الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.فَصْلٌ: [قُوَّةُ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ الَّتِي يُسَامَحُ صَاحِبُهَا بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ]: فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُحِبَّ يُسَامَحُ بِمَا لَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ، وَيُعْفَى لِلْوَلِيِّ عَمَّا لَا يُعْفَى لِسِوَاهُ، وَكَذَلِكَ الْعَالِمُ أَيْضًا، يُغْفَرُ لَهُ مَا لَا يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ، كَمَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ- مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ- إِذَا جَمَعَ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، قَالَ لِلْعُلَمَاءِ: إِنِّي كُنْتُ أُعْبَدُ بِفَتْوَاكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْلِطُونَ كَمَا يَخْلِطُ النَّاسُ، وَإِنِّي لَمْ أَضَعْ عِلْمِي فِيكُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُعَذِّبَكُمُ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ، وَقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا وَمُرْسَلًا.فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْجُودِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَكِنْ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِالْعُقُوبَةِ الْمُضَاعَفَةِ الَّتِي وَرَدَ التَّهْدِيدُ بِهَا فِي حَقِّ أُولَئِكَ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ مَا يُكْرَهُ؟ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} أَيْ لَوْلَا تَثْبِيتُنَا لَكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ بَعْضَ الشَّيْءِ، وَلَوْ فَعَلْتَ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ، أَيْ ضَاعَفْنَا لَكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} أَيْ لَوْ أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِيَمِينِهِ، وَقَطَعْنَا نِيَاطَ قَلْبِهِ وَأَهْلَكْنَاهُ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنَ الرُّكُونِ إِلَى أَعْدَائِهِ بِذَرَّةٍ مِنْ قَلْبِهِ، وَمِنَ التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَكَمْ مِنْ رَاكِنٍ إِلَى أَعْدَائِهِ وَمُتَقَوِّلٍ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَدْ أَمْهَلَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ، كَأَرْبَابِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَدِينِهِ.وَمَا ذَكَرْتُمْ فِي قِصَّةِ يُونُسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُسَامَحْ بِغَضْبَةٍ، وَسُجِنَ لِأَجْلِهَا فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَيَكْفِي حَالُ أَبِي الْبَشَرِ حَيْثُ لَمْ يُسَامَحُ بِلُقْمَةٍ، وَكَانَتْ سَبَبَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ.فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا حَقٌّ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَنْ كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ، وَاخْتَصَّهُ مِنْهَا بِمَا لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرَهُ فِي إِعْطَائِهِ مِنْهَا مَا حُرِمَهُ غَيْرُهُ، فَحُبِيَ بِالْإِنْعَامِ، وَخُصَّ بِالْإِكْرَامِ، وَخُصَّ بِمَزِيدِ التَّقْرِيبِ، وَجُعِلَ فِي مَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ الْحَبِيبِ، اقْتَضَتْ حَالُهُ مِنْ حِفْظِ مَرْتَبَةِ الْوِلَايَةِ وَالْقُرْبِ وَالِاخْتِصَاصِ بِأَنْ يُرَاعِيَ مَرْتَبَتَهُ مِنْ أَدْنَى مُشَوِّشٍ وَقَاطِعٍ، فَلِشِدَّةِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَمَزِيدِ تَقْرِيبِهِ، وَاتِّخَاذِهِ لِنَفْسِهِ، وَاصْطِفَائِهِ عَلَى غَيْرِهِ، تَكُونُ حُقُوقُ وَلِيِّهِ وَسَيِّدِهِ عَلَيْهِ أَتَمَّ، وَنِعَمُهُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ فَوْقَ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَهُوَ إِذَا غَفَلَ وَأَخَلَّ بِمُقْتَضَى مَرْتَبَتِهِ نُبِّهَ بِمَا لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ الْبَرَّانِيُّ، مَعَ كَوْنِهِ يُسَامَحُ بِمَا لَمْ يُسَامَحْ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَيَجْتَمِعُ فِي حَقِّهِ الْأَمْرَانِ.وَإِذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَعَدَمِ تَنَاقُضِهِمَا، فَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِهِ، فَإِنَّ الْمَلِكَ يُسَامِحُ خَاصَّتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ بِمَا لَمْ يُسَامِحْ بِهِ مَنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلَتِهِمْ، وَيَأْخُذُهُمْ، وَيُؤَدِّبُهُمْ بِمَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ غَيْرَهُمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَوَاهِدَ هَذَا وَهَذَا، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.وَأَنْتَ إِذَا كَانَ لَكَ عَبْدَانِ، أَوْ وَلَدَانِ، أَوْ زَوْجَتَانِ، أَحَدُهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الْآخَرِ، وَأَقْرَبُ إِلَى قَلْبِكَ، وَأَعَزُّ عَلَيْكَ عَامَلْتَهُ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، وَاجْتَمَعَ فِي حَقِّهِ الْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنْكَ، وَحُبِّكَ لَهُ، وَعِزَّتِهِ عَلَيْكَ، فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى كَمَالِ إِحْسَانِكَ إِلَيْهِ، وَإِتْمَامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِ اقْتَضَتْ مُعَامَلَتُهُ بِمَا لَا تُعَامِلُ بِهِ مَنْ دُونَهُ، مِنَ التَّنْبِيهِ وَعَدَمِ الْإِهْمَالِ، وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى إِحْسَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَكَ، وَطَاعَتِهِ وَخِدْمَتِهِ، وَكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ وَنُصْحِهِ وَهَبْتَ لَهُ وَسَامَحْتَهُ، وَعَفَوْتَ عَنْهُ، بِمَا لَا تَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْمُعَامَلَتَانِ بِحَسَبِ مَا مِنْكَ وَمَا مِنْهُ.وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى فِي الشَّرْعِ، حَيْثُ جَعَلَ حَدَّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا تَعَدَّاهُ إِلَى الزِّنَا الرَّجْمَ، وَحَدَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ هَذِهِ النِّعْمَةَ الْجَلْدَ، وَكَذَلِكَ ضَاعَفَ الْحَدَّ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي قَدْ مَلَّكَهُ نَفْسَهُ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وَجَعَلَ حَدَّ الْعَبْدِ الْمَنْقُوصِ بِالرِّقِّ، الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ نِصْفَ ذَلِكَ.فَسُبْحَانَ مَنْ بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَجَزَائِهِ عُقُولَ الْعَالَمِينَ، وَشَهِدَتْ بِأَنَّهُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ..فَصْلٌ: فِي أَجْنَاسِ مَا يُتَابُ مِنْهُ: [الْكُفْرُ] وَلَا يَسْتَحِقُّ الْعَبْدُ اسْمَ التَّائِبِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ مِنْهَا.وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ جِنْسًا مَذْكُورَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هِيَ أَجْنَاسُ الْمُحَرَّمَاتِ: الْكُفْرُ، وَالشِّرْكُ، وَالنِّفَاقُ، وَالْفُسُوقُ، وَالْعِصْيَانُ، وَالْإِثْمُ، وَالْعُدْوَانُ، وَالْفَحْشَاءُ، وَالْمُنْكَرُ، وَالْبَغْيُ، وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ، وَاتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.فَهَذِهِ الِاثْنَا عَشَرَ جِنْسًا عَلَيْهَا مَدَارُ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَإِلَيْهَا انْتِهَاءُ الْعَالَمِ بِأَسْرِهِمْ إِلَّا أَتْبَاعَ الرُّسُلِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ أَكْثَرُهَا وَأَقَلُّهَا، أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، وَقَدْ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا يَعْلَمُ.فَالتَّوْبَةُ النَّصُوحُ هِيَ بِالتَّخَلُّصِ مِنْهَا، وَالتَّحَصُّنِ وَالتَّحَرُّزِ مِنْ مُوَاقَعَتِهَا، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا لِمَنْ عَرَفَهَا.وَنَحْنُ نَذْكُرُهَا، وَنَذْكُرُ مَا اجْتَمَعَتْ فِيهِ وَمَا افْتَرَقَتْ، لِتَتَبَيَّنَ حُدُودَهَا وَحَقَائِقَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ، كَمَا وَفَّقَ لَهُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.وَهَذَا الْفَصْلُ مِنْ أَنْفَعِ فُصُولِ الْكِتَابِ، وَالْعَبْدُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إِلَيْهِ.الْكُفْرُ:فَأَمَّا الْكُفْرُ فَنَوْعَانِ: كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَكُفْرٌ أَصْغَرُ.فَالْكَفْرُ الْأَكْبَرُ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْخُلُودِ فِي النَّارِ.وَالْأَصْغَرُ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْوَعِيدِ دُونَ الْخُلُودِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى- وَكَانَ مِمَّا يُتْلَى فَنُسِخَ لَفْظُهُ- «لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ» وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ «اثْنَتَانِ فِي أُمَّتِي، هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ» وَقَوْلُهُ فِي السُّنَنِ «مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ» وَقَوْلِهِ: «لَا تَرْجِعُوا بِعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَهَذَا تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ، بَلْ إِذَا فَعَلَهُ فَهُوَ بِهِ كُفْرٌ، وَلَيْسَ كَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوُسٌ، وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفِسْقٌ دُونَ فِسْقٍ.وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ جَاحِدًا لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ مَرْجُوحٌ، فَإِنَّ نَفْسَ جُحُودِهِ كُفْرٌ، سَوَاءٌ حَكَمَ أَوْ لَمْ يَحْكُمْ.وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، قَالَ: وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِسْلَامِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيِّ، وَهُوَ أَيْضًا بَعِيدٌ، إِذِ الْوَعِيدُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بِالْمُنَزَّلِ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ تَعْطِيلَ الْحُكْمِ بِجَمِيعِهِ وَبِبَعْضِهِ.وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْحُكْمِ بِمُخَالَفَةِ النَّصِّ، تَعَمُّدًا مِنْ غَيْرِ جَهْلٍ بِهِ وَلَا خَطَأٍ فِي التَّأْوِيلِ، حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ الْعُلَمَاءِ عُمُومًا.وَمِنْهُمْ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالضَّحَاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ.وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ.وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ يَتَنَاوَلُ الْكُفْرَيْنِ، الْأَصْغَرَ وَالْأَكْبَرَ بِحَسَبِ حَالِ الْحَاكِمِ، فَإِنَّهُ إِنِ اعْتَقَدَ وُجُوبَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَعَدَلَ عَنْهُ عِصْيَانًا، مَعَ اعْتِرَافِهِ بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْعُقُوبَةِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَصْغَرُ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، مَعَ تَيَقُّنِهِ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ، فَهَذَا كُفْرٌ أَكْبَرُ، وَإِنْ جَهِلَهُ وَأَخْطَأَهُ فَهَذَا مُخْطِئٌ، لَهُ حُكْمُ الْمُخْطِئِينَ.وَالْقَصْدُ أَنَّ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا مِنْ نَوْعِ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ، فَإِنَّهَا ضِدُّ الشُّكْرِ، الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ، فَالسَّعْيُ إِمَّا شُكْرٌ، وَإِمَّا كَفْرٌ، وَإِمَّا ثَالِثٌ، لَا مِنْ هَذَا وَلَا مِنْ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ..فَصْلٌ: [الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ]: وَأَمَّا الْكُفْرُ الْأَكْبَرُ، فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ: كُفْرُ تَكْذِيبٍ، وَكُفْرُ اسْتِكْبَارٍ وَإِبَاءٍ مَعَ التَّصْدِيقِ، وَكُفْرُ إِعْرَاضٍ، وَكُفْرُ شَكٍّ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ.فَأَمَّا كُفْرُ التَّكْذِيبِ فَهُوَ اعْتِقَادُ كَذِبِ الرُّسُلِ، وَهَذَا الْقِسْمُ قَلِيلٌ فِي الْكُفَّارِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيَّدَ رُسُلَهُ، وَأَعْطَاهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ وَالْآيَاتِ عَلَى صِدْقِهِمْ مَا أَقَامَ بِهِ الْحُجَّةَ، وَأَزَالَ بِهِ الْمَعْذِرَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} وَقَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}.وَإِنَّ سُمِّيَ هَذَا كُفْرَ تَكْذِيبٍ أَيْضًا فَصَحِيحٌ، إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِاللِّسَانِ.وَأَمَّا كُفْرُ الْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ فَنَحْوُ كُفْرِ إِبْلِيسَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْحَدْ أَمْرَ اللَّهِ وَلَا قَابَلَهُ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَلَقَّاهُ بِالْإِبَاءِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَمِنْ هَذَا كُفْرُ مَنْ عَرَفَ صِدْقَ الرَّسُولِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْقَدْ لَهُ إِبَاءً وَاسْتِكْبَارًا، وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى كُفْرِ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ وَقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} وَقَوْلِ الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} وَهُوَ كُفْرُ الْيَهُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وَقَالَ: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} وَهُوَ كُفْرُ أَبِي طَالِبٍ أَيْضًا، فَإِنَّهُ صَدَّقَهُ وَلَمْ يَشُكَّ فِي صِدْقِهِ، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُ الْحَمِيَّةُ، وَتَعْظِيمُ آبَائِهِ أَنْ يَرْغَبَ عَنْ مِلَّتِهِمْ، وَيَشْهَدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ.وَأَمَّا كُفْرُ الْإِعْرَاضِ فَأَنْ يُعْرِضَ بِسَمْعِهِ وَقَلْبِهِ عَنِ الرَّسُولِ، لَا يُصَدِّقُهُ وَلَا يُكَذِّبُهُ، وَلَا يُوَالِيهِ وَلَا يُعَادِيهِ، وَلَا يُصْغِي إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَمَا قَالَ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ أَقُولُ لَكَ كَلِمَةً، إِنْ كُنْتَ صَادِقًا، فَأَنْتَ أَجَلُّ فِي عَيْنِي مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، فَأَنْتَ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ.وَأَمَّا كُفْرُ الشَّكِّ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِصِدْقِهِ وَلَا يُكَذِّبُهُ، بَلْ يَشُكُّ فِي أَمْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَمِرُّ شَكُّهُ إِلَّا إِذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْإِعْرَاضَ عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُمْلَةً، فَلَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا، وَنَظَرِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى مَعَهُ شَكٌّ، لِأَنَّهَا مُسْتَلْزِمَةٌ لِلصِّدْقِ، وَلَا سِيَّمَا بِمَجْمُوعِهَا، فَإِنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى الصِّدْقِ كَدَلَالَةِ الشَّمْسِ عَلَى النَّهَارِ.وَأَمَّا كُفْرُ النِّفَاقِ فَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ الْإِيمَانَ، وَيَنْطَوِيَ بِقَلْبِهِ عَلَى التَّكْذِيبِ، فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الْأَكْبَرُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ أَقْسَامِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى..فَصْلٌ: [الْجُحُودُ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ]: وَكُفْرُ الْجَحُودِ نَوْعَانِ: كُفْرٌ مُطَلَقٌ عَامٌّ، وَكُفْرٌ مُقَيَّدٌ خَاصٌّ.فَالْمُطْلَقُ: أَنْ يَجْحَدَ جُمْلَةَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ، وَإِرْسَالَهُ الرَّسُولَ.وَالْخَاصُّ الْمُقَيَّدُ أَنْ يَجْحَدَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الْإِسْلَامِ، أَوْ تَحْرِيمَ مُحَرَّمٍ مِنْ مُحَرَّمَاتِهِ، أَوْ صِفَةٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، أَوْ خَبَرًا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ، عَمْدًا، أَوْ تَقْدِيمًا لِقَوْلِ مَنْ خَالَفَهُ عَلَيْهِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ.وَأَمَّا جَحْدُ ذَلِكَ جَهْلًا، أَوْ تَأْوِيلًا يُعْذَرُ فِيهِ صَاحِبُهُ فَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهُ بِهِ، كَحَدِيثِ الَّذِي جَحَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يَحْرِقُوهُ وَيَذْرُوهُ فِي الرِّيحِ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، وَرَحِمَهُ لِجَهْلِهِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي فَعَلَهُ مَبْلَغَ عِلْمِهِ، وَلَمْ يَجْحَدْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِعَادَتِهِ عِنَادًا أَوْ تَكْذِيبًا..فَصْلٌ: [الشِّرْكُ]: وَأَمَّا الشِّرْكُ، فَهُوَ نَوْعَانِ: أَكْبَرُ وَأَصْغَرُ، فَالْأَكْبَرُ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إِلَّا بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ نِدًّا، يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي تَضَمَّنَ تَسْوِيَةَ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلِهَذَا قَالُوا لِآلِهَتِهِمْ فِي النَّارِ {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَخْلُقُ وَلَا تُرْزَقُ، وَلَا تُحْيِي وَلَا تُمِيتُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْعِبَادَةِ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ مُشْرِكِي الْعَالَمِ، بَلْ كُلُّهُمْ يُحِبُّونَ مَعْبُودَاتِهِمْ وَيُعَظِّمُونَهَا وَيُوَالُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ- بَلْ أَكْثَرُهُمْ- يُحِبُّونَ آلِهَتَهُمْ أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِذِكْرِهِمْ أَعْظَمَ مِنِ اسْتِبْشَارِهِمْ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيَغْضَبُونَ لِمُنْتَقِصِ مَعْبُودِيهِمْ وَآلِهَتِهِمْ- مِنَ الْمَشَايِخِ- أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُونَ إِذَا انْتَقَصَ أَحَدٌ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرْمَةٌ مِنْ حُرُمَاتِ آلِهَتِهِمْ وَمَعْبُودَاتِهِمْ غَضِبُوا غَضَبَ اللَّيْثِ إِذَا حَرِدَ، وَإِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَغْضَبُوا لَهَا، بَلْ إِذَا قَامَ الْمُنْتَهِكُ لَهَا بِإِطْعَامِهِمْ شَيْئًا رَضُوا عَنْهُ، وَلَمْ تَتَنَكَّرْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ شَاهَدْنَا هَذَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُمْ جَهْرَةً، وَتَرَى أَحَدَهُمْ قَدِ اتَّخَذَ ذِكْرَ إِلَهِهِ وَمَعْبُودِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِهِ دَيْدَنًا لَهُ إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ، وَإِنْ عَثَرَ وَإِنْ مَرِضَ وَإِنِ اسْتَوْحَشَ، فَذِكْرُ إِلَهِهِ وَمَعْبُودِهِ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، وَهُوَ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ بَابُ حَاجَتِهِ إِلَى اللَّهِ، وَشَفِيعُهُ عِنْدَهُ، وَوَسِيلَتُهُ إِلَيْهِ.وَهَكَذَا كَانَ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ سَوَاءً، وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِهِمْ، وَتَوَارَثَهُ الْمُشْرِكُونَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ آلِهَتِهِمْ، فَأُولَئِكَ كَانَتْ آلِهَتُهُمْ مِنَ الْحَجَرِ وَغَيْرُهُمُ اتَّخَذُوهَا مِنَ الْبَشَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى، حَاكِيًا عَنْ أَسْلَافِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ثُمَّ شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْكَذِبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَهْدِيهِمْ فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}.فَهَذِهِ حَالُ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، يَزْعُمُ أَنَّهُ يُقَرِّبُهُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا أَعَزَّ مَنْ يَخْلُصُ مِنْ هَذَا؟ بَلْ مَا أَعَزَّ مَنْ لَا يُعَادِي مَنْ أَنْكَرَهُ!.وَالَّذِي فِي قُلُوبِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَلَفِهِمْ أَنَّ آلِهَتَهُمْ تَشْفَعُ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا عَيْنُ الشِّرْكِ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ وَأَبْطَلَهُ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ كُلَّهَا لَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ، وَرَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، الَّذِينَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يَأْذَنُ لِمَنْ شَاءَ فِي الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَتَّخِذْهُمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِهِ، فَيَكُونُ أَسْعَدَ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مَنْ يَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ صَاحِبُ التَّوْحِيدِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ شَفِيعًا مِنْ دُونِ اللَّهِ رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ.وَالشَّفَاعَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الصَّادِرَةُ عَنْ إِذْنِهِ لِمَنْ وَحَّدَهُ، وَالَّتِي نَفَاهَا اللَّهُ هِيَ الشَّفَاعَةُ الشِّرْكِيَّةُ، الَّتِي فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، الْمُتَّخِذِينَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ، فَيُعَامَلُونَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ مِنْ شُفَعَائِهِمْ، وَيَفُوزُ بِهَا الْمُوَحِّدُونَ.وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ- وَقَدْ سَأَلَهُ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟- قَالَ «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» كَيْفَ جَعَلَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُنَالُ بِهَا شَفَاعَتُهُ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدِ، عَكْسَ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ تُنَالُ بِاتِّخَاذِهِمْ أَوْلِيَاءَهُمْ شُفَعَاءَ، وَعِبَادَتِهِمْ وَمُوَالَاتِهِمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَقَلَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي زَعْمِهِمُ الْكَاذِبِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ سَبَبَ الشَّفَاعَةِ هُوَ تَجْرِيدُ التَّوْحِيدِ، فَحِينَئِذٍ يَأْذَنُ اللَّهُ لِلشَّافِعِ أَنْ يُشَفَّعَ.وَمِنْ جَهْلِ الْمُشْرِكِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَهُ وَلِيًّا أَوْ شَفِيعًا أَنَّهُ يَشْفَعُ لَهُ، وَيَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ، كَمَا يَكُونُ خَوَاصُّ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ تَنْفَعُ شَفَاعَتُهُمْ مَنْ وَالَاهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَأْذَنُ فِي الشَّفَاعَةِ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وَبَقِيَ فَصْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا التَّوْحِيدَ، وَاتِّبَاعَ الرَّسُولِ، وَعَنْ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ يَسْأَلُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، كَمَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَلِمَتَانِ يُسْأَلُ عَنْهُمَا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ: مَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَمَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ؟.فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُصُولٍ، تَقْطَعُ شَجَرَةَ الشِّرْكِ مِنْ قَلْبِ مَنْ وَعَاهَا وَعَقَلَهَا لَا شَفَاعَةَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا يَأْذَنُ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ قَوْلَهُ وَعَمَلَهُ، وَلَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا تَوْحِيدَهُ، وَاتِّبَاعَ رَسُولِهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ شِرْكَ الْعَادِلِينَ بِهِ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ بِهِ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمَحَبَّةِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} وَكَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.وَتَرَى الْمُشْرِكَ يُكَذِّبُ حَالَهُ وَعَمَلَهُ قَوْلُهُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا نُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَلَا نُسَوِّيهِمْ بِاللَّهِ، ثُمَّ يَغْضَبُ لَهُمْ وَلِحُرُمَاتِهِمْ- إِذَا انْتُهِكَتْ- أَعْظَمَ مِمَّا يَغْضَبُ لِلَّهِ، وَيَسْتَبْشِرُ بِذِكْرِهِمْ، وَيَتَبَشْبَشُ بِهِ، سِيَّمَا إِذَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مَا لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ إِغَاثَةِ اللَّهَفَاتِ، وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ، وَأَنَّهُمُ الْبَابُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، فَإِنَّكَ تَرَى الْمُشْرِكَ يَفْرَحُ وَيُسَرُّ وَيَحِنُّ قَلْبُهُ، وَتَهِيجُ مِنْهُ لَوَاعِجُ التَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ لَهُمْ وَالْمُوَالَاةِ، وَإِذَا ذَكَرْتَ لَهُ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَجَرَّدْتَ تَوْحِيدَهُ لَحِقَتْهُ وَحْشَةٌ، وَضِيقٌ، وَحَرَجٌ وَرَمَاكَ بِنَقْصِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي لَهُ، وَرُبَّمَا عَادَاكَ.رَأَيْنَا وَاللَّهِ مِنْهُمْ هَذَا عِيَانًا، وَرَمَوْنَا بِعَدَاوَتِهِمْ، وَبَغَوْا لَنَا الْغَوَائِلَ، وَاللَّهُ مُخْزِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ تَكُنْ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا، كَمَا قَالَ إِخْوَانُهُمْ: عَابَ آلِهَتَنَا، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: تَنَقَّصْتُمْ مَشَايِخَنَا، وَأَبْوَابَ حَوَائِجِنَا إِلَى اللَّهِ، وَهَكَذَا قَالَ النَّصَارَى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَسِيحَ عَبْدُ اللَّهِ، قَالُوا: تَنَقَّصْتَ الْمَسِيحَ وَعِبْتَهُ، وَهَكَذَا قَالَ أَشْبَاهُ الْمُشْرِكِينَ لِمَنْ مَنَعَ اتِّخَاذَ الْقُبُورِ أَوْثَانًا تُعْبَدُ، وَمَسَاجِدَ تُقْصَدُ، وَأَمَرَ بِزِيَارَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ وَرَسُولُهُ، قَالُوا: تَنَقَّصْتَ أَصْحَابَهَا.فَانْظُرْ إِلَى هَذَا التَّشَابُهِ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَدْ تَوَاصَوْا بِهِ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}.وَقَدْ قَطَعَ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَعَلَّقَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ جَمِيعًا، قَطْعًا يَعْلَمُ مَنْ تَأَمَّلَهُ وَعَرَفَهُ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا، أَوْ شَفِيعًا، فَهُو {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} فَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.فَالْمُشْرِكُ إِنَّمَا يَتَّخِذُ مَعْبُودَهُ لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ، وَالنَّفْعُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ إِمَّا مَالِكٌ لِمَا يُرِيدُهُ عِبَادُهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا كَانَ شَرِيكًا لِلْمَالِكِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكًا لَهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ وَظَهِيرًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعِينًا وَلَا ظَهِيرًا كَانَ شَفِيعًا عِنْدَهُ.فَنَفَى سُبْحَانَهُ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ نَفْيًا مُتَرَتِّبًا، مُتَنَقِّلًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى مَا دُونَهُ، فَنَفَى الْمِلْكَ، وَالشِّرْكَةَ، وَالْمُظَاهَرَةَ، وَالشَّفَاعَةَ، الَّتِي يَظُنُّهَا الْمُشْرِكُ، وَأَثْبَتَ شَفَاعَةً لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُشْرِكٍ، وَهِيَ الشَّفَاعَةُ بِإِذْنِهِ.فَكَفَى بِهَذِهِ الْآيَةِ نُورًا، وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً، وَتَجْرِيدًا لِلتَّوْحِيدِ، وَقَطْعًا لِأُصُولِ الشِّرْكِ وَمُوَدَّاهُ لِمَنْ عَقَلَهَا، وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ أَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْعُرُونَ بِدُخُولِ الْوَاقِعِ تَحْتَهُ، وَتَضَمُّنِهِ لَهُ، وَيَظُنُّونَهُ فِي نَوْعٍ وَفِي قَوْمٍ قَدْ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يُعْقِبُوا وَارِثًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ فَهْمِ الْقُرْآنِ.وَلَعَمْرُ اللَّهِ إِنْ كَانَ أُولَئِكَ قَدْ خَلَوْا، فَقَدْ وَرِثَهُمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ، أَوْ شَرٌّ مِنْهُمْ، أَوْ دُونَهُمْ، وَتَنَاوُلُ الْقُرْآنِ لَهُمْ كَتَنَاوُلِهِ لِأُولَئِكَ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إِذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ.وَهَذَا لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْجَاهِلِيَّةَ وَالشِّرْكَ، وَمَا عَابَهُ الْقُرْآنُ وَذَمَّهُ وَقَعَ فِيهِ وَأَقَرَّهُ، وَدَعَا إِلَيْهِ وَصَوَّبَهُ وَحَسَّنَهُ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ نَظِيرُهُ، أَوْ شَرٌّ مِنْهُ، أَوْ دُونَهُ، فَيَنْقُضُ بِذَلِكَ عُرَى الْإِسْلَامِ عَنْ قَلْبِهِ، وَيَعُودُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، وَالسُّنَّةُ بِدْعَةً، وَيَكْفُرُ الرَّجُلُ بِمَحْضِ الْإِيمَانِ وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، وَيُبَدَّعُ بِتَجْرِيدِ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُفَارَقَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَمَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ وَقَلْبٌ حَيٌّ يَرَى ذَلِكَ عِيَانًا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ..فَصْلٌ: [الشِّرْكُ الأَصْغَرُ]: وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ فَكَيَسِيرِ الرِّيَاءِ، وَالتَّصَنُّعِ لِلْخَلْقِ، وَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَقَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ وَمِنْكَ، وَإِنَّا بِاللَّهِ وَبِكَ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ، وَأَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَيْكَ، وَلَوْلَا أَنْتَ لَمْ يَكُنْ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا شِرْكًا أَكْبَرَ، بِحَسَبِ قَائِلِهِ وَمَقْصِدِهِ، وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ قَالَ لَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَمَا شِئْتَ: «أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ قُلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» وَهَذَا اللَّفْظُ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ.وَمِنْ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ سُجُودُ الْمُرِيدِ لِلشَّيْخِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ مِنَ السَّاجِدِ وَالْمَسْجُودِ لَهُ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَيْسَ هَذَا بِسُجُودٍ، وَإِنَّمَا هُوَ وَضْعُ الرَّأْسِ قُدَّامَ الشَّيْخِ احْتِرَامًا وَتَوَاضُعًا، فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: وَلَوْ سَمَّيْتُمُوهُ مَا سَمَّيْتُمُوهُ، فَحَقِيقَةُ السُّجُودِ وَضْعُ الرَّأْسِ لِمَنْ يُسْجَدُ لَهُ، وَكَذَلِكَ السُّجُودُ لِلصَّنَمِ، وَلِلشَّمْسِ، وَلِلنَّجْمِ، وَلِلْحَجَرِ، كُلُّهُ وَضْعُ الرَّأْسِ قُدَّامَهُ.وَمِنْ أَنْوَاعِهِ رُكُوعُ الْمُتَعَمِّمِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ عِنْدِ الْمُلَاقَاةِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَهَذَا سُجُودٌ فِي اللُّغَةِ، وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} أَيْ مُنْحَنِينَ، وَإِلَّا فَلَا يُمْكِنُ الدُّخُولُ بِالْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: سَجَدَتِ الْأَشْجَارُ، إِذَا أَمَالَتْهَا الرِّيحُ.وَمِنْ أَنْوَاعِهِ حَلْقُ الرَّأْسِ لِلشَّيْخِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ فَإِنَّهُ تَعَبُّدٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَا يُتَعَبَّدُ بِحَلْقِ الرَّأْسِ إِلَّا فِي النُّسُكِ لِلَّهِ خَاصَّةً.وَمِنْ أَنْوَاعِهِ التَّوْبَةُ لِلشَّيْخِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ فَإِنَّهَا شِرْكٌ عَظِيمٌ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ، كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالنُّسُكِ، فَهِيَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ.وَفِي الْمُسْنَدِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِأَسِيرٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ، وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ».فَالتَّوْبَةُ عِبَادَةٌ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ، كَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ.وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: النَّذْرُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ شِرْكٌ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ فَكَيْفَ بِمَنْ نَذَرَ لِغَيْرِ اللَّهِ؟ مَعَ أَنَّ فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «النَّذْرُ حَلْفَةٌ».وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: الْخَوْفُ مِنْ غَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالتَّوَكُّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالْعَمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالْإِنَابَةُ وَالْخُضُوعُ، وَالذُّلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَابْتِغَاءُ الرِّزْقِ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَحَمَدُ غَيْرِهِ عَلَى مَا أَعْطَى، وَالْغُنْيَةُ بِذَلِكَ عَنْ حَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَالذَّمُّ وَالسَّخَطُ عَلَى مَا لَمْ يَقْسِمْهُ، وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْقَدَرُ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَإِضَافَةُ نِعَمِهِ إِلَى غَيْرِهِ، أَنْوَاعُ الشِّرْكِ وَاعْتِقَادُ أَنْ يَكُونَ فِي الْكَوْنِ مَا لَا يَشَاؤُهُ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ.وَمِنْ أَنْوَاعِهِ طَلَبُ الْحَوَائِجِ مِنَ الْمَوْتَى، وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِمْ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِمْ أَنْوَاعُ الشِّرْكِ.وَهَذَا أَصْلُ شِرْكِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ قَدِ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرَّا وَلَا نَفْعًا، فَضْلًا عَمَّنِ اسْتَغَاثَ بِهِ وَسَأَلَهُ قَضَاءَ حَاجَتِهِ، أَوْ سَأَلَهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ إِلَى اللَّهِ فِيهَا، وَهَذَا مِنْ جَهْلِهِ بِالشَّافِعِ وَالْمَشْفُوعِ لَهُ عِنْدَهُ, كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ لَمْ يَجْعَلِ اسْتِغَاثَتَهُ وَسُؤَالَهُ سَبَبًا لِإِذْنِهِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ لِإِذْنِهِ كَمَالُ التَّوْحِيدِ، فَجَاءَ هَذَا الْمُشْرِكُ بِسَبَبٍ يَمْنَعُ الْإِذْنَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتَعَانَ فِي حَاجَةٍ بِمَا يَمْنَعُ حُصُولَهَا، وَهَذِهِ حَالَةُ كُلِّ مُشْرِكٍ، وَالْمَيِّتُ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَدْعُو لَهُ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ، كَمَا أَوْصَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا زُرْنَا قُبُورَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَتَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ، وَنَسْأَلَ لَهُمُ الْعَافِيَةَ وَالْمَغْفِرَةَ، فَعَكَسَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا، وَزَارُوهُمْ زِيَارَةَ الْعِبَادَةِ، وَاسْتِقْضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ، وَجَعَلُوا قُبُورَهُمْ أَوْثَانًا تُعْبَدُ، وَسَمَّوْا قَصْدَهَا حَجًّا، وَاتَّخَذُوا عِنْدَهَا الْوَقْفَةَ وَحَلَقَ الرَّأْسِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ الشِّرْكِ بِالْمَعْبُودِ الْحَقِّ، وَتَغْيِيرِ دِينِهِ، وَمُعَادَاةِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَنِسْبَةِ أَهْلِهِ إِلَى التَّنَقُّصِ لِلْأَمْوَاتِ، وَهُمْ قَدْ تَنَقَّصُوا الْخَالِقَ بِالشِّرْكِ، وَأَوْلِيَاءَهُ- الْمُوَحِّدِينَ لَهُ، الَّذِينَ لَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا- بِذَمِّهِمْ وَعَيْبِهِمْ وَمُعَادَاتِهِمْ، وَتَنَقَّصُوا مَنْ أَشْرَكُوا بِهِ غَايَةَ التَّنَقُّصِ، إِذْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ رَاضُونَ مِنْهُمْ بِهَذَا، وَأَنَّهُمْ أَمَرُوهُمْ بِهِ، وَأَنَّهُمْ يُوَالُونَهُمْ عَلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَعْدَاءُ الرُّسُلِ وَالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا أَكْثَرَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ! وَلِلَّهِ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}.وَمَا نَجَا مِنْ شَرَكِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ إِلَّا مَنْ جَرَّدَ تَوْحِيدَهُ لِلَّهِ، وَعَادَى الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ، وَتَقَرَّبَ بِمَقْتِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَاتَّخَذَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلِيَّهُ وَإِلَهَهُ وَمَعْبُودَهُ، فَجَرَّدَ حُبَّهُ لِلَّهِ، وَخَوْفَهُ لِلَّهِ، وَرَجَاءَهُ لِلَّهِ، وَذُلَّهُ لِلَّهِ، وَتَوَكُّلَهُ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِعَانَتَهُ بِاللَّهِ، وَالْتِجَاءَهُ إِلَى اللَّهِ، وَاسْتِغَاثَتَهُ بِاللَّهِ، وَأَخْلَصَ قَصْدَهُ لِلَّهِ، مُتَّبِعًا لِأَمْرِهِ، مُتَطَلِّبًا لِمَرْضَاتِهِ، إِذَا سَأَلَ سَأَلَ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَانَ اسْتَعَانَ بِاللَّهِ، وَإِذَا عَمِلَ عَمِلَ لِلَّهِ، فَهُوَ لِلَّهِ، وَبِاللَّهِ، وَمَعَ اللَّهِ.وَالشِّرْكُ أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ، لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ.وَلَوْ ذَهَبْنَا نَذْكُرُ أَنْوَاعَهُ لَاتَّسَعَ الْكَلَامُ أَعْظَمَ اتِّسَاعٍ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُسَاعِدَ بِوَضْعِ كِتَابٍ فِيهِ، وَفِي أَقْسَامِهِ، وَأَسْبَابِهِ وَمَبَادِيهِ، وَمَضَرَّتِهِ، وَمَا يَنْدَفِعُ بِهِ.فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَجَا مِنْهُ وَمِنَ التَّعْطِيلِ- وَهُمَا الدَّاءَانِ اللَّذَانِ هَلَكَتْ بِهِمَا الْأُمَمُ- فَمَا بَعْدَهُمَا أَيْسَرُ مِنْهُمَا، وَإِنْ هَلَكَ بِهِمَا فَبِسَبِيلِ مَنْ هَلَكَ، وَلَا آسَى عَلَى الْهَالِكِينَ.
|