الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ: [الْحَيَاءُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ]وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الْحَيَاءِ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} وقال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} وقال تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}.وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ- وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ- فَقَالَ: «دَعْهُ. فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ».وَفِيهِمَا عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَنَّهُ قَالَ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً- أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً- فَأَفْضَلُهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ. وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ.وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا. فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ.وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ». وَفِي هَذَا قَوْلَانِ.أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرُ تَهْدِيدٍ. وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، أَيْ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ صَنَعَ مَا شَاءَ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرُ إِبَاحَةٍ. أَيِ انْظُرْ إِلَى الْفِعْلِ الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَهُ. فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُسْتَحْيَا مَنْهُ فَافْعَلْهُ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ.وَفِي التِّرْمِذِيِّ مَرْفُوعًا اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. قَالُوا: إِنَّا نَسْتَحِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: لَيْسَ ذَلِكُمْ، وَلَكِنَّ مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ فَلْيَحْفَظِ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى. وَلْيَحْفَظِ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى. وَلْيَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالْبِلَى. وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ..فَصْلٌ: [تَعْرِيفُ الْحَيَاءِ]: وَالْحَيَاءُ مِنَ الْحَيَاةِ. وَمِنْهُ الْحَيَا لِلْمَطَرِ، لَكِنَّهُ مَقْصُورٌ، وَعَلَى حَسَبِ حَيَاةِ الْقَلْبِ يَكُونُ فِيهِ قُوَّةُ خُلُقِ الْحَيَاءِ مَعْنَاهُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ. وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ مِنْ مَوْتِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ. فَكُلَّمَا كَانَ الْقَلْبُ أَحْيَى كَانَ الْحَيَاءُ أَتَمَّ.قَالَ الْجُنَيْدُ- رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَيَاءُ رُؤْيَةُ الْآلَاءِ. وَرُؤْيَةُ التَّقْصِيرِ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءُ. وَحَقِيقَتُهُ خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ. وَيَمْنَعُ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْحَقِّ.وَمِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: أَحْيُوا الْحَيَاءَ بِمُجَالَسَةِ مَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ. وَعِمَارَةُ الْقَلْبِ: بِالْهَيْبَةِ وَالْحَيَاءِ. فَإِذَا ذَهَبَا مِنَ الْقَلْبِ لَمْ يَبْقَ فِيهِ خَيْرٌ.وَقَالَ ذُو النُّونِ: الْحَيَاءُ وُجُودُ الْهَيْبَةِ فِي الْقَلْبِ مَعَ وَحْشَةِ مَا سَبَقَ مِنْكَ إِلَى رَبِّكَ، وَالْحُبُّ يُنْطِقُ وَالْحَيَاءُ يُسْكِتُ. وَالْخَوْفُ يُقْلِقُ.وَقَالَ السَّرِيُّ: إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْأُنْسَ يَطْرُقَانِ الْقَلْبَ. فَإِنْ وَجَدُوا فِيهِ الزُّهْدَ وَالْوَرَعَ وَإِلَّا رَحَلَا.وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ابْنَ آدَمَ. إِنَّكَ مَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنْسَيْتُ النَّاسَ عُيُوبَكَ. وَأَنْسَيْتُ بِقَاعَ الْأَرْضِ ذُنُوبَكَ. وَمَحَوْتُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ زَلَّاتِكَ. وَإِلَّا نَاقَشْتُكَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَفِي أَثَرٍ آخَرَ: أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: عِظْ نَفْسَكَ. فَإِنِ اتَّعَظَتْ، وَإِلَّا فَاسْتَحِي مِنِّي أَنْ تَعِظَ النَّاسَ.وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: خَمْسٌ مِنْ عَلَامَاتِ الشِّقْوَةِ: الْقَسْوَةُ فِي الْقَلْبِ. وَجُمُودُ الْعَيْنِ. وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ. وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا. وَطُولُ الْأَمَلِ.وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: مَا أَنْصَفَنِي عَبْدِي. يَدْعُونِي فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَرُدَّهُ. وَيَعْصِينِي وَلَا يَسْتَحْيِي مِنِّي.وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ مُطِيعًا اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَهُوَ مُذْنِبٌ.وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ.وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنَ اللَّهِ حَتَّى فِي حَالِ طَاعَتِهِ. فَقَلْبُهُ مُطْرَقٌ بَيْنَ يَدَيْهِ إِطْرَاقَ مُسْتَحٍ خَجِلٍ: فَإِنَّهُ إِذَا وَاقَعَ ذَنْبًا اسْتَحْيَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نَظَرِهِ إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ. فَيَسْتَحْيِي أَنْ يَرَى مِنْ وَلِيِّهِ وَمَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ: مَا يَشِينُهُ عِنْدَهُ. وَفِي الشَّاهِدِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ. فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا اطَّلَعَ عَلَى أَخَصِّ النَّاسِ بِهِ، وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ- مِنْ صَاحِبٍ، أَوْ وَلَدٍ، أَوْ مَنْ يُحِبُّهُ- وَهُوَ يَخُونُهُ. فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ حَيَاءٌ عَجِيبٌ. حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي. وَهَذَا غَايَةُ الْكَرَمِ.وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ هَذَا الْحَيَاءِ أَنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ فِي حَالِ طَاعَتِهِ كَأَنَّهُ يَعْصِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. فَيَسْتَحْيِي مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَلِهَذَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَارُ عُقَيْبَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالْقُرَبُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.وَقِيلَ: إِنَّهُ يُمَثِّلُ نَفْسَهُ خَائِنًا، فَيَلْحَقُهُ الْحَيَاءُ. كَمَا إِذَا شَاهَدَ رَجُلًا مَضْرُوبًا وَهُوَ صَدِيقٌ لَهُ، أَوْ مَنْ قَدْ أُحْصِرَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَخْجَلُ أَيْضًا. تَمْثِيلًا لِنَفْسِهِ بِتِلْكَ الْحَالِ.وَهَذَا قَدْ يَقَعُ. وَلَكِنَّ حَيَاءَ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى مَحْبُوبِهِ وَهُوَ يَخُونُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا. فَإِنَّهُ لَوِ اطَّلَعَ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فَارِغُ الْبَالِ مِنْهُ، لَمْ يَلْحَقْهُ هَذَا الْحَيَاءُ وَلَا قَرِيبٌ مِنْهُ. وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ مَقْتُهُ وَسُقُوطُهُ مِنْ عَيْنِهِ. وَإِنَّمَا سَبَبُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- شِدَّةُ تَعَلُّقِ قَلْبِهِ وَنَفْسِهِ بِهِ. فَيُنْزِلُ الْوَهْمُ فِعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ هُوَ. وَلَا سِيَّمَا إِنْ قُدِّرَ حُصُولُ الْمُكَاشَفَةِ بَيْنَهُمَا. فَإِنَّ عِنْدَ حُصُولِهَا يَهِيجُ خُلُقُ الْحَيَاءِ مِنْهُ تَكَرُّمًا. فَعِنْدَ تَقْدِيرِهَا يَنْبَعِثُ ذَلِكَ الْحَيَاءُ. هَذَا فِي حَقِّ الشَّاهِدِ.وَأَمَّا حَيَاءُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ: فَذَاكَ نَوْعٌ آخَرُ. لَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ. وَلَا تَكَيَّفُهُ الْعُقُولُ. فَإِنَّهُ حَيَاءُ كَرَمٍ وَبِرٍّ وُجُودٍ وَجَلَالٍ. فَإِنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. وَيَسْتَحْيِي أَنْ يُعَذِّبَ ذَا شَيْبَةٍ شَابَتْ فِي الْإِسْلَامِ.وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ يَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ يُذْنِبُ عَبْدُهُ وَيَسْتَحْيِي هُوَ. وَفِي أَثَرٍ: مَنِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ اسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ..[أَقْسَامُ الْحَيَاءِ]: وَقَدْ قَسَّمَ الْحَيَاءَ عَلَى عَشَرَةِ أَوْجُهٍ: حَيَاءُ جِنَايَةٍ. وَحَيَاءُ تَقْصِيرٍ. وَحَيَاءُ إِجْلَالٍ. وَحَيَاءُ كَرَمٍ. وَحَيَاءُ حِشْمَةٍ. وَحَيَاءُ اسْتِصْغَارٍ لِلنَّفْسِ وَاحْتِقَارٍ لَهَا. وَحَيَاءُ مَحَبَّةٍ. وَحَيَاءُ عُبُودِيَّةٍ. وَحَيَاءُ شَرَفٍ وَعِزَّةٍ. وَحَيَاءُ الْمُسْتَحْيِي مِنْ نَفْسِهِ.فَأَمَّا حَيَاءُ الْجِنَايَةِ: فَمِنْهُ حَيَاءُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا فَرَّ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفِرَارًا مِنِّي يَا آدَمُ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. بَلْ حَيَاءً مِنْكَ.وَحَيَاءُ التَّقْصِيرِ: كَحَيَاءِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ! مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ.وَحَيَاءُ الْإِجْلَالِ: هُوَ حَيَاءُ الْمَعْرِفَةِ. وَعَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْهُ.وَحَيَاءُ الْكَرَمِ: كَحَيَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَطَوَّلُوا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ. فَقَامَ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا.وَحَيَاءُ الْحِشْمَةِ: كَحَيَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمَذْيِ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنْهُ.وَحَيَاءُ الِاسْتِحْقَارِ وَاسْتِصْغَارِ النَّفْسِ: كَحَيَاءِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ يَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ، احْتِقَارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهَا. وَفِي أَثَرٍ إِسْرَائِيلِيٍّ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ، إِنَّهُ لَتُعْرَضُ لِيَ الْحَاجَةُ مِنَ الدُّنْيَا. فَأَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَكَ هِيَ يَا رَبِّ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينَتِكَ. وَعَلَفَ شَاتِكَ.وَقَدْ يَكُونُ لِهَذَا النَّوْعِ سَبَبَانِ.أَحَدُهُمَا: اسْتِحْقَارُ السَّائِلِ نَفْسَهُ. وَاسْتِعْظَامُ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ.الثَّانِي: اسْتِعْظَامُ مَسْئُولِهِ.وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَحَبَّةِ: فَهُوَ حَيَاءُ الْمُحِبِّ مِنْ مَحْبُوبِهِ، حَتَّى إِنَّهُ إِذَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ فِي غَيْبَتِهِ هَاجَ الْحَيَاءُ مِنْ قَلْبِهِ، وَأَحَسَّ بِهِ فِي وَجْهِهِ. وَلَا يَدْرِي مَا سَبَبُهُ. وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لِلْمُحِبِّ عِنْدَ مُلَاقَاتِهِ مَحْبُوبِهِ وَمُفَاجَأَتِهِ لَهُ رَوْعَةٌ شَدِيدَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَالٌ رَائِعٌ. وَسَبَبُ هَذَا الْحَيَاءِ وَالرَّوْعَةِ مِمَّا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِلْمَحَبَّةِ سُلْطَانًا قَاهِرًا لِلْقَلْبِ أَعْظَمَ مِنْ سُلْطَانِ مَنْ يَقْهَرُ الْبَدَنَ. فَأَيْنَ مَنْ يَقْهَرُ قَلْبَكَ وَرُوحَكَ إِلَى مَنْ يَقْهَرُ بَدَنَكَ؟ وَلِذَلِكَ تَعَجَّبَتِ الْمُلُوكُ وَالْجَبَابِرَةُ مِنْ قَهْرِهِمْ لِلْخَلْقِ وَقَهْرِ الْمَحْبُوبِ لَهُمْ، وَذُلِّهِمْ لَهُ. فَإِذَا فَاجَأَ الْمَحْبُوبُ مُحِبَّهُ. وَرَآهُ بَغْتَةً: أَحَسَّ الْقَلْبُ بِهُجُومِ سُلْطَانِهِ عَلَيْهِ. فَاعْتَرَاهُ رَوْعَةٌ وَخَوْفٌ.وَسَأَلْنَا يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ- عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ فَذَكَرْتُ أَنَا هَذَا الْجَوَابَ. فَتَبَسَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.وَأَمَّا الْحَيَاءُ الَّذِي يَعْتَرِيهِ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ- كَأَمَتِهِ وَزَوْجَتِهِ- فَسَبَبُهُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ هَذَا السُّلْطَانَ لَمَّا زَالَ خَوْفُهُ عَنِ الْقَلْبِ بَقِيَتْ هَيْبَتُهُ وَاحْتِشَامُهُ. فَتَوَلَّدَ مِنْهَا الْحَيَاءُ. وَأَمَّا حُصُولُ ذَلِكَ لَهُ فِي غَيْبَةِ الْمَحْبُوبِ: فَظَاهِرٌ. لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ. فَوَهْمُهُ يُغَالِطُهُ عَلَيْهِ وَيُكَابِرُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ مَعَهُ.وَأَمَّا حَيَاءُ الْعُبُودِيَّةِ: فَهُوَ حَيَاءٌ مُمْتَزِجٌ مِنْ مَحَبَّةٍ وَخَوْفٍ، وَمُشَاهَدَةِ عَدَمِ صَلَاحِ عُبُودِيَّتِهِ لِمَعْبُودِهِ، وَأَنَّ قَدْرَهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْهَا. فَعُبُودِيَّتُهُ لَهُ تُوجِبُ اسْتِحْيَاءَهُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ.وَأَمَّا حَيَاءُ الشَّرَفِ وَالْعِزَّةِ: فَحَيَاءُ النَّفْسِ الْعَظِيمَةِ الْكَبِيرَةِ إِذَا صَدَرَ مِنْهَا مَا هُوَ دُونَ قَدْرِهَا مِنْ بَذْلٍ أَوْ عَطَاءٍ وَإِحْسَانٍ. فَإِنَّهُ يَسْتَحْيِي مَعَ بَذْلِهِ حَيَاءَ شَرَفِ نَفْسٍ وَعِزَّةٍ. وَهَذَا لَهُ سَبَبَانِ.أَحَدُهُمَا هَذَا. وَالثَّانِي: اسْتِحْيَاؤُهُ مِنَ الْآخِذِ، حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ السَّائِلُ. حَتَّى إِنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْكَرَمِ لَا تُطَاوِعُهُ نَفْسُهُ بِمُوَاجَهَتِهِ لِمَنْ يُعْطِيهِ حَيَاءً مِنْهُ. وَهَذَا يَدْخُلُ فِي حَيَاءِ التَّلَوُّمِ. لِأَنَّهُ يَسْتَحْيِي مِنْ خَجْلَةِ الْآخِذِ.وَأَمَّا حَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الْعَزِيزَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ. فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ، حَتَّى كَأَنَّ لَهُ نَفْسَيْنِ، يَسْتَحْيِي بِإِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى. وَهَذَا أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَاءِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اسْتَحْيَى مِنْ نَفْسِهِ. فَهُوَ بِأَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْدَرُ..فَصْلٌ: [الْحَيَاءُ أَوَّلُ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ]: قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ:الْحَيَاءُ: مِنْ أَوَّلِ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ. يَتَوَلَّدُ مِنْ تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ.إِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ أَوَّلِ مَدَارِجِ أَهْلِ الْخُصُوصِ: لِمَا فِيهِ مِنْ مُلَاحَظَةِ حُضُورِ مَنْ يَسْتَحْيِي مِنْهُ. وَأَوَّلُ سُلُوكِ أَهْلِ الْخُصُوصِ: أَنْ يَرَوُا الْحَقَّ سُبْحَانَهُ حَاضِرًا مَعَهُمْ، وَعَلَيْهِ بِنَاءُ سُلُوكِهِمْ.وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ تَعْظِيمٍ مَنُوطٍ بِوُدٍّ.يَعْنِي: أَنَّ الْحَيَاءَ حَالَةٌ حَاصِلَةٌ مِنِ امْتِزَاجِ التَّعْظِيمِ بِالْمَوَدَّةِ. فَإِذَا اقْتَرَنَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا الْحَيَاءُ.وَالْجُنَيْدُ يَقُولُ: إِنَّ تَوَلُّدَهُ مِنْ مُشَاهَدَةِ النِّعَمِ. وَرُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ.وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: تُوَلُّدُهُ مِنْ شُعُورِ الْقَلْبِ بِمَا يَسْتَحْيِي مِنْهُ. فَيَتَوَلَّدُ مِنْ هَذَا الشُّعُورِ وَالنُّفْرَةِ حَالَةٌ تُسَمَّى الْحَيَاءَ.وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ. فَإِنَّ لِلْحَيَاءِ عِدَّةَ أَسْبَابٍ. قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَكَلٌّ أَشَارَ إِلَى بَعْضِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [دَرَجَاتُ الْحَيَاءِ]: .[الدَّرَجَةُ الْأُولَى حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ]: قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ عِلْمِ الْعَبْدِ بِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ. فَيَجْذِبُهُ إِلَى تَحَمُّلِ هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ. وَيَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ الْجِنَايَةِ. وَيُسْكِتُهُ عَنِ الشَّكْوَى.يَعْنِي: أَنَّ الْعَبْدَ مَتَى عَلِمَ أَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى نَاظِرٌ إِلَيْهِ أَوْرَثَهُ هَذَا الْعِلْمُ حَيَاءً مِنْهُ. يَجْذِبُهُ إِلَى احْتِمَالِ أَعْبَاءِ الطَّاعَةِ، مِثْلَ الْعَبْدِ إِذَا عَمِلَ الشُّغْلَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَشِيطًا فِيهِ، مُحْتَمِلًا لِأَعْبَائِهِ. وَلَا سِيَّمَا مَعَ الْإِحْسَانِ مِنْ سَيِّدِهِ إِلَيْهِ، وَمَحَبَّتِهِ لِسَيِّدِهِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ غَائِبًا عَنْ سَيِّدِهِ. وَالرَّبُّ تَعَالَى لَا يَغِيبُ نَظَرُهُ عَنْ عَبْدِهِ. وَلَكِنْ يَغِيبُ نَظَرُ الْقَلْبِ وَالْتِفَاتُهُ إِلَى نَظَرِهِ سُبْحَانَهُ إِلَى الْعَبِيدِ. فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا غَابَ نَظَرُهُ، وَقَلَّ الْتِفَاتُهُ إِلَى نَظَرِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ قِلَّةُ الْحَيَاءِ وَالْقِحَةُ.وَكَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى اسْتِقْبَاحِ جِنَايَتِهِ. وَهَذَا الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ بِالْحَيَاءِ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى اسْتِقْبَاحِ مُلَاحَظَةِ الْوَعِيدِ. وَهُوَ فَوْقَهُ.وَأَرْفَعُ مِنْهُ دَرَجَةً: الِاسْتِقْبَاحُ الْحَاصِلُ عَنِ الْمَحَبَّةِ. فَاسْتِقْبَاحُ الْمُحِبِّ أَتَمُّ مِنِ اسْتِقْبَاحِ الْخَائِفِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحَيَاءَ يَكُفُّ الْعَبْدَ أَنْ يَشْتَكِيَ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَيَكُونَ قَدْ شَكَا اللَّهَ إِلَى خَلْقِهِ. وَلَا يَمْنَعُ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. فَإِنَّ الشَّكْوَى إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَقْرٌ، وَذِلَّةٌ، وَفَاقَةٌ، وَعُبُودِيَّةٌ. فَالْحَيَاءُ مِنْهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ لَا يُنَافِيهَا..فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ]: قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنَ النَّظَرِ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ. فَيَدْعُوهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ. وَيَرْبُطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ. وَيُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ.النَّظَرُ فِي عِلْمِ الْقُرْبِ: تَحَقُّقُ الْقَلْبِ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ الْمَعِيَّةَ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ. وَهِيَ: مَعِيَّةُ الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}.وَخَاصَّةٌ: وَهِيَ مَعِيَّةُ الْقُرْبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.فَهَذِهِ مَعِيَّةُ قُرْبٍ. تَتَضَمَّنُ الْمُوَالَاةَ، وَالنَّصْرَ، وَالْحِفْظَ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مُصَاحَبَةٌ مِنْهُ لِلْعَبْدِ. لَكِنَّ هَذِهِ مُصَاحَبَةُ اطِّلَاعٍ وَإِحَاطَةٍ. وَهَذِهِ مُصَاحَبَةُ مُوَالَاةٍ وَنَصْرٍ وَإِعَانَةٍ. فَـ مَعَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُفِيدُ الصُّحْبَةَ اللَّائِقَةَ، لَا تُشْعِرُ بِامْتِزَاجٍ وَلَا اخْتِلَاطٍ، وَلَا مُجَاوَرَةٍ، وَلَا مُجَانَبَةٍ. فَمَنْ ظَنَّ مِنْهَا شَيْئًا مِنْ هَذَا فَمِنْ سُوءِ فَهْمِهِ أُتِيَ.وَأَمَّا الْقُرْبُ: فَلَا يَقَعُ الْقُرْآنُ إِلَّا خَاصًّا. وَهُوَ نَوْعَانِ: قُرْبُهُ مِنْ دَاعِيهِ بِالْإِجَابَةِ. وَقُرْبُهُ مِنْ عَابِدِهِ بِالْإِثَابَةِ.فَالْأَوَّلُ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وَلِهَذَا نَزَلَتْ جَوَابًا لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيَهُ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.وَالثَّانِي: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ». وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ. فَهَذَا قُرْبُهُ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ.وَفِي الصَّحِيحِ: عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ. فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا بِالتَّكْبِيرِ. فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ. إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا. إِنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ. أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ».فَهَذَا قُرْبٌ خَاصٌّ بِالدَّاعِي دُعَاءَ الْعِبَادَةِ وَالثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ. وَهَذَا الْقُرْبُ لَا يُنَافِي كَمَالَ مُبَايَنَةِ الرَّبِّ لِخَلْقِهِ، وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ. بَلْ يُجَامِعُهُ وَيُلَازِمُهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ كَقُرْبِ الْأَجْسَامِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَلَكِنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ. وَالْعَبْدُ فِي الشَّاهِدِ يَجِدُ رُوحَهُ قَرِيبَةً جِدًّا مِنْ مَحْبُوبٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَفَاوِزُ تَتَقَطَّعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ. وَيَجِدُهُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ جَلِيسِهِ. كَمَا قِيلَ.وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَوْلِيَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَثَتُهُ وَأَحِبَّاؤُهُ، الَّذِينَ هُوَ عِنْدَهُمْ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وَأَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْهَا: يَجِدُونَ نُفُوسَهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهِ. وَهُمْ فِي الْأَقْطَارِ النَّائِيَةِ عَنْهُ مِنْ جِيرَانِ حُجْرَتِهِ فِي الْمَدِينَةِ، وَالْمُحِبُّونَ الْمُشْتَاقُونَ لِلْكَعْبَةِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ يَجِدُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَرْوَاحَهُمْ أَقْرَبَ إِلَيْهَا مِنْ جِيرَانِهَا وَمَنْ حَوْلَهَا. هَذَا مَعَ عَدَمِ تَأَتِّي الْقُرْبِ مِنْهَا. فَكَيْفَ بِمَنْ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ يَشَاءُ، وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ. وَأَهْلُ الذَّوْقِ لَا يَلْتَفِتُونَ فِي ذَلِكَ إِلَى شُبْهَةِ مُعَطِّلٍ بَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ، خَلِيٍّ مِنْ مَحَبَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ.وَالْقَصْدُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْبَ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى رُكُوبِ الْمَحَبَّةِ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ حُبًّا ازْدَادَ قُرْبًا. فَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ قُرْبَيْنِ: قُرْبٍ قَبْلَهَا، وَقُرْبٍ بَعْدَهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ: مَعْرِفَةٍ قَبْلَهَا حَمَلَتْ عَلَيْهَا، وَدَعَتْ إِلَيْهَا، وَدَلَّتْ عَلَيْهَا. وَمَعْرِفَةٍ بَعْدَهَا. هِيَ مِنْ نَتَائِجِهَا وَآثَارِهَا.وَأَمَّا رَبْطُهُ بِرُوحِ الْأُنْسِ: فَهُوَ تَعَلُّقُ قَلْبِهِ بِرُوحِ الْأُنْسِ بِاللَّهِ، تَعَلُّقًا لَازِمًا لَا يُفَارِقُهُ. بَلْ يَجْعَلُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَالْأُنْسِ رَابِطَةً لَازِمَةٍ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا يُكَرِّهُ إِلَيْهِ مُلَابَسَةَ الْخَلْقِ. بَلْ يَجِدُ الْوَحْشَةَ فِي مُلَابَسَتِهِمْ بِقَدْرِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ، وَقُرَّةِ عَيْنِهِ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ. فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ. فَإِنْ لَابَسَهُمْ لَابَسَهُمْ بِرَسْمِهِ دُونَ سِرِّهِ وَرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. فَقَلْبُهُ وَرُوحُهُ فِي مَلَأٍ، وَبَدَنُهُ وَرَسْمُهُ فِي مَلَأٍ. .فَصْلٌ: [الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ]: قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: حَيَاءٌ يَتَوَلَّدُ مِنْ شُهُودِ الْحَضْرَةِ. وَهِيَ الَّتِي لَا تَشُوبُهَا هَيْبَةٌ. وَلَا تُقَارِنُهَا تَفْرِقَةٌ. وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ.شُهُودُ الْحَضْرَةِ: انْجِذَابُ الرُّوحِ وَالْقَلْبِ مِنَ الْكَائِنَاتِ، وَعُكُوفُهُ عَلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ، فَهُوَ فِي حَضْرَةِ قُرْبِهِ مُشَاهِدًا لَهَا. وَإِذَا وَصَلَ الْقَلْبُ إِلَيْهَا غَشِيَتْهُ الْهَيْبَةُ وَزَالَتْ عَنْهُ التَّفْرِقَةُ. إِذْ مَا مَعَ اللَّهِ سِوَاهُ. فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ سِوَى اللَّهِ وَحْدَهُ. وَهَذَا مَقَامُ الْجَمْعِيَّةِ.وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَا يُوقَفُ لَهَا عَلَى غَايَةٍ.فَيَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إِلَى مَطْلُوبِهِ، وَظَفِرَ بِهِ: وَصَلَ إِلَى الْغَايَةِ، إِلَّا صَاحِبَ هَذَا الْمَشْهَدِ. فَإِنَّهُ لَا يَقِفُ بِحَضْرَةِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَى غَايَةٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ. بَلْ إِذَا شَهِدَ تِلْكَ الرَّوَابِيَ. وَوَقَفَ عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ، وَعَايَنَ الْحَضْرَةَ الَّتِي هِيَ غَايَةُ الْغَايَاتِ، شَارَفَ أَمْرًا لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا نِهَايَةَ. وَالْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ كُلُّهَا إِلَيْهِ تَنْتَهِي {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} فَانْتَهَتْ إِلَيْهِ الْغَايَاتُ وَالنِّهَايَاتُ. وَلَيْسَ لَهُ سُبْحَانَهُ غَايَةٌ وَلَا نِهَايَةٌ. لَا فِي وُجُودِهِ، وَلَا فِي مَزِيدِ جُودِهِ. إِذْ هُوَ الْأَوَّلُ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ. وَالْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ. وَلَا نِهَايَةَ لِحَمْدِهِ وَعَطَائِهِ. بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ الْعَبْدُ شُكْرًا زَادَهُ فَضْلًا. وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ طَاعَةً زَادَهُ لِمَجْدِهِ مَثُوبَةً. وَكُلَّمَا ازْدَادَ مِنْهُ قُرْبًا لَاحَ لَهُ مِنْ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا أَبَدًا لَا يَقِفُ عَلَى غَايَةٍ وَلَا نِهَايَةٍ. وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي مَزِيدٍ دَائِمٍ بِلَا انْتِهَاءٍ فَإِنَّ نَعِيمَهُمْ مُتَّصِلٌ مِمَّنْ لَا نِهَايَةَ لِفَضْلِهِ وَلَا لِعَطَائِهِ، وَلَا لِمَزِيدِهِ وَلَا لِأَوْصَافِهِ. فَتَبَارَكَ اللَّهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ}. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ..فَصْلٌ: مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ: [حَقِيقَةُ الصِّدْقِ]وَمِنْ مَنَازِلِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مَنْزِلَةُ الصِّدْقِ وَهِيَ مَنْزِلَةُ الْقَوْمِ الْأَعْظَمِ. الَّذِي مِنْهُ تَنْشَأُ جَمِيعُ مَنَازِلِ السَّالِكِينَ، وَالطَّرِيقُ الْأَقْوَمُ الَّذِي مَنْ لَمْ يَسِرْ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْمُنْقَطِعِينَ الْهَالِكِينَ. وَبِهِ تَمَيَّزَ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَسُكَّانُ الْجِنَانِ مِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ. وَهُوَ سَيْفُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ الَّذِي مَا وُضِعَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا قَطَعَهُ. وَلَا وَاجَهَ بَاطِلًا إِلَّا أَرْدَاهُ وَصَرَعَهُ. مَنْ صَالَ بِهِ لَمْ تُرَدَّ صَوْلَتُهُ. وَمَنْ نَطَقَ بِهِ عَلَتْ عَلَى الْخُصُومِ كَلِمَتُهُ. فَهُوَ رُوحُ الْأَعْمَالِ، وَمَحَكُّ الْأَحْوَالِ، وَالْحَامِلُ عَلَى اقْتِحَامِ الْأَهْوَالِ، وَالْبَابُ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ الْوَاصِلُونَ إِلَى حَضْرَةِ ذِي الْجَلَالِ. وَهُوَ أَسَاسُ بِنَاءِ الدِّينِ، وَعَمُودُ فُسْطَاطِ الْيَقِينِ. وَدَرَجَتُهُ تَالِيَةٌ لِدَرَجَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ دَرَجَاتِ الْعَالِمِينَ. وَمِنْ مَسَاكِنِهِمْ فِي الْجَنَّاتِ تُجْرَى الْعُيُونُ وَالْأَنْهَارُ إِلَى مَسَاكِنِ الصِّدِّيقِينَ. كَمَا كَانَ مِنْ قُلُوبِهِمْ إِلَى قُلُوبِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَدَدٌ مُتَّصِلٌ وَمَعِينٌ.وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. وَخَصَّ الْمُنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِالنَّبِيَّيْنِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وقال تَعَالَى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَهُمُ الرَّفِيقُ الْأَعْلَى {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} وَلَا يَزَالُ اللَّهُ يَمُدُّهُمْ بِأَنْعُمِهِ وَأَلْطَافِهِ وَمَزِيدِهِ إِحْسَانًا مِنْهُ وَتَوْفِيقًا. وَلَهُمْ مَرْتَبَةُ الْمَعِيَّةِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّادِقِينَ، وَلَهُمْ مَنْزِلَةُ الْقُرْبِ مِنْهُ. إِذْ دَرَجَتُهُمْ مِنْهُ ثَانِي دَرَجَةِ النَّبِيِّينَ.وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ صَدَقَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. فَقَالَ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}.وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْبِرِّ. وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ: مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالصَّبْرِ. بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الصِّدْقِ فَقَالَ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصِّدْقَ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. وَأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ مَقَامُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ.وَقَسَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النَّاسَ إِلَى صَادِقٍ وَمُنَافِقٍ. فَقَالَ: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}.وَالْإِيمَانُ أَسَاسُهُ الصِّدْقُ. وَالنِّفَاقُ أَسَاسُهُ الْكَذِبُ. فَلَا يَجْتَمِعُ كَذِبٌ وَإِيمَانٌ إِلَّا وَأَحَدُهُمَا مُحَارِبٌ لِلْآخَرِ.وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ: أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ وَيُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِهِ إِلَّا صِدْقُهُ. قَالَ تَعَالَى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تَعَالَى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ: هُوَ مِنْ شَأْنِهِ الصِّدْقُ فِي قَوْلِهِ وَعَمَلِهِ وَحَالِهِ. فَالصِّدْقُ: فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ.فَالصِّدْقُ فِي الْأَقْوَالِ: اسْتِوَاءُ اللِّسَانِ عَلَى الْأَقْوَالِ، كَاسْتِوَاءِ السُّنْبُلَةِ عَلَى سَاقِهَا. وَالصِّدْقُ فِي الْأَعْمَالِ: اسْتِوَاءُ الْأَفْعَالِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْمُتَابَعَةِ. كَاسْتِوَاءِ الرَّأْسِ عَلَى الْجَسَدِ. وَالصِّدْقُ فِي الْأَحْوَالِ: اسْتِوَاءُ أَعْمَالِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ عَلَى الْإِخْلَاصِ. وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ، وَبَذْلُ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ الْعَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ. وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ: تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: ذُرْوَةُ سَنَامِ الصِّدِّيقِيَّةِ، سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالصِّدِّيقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ وَالصَّدُوقُ أَبْلَغُ مِنَ الصَّادِقِ.فَأَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ: مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ.وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ: أَنْ يَسْأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مُدْخَلَهُ وَمُخْرَجَهُ عَلَى الصِّدْقِ. فَقَالَ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} وَأَخْبَرَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ سَأَلَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. فَقَالَ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} وَبَشَّرَ عِبَادَهُ بِأَنَّ لَهُمْ عِنْدَهُ قَدَمَ صِدْقٍ، وَمَقْعَدَ صِدْقٍ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}.فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: مُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ. وَلِسَانُ الصِّدْقِ، وَقَدَمُ الصِّدْقِ، وَمَقْعَدُ الصِّدْقِ.وَحَقِيقَةُ الصِّدْقِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ: هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ، الْمُتَّصِلُ بِاللَّهِ، الْمُوَصِّلُ إِلَى اللَّهِ. وَهُوَ مَا كَانَ بِهِ وَلَهُ، مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ. وَجَزَاءُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.فَمُدْخَلُ الصِّدْقِ، وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ: أَنْ يَكُونَ دُخُولُهُ وَخُرُوجُهُ حَقًّا ثَابِتًا بِاللَّهِ، وَفِي مَرْضَاتِهِ. بِالظَّفَرِ بِالْبُغْيَةِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، ضِدَّ مُخْرَجِ الْكَذِبِ وَمُدْخَلِهِ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ يُوَصَلُ إِلَيْهَا. وَلَا لَهُ سَاقٌ ثَابِتَةٌ يَقُومُ عَلَيْهَا. كَمُخْرَجِ أَعْدَائِهِ يَوْمَ بَدْرٍ. وَمُخْرَجُ الصِّدْقِ كَمُخْرَجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ.وَكَذَلِكَ مُدْخَلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ: كَانَ مُدْخَلُ صِدْقٍ بِاللَّهِ، وَلِلَّهِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ. فَاتَّصَلَ بِهِ التَّأْيِيدُ، وَالظَّفَرُ وَالنَّصْرُ، وَإِدْرَاكُ مَا طَلَبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِخِلَافِ مُدْخَلِ الْكَذِبِ الَّذِي رَامَ أَعْدَاؤُهُ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِاللَّهِ، وَلَا لِلَّهِ. بَلْ كَانَ مُحَادَّةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَمْ يَتَّصِلْ بِهِ إِلَّا الْخِذْلَانُ وَالْبَوَارُ.وَكَذَلِكَ مُدْخَلُ مَنْ دَخَلَ مِنَ الْيَهُودِ الْمُحَارِبِينَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِصْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُدْخَلَ كَذِبٍ: أَصَابَهُ مَعَهُمْ مَا أَصَابَهُمْ.فَكُلُّ مُدْخَلٍ مَعَهُمْ وَمُخْرَجٍ كَانَ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ. فَصَاحِبُهُ ضَامِنٌ عَلَى اللَّهِ. فَهُوَ مُدْخَلُ صِدْقٍ، وَمُخْرَجُ صِدْقٍ.وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ: رَفَعَ رَأَسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُخْرَجَ مُخْرَجًا لَا أَكُونُ فِيهِ ضَامِنًا عَلَيْكَ.يُرِيدُ: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُخْرَجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ. وَلِذَلِكَ فُسِّرَ مُدْخَلُ الصِّدْقِ وَمُخْرَجُهُ: بِخُرُوجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ، وَدُخُولِهِ الْمَدِينَةَ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ. فَإِنَّ هَذَا الْمُدْخَلَ وَالْمُخْرَجَ مِنْ أَجَلِّ مَدَاخِلِهِ وَمَخَارِجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِلَّا فَمَدَاخِلُهُ كُلُّهَا مَدَاخِلُ صِدْقٍ، وَمَخَارِجُهُ مَخَارِجُ صِدْقٍ. إِذْ هِيَ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ، وَلِابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ.وَمَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ سُوقَهُ- أَوْ مُدْخَلًا آخَرَ- إِلَّا بِصِدْقٍ أَوْ بِكَذِبٍ، فَمُخْرَجُ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُدْخَلُهُ: لَا يَعْدُو الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.وَأَمَّا لِسَانُ الصِّدْقِ: فَهُوَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ بِالصِّدْقِ. لَيْسَ ثَنَاءً بِالْكَذِبِ. كَمَا قَالَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ هَاهُنَا: الثَّنَاءُ الْحَسَنُ. فَلَمَّا كَانَ الصِّدْقُ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ مَحَلُّهُ. أَطْلَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْسِنَةَ الْعِبَادِ بِالثَّنَاءِ عَلَى الصَّادِقِ، جَزَاءً وِفَاقًا. وَعَبَّرَ بِهِ عَنْهُ.فَإِنَّ اللِّسَانَ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: هَذَا، وَاللُّغَةُ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقوله: {وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وَيُرَادُ بِهِ الْجَارِحَةُ نَفْسُهَا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}.وَأَمَّا قَدَمُ الصِّدْقِ: فَفُسِّرَ بِالْجَنَّةِ. وَفُسِّرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفُسِّرَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.وَحَقِيقَةُ الْقَدَمِ مَا قَدَّمُوهُ. وَمَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهُمْ قَدَّمُوا الْأَعْمَالَ وَالْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقْدَمُونَ عَلَى الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ جَزَاءُ ذَلِكَ.فَمَنْ فَسَّرَهُ بِهَا أَرَادَ: مَا يَقْدَمُونَ عَلَيْهِ. وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْأَعْمَالِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلِأَنَّهُمْ قَدَّمُوهَا. وَقَدَّمُوا الْإِيمَانَ بِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. فَالثَّلَاثَةُ قَدَمُ صِدْقٍ. وَأَمَّا مَقْعَدُ الصِّدْقِ: فَهُوَ الْجَنَّةُ عِنْدَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.وَوَصْفُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ ثُبُوتَهُ وَاسْتِقْرَارَهُ، وَأَنَّهُ حَقُّ، وَدَوَامَهُ وَنَفْعَهُ، وَكَمَالَ عَائِدَتِهِ. فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ، كَائِنٌ بِهِ وَلَهُ. فَهُوَ صِدْقٌ غَيْرُ كَذِبٍ. وَحَقٌّ غَيْرُ بَاطِلٍ. وَدَائِمٌ غَيْرُ زَائِلٍ. وَنَافِعٌ غَيْرُ ضَارٍّ. وَمَا لِلْبَاطِلِ وَمُتَعَلَّقَاتِهِ إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَلَا مَدْخَلٌ.وَمِنْ عَلَامَاتِ الصِّدْقِ: طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إِلَيْهِ. وَمِنْ عَلَامَاتِ الْكَذِبِ: حُصُولُ الرِّيبَةِ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ- مَرْفُوعًا- مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّدْقُ طُمَأْنِينَةٌ. وَالْكَذِبُ رِيبَةٌ». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ. وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ. وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتُبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» فَجَعَلَ الصِّدْقَ مِفْتَاحَ الصِّدِّيقِيَّةِ وَمَبْدَأَهَا. وَهِيَ غَايَتُهُ. فَلَا يَنَالُ دَرَجَتَهَا كَاذِبٌ أَلْبَتَّةَ. لَا فِي قَوْلِهِ:، وَلَا فِي عَمَلِهِ، وَلَا فِي حَالِهِ. وَلَا سِيَّمَا كَاذِبٌ عَلَى اللَّهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ. أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ. فَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ صِدِّيقٌ أَبَدًا.وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ فِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ. بِتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَهُ. وَتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ. وَإِسْقَاطِ مَا أَوْجَبَهُ، وَإِيجَابِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ، وَكَرَاهَةِ مَا أَحَبَّهُ، وَاسْتِحْبَابِ مَا لَمْ يُحِبَّهُ. كُلُّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلصِّدِّيقِيَّةِ.وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ مَعَهُ فِي الْأَعْمَالِ: بِالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ الصَّادِقِينَ الْمُخْلِصِينَ، وَالزَّاهِدِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ. وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْهُمْ.فَلِذَلِكَ كَانَتِ الصِّدِّيقِيَّةُ: كَمَالَ الْإِخْلَاصِ وَالِانْقِيَادِ، وَالْمُتَابَعَةَ لِلْخَبَرِ وَالْأَمْرِ، ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَتَّى إِنَّ صِدْقَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يُحِلُّ الْبَرَكَةَ فِي بَيْعِهِمَا. وَكَذِبَهُمَا يَمْحَقُ بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا. كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا. فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا. وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا».
|