ! وَمَا أَجْلَبَهُ لِلْمَحَبَّةِ! وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ]: قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ: مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَتُلْهِجُ اللِّسَانَ بِذِكْرِهِ. وَتُعَلِّقَ الْقَلْبَ بِشُهُودِهِ. وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ، وَالِارْتِيَاضِ بِالْمَقَامَاتِ.هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، بِاعْتِبَارِ سَبَبِهَا وَغَايَتِهَا. فَإِنَّ سَبَبَ الْأُولَى: مُطَالَعَةُ الْإِحْسَانِ وَالْمِنَّةِ. وَسَبَبُ هَذِهِ: مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ. وَشُهُودُ مَعَانِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ. وَحُصُولُ الْمَلَكَةِ فِي مَقَامَاتِ السُّلُوكِ، وَهُوَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ. وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَتُهَا أَعْلَى مِنْ غَايَةِ مَا قَبْلَهَا.فَقَوْلُهُ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ أَيْ لِكَمَالِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي مِنَ الْمُحِبِّ أَنْ يَتْرُكَ لِأَجْلِ الْحَقِّ مَا سِوَاهُ، فَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَلَا يُؤْثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ. وَيَجْعَلُ اللِّسَانَ لَهِجًا بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ.وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِشُهُودِهِ لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ. وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ غَيْرَهُ.وَقَوْلُهُ وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ يَعْنِي: إِثْبَاتَهَا أَوَّلًا. وَمَعْرِفَتَهَا ثَانِيًا. وَنَفْيَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ عَنْ نُصُوصِهَا ثَالِثًا، وَنَفْيَ التَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ عَنْ مَعَانِيهَا رَابِعًا. فَلَا يَصِحُّ لَهُ مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ. وَكُلَّمَا أَكْثَرَ قَلْبُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا: ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا. وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجَهْمِيَّةُ- قُطَّاعُ طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ- بَيْنَ الْمُحِبِّينَ وَبَيْنَهُمُ السَّيْفُ الْأَحْمَرُ.وَقَوْلُهُ وَالنَّظَرُ إِلَى الْآيَاتِ أَيْ نَظَرُ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ.وَفِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا دَاعٍ قَوِيٌّ إِلَى مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ. لِأَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَتَوْحِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَعَلَى حِكْمَتِهِ وَبِرِّهِ، وَإِحْسَانِهِ وَلُطْفِهِ، وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ، فَإِدَامَةُ النَّظَرِ فِيهَا دَاعٍ- لَا مَحَالَةَ- إِلَى مَحَبَّتِهِ.وَكَذَلِكَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ. فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ رِيَاضَةً وَمَلَكَةً فِي مَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ: كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَقْوَى. لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُ أَتَمُّ. وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَنْشَأَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ.
|