الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)
.[تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ]: وَأَمَّا تَضَمُّنُهَا لِشِفَاءِ الْأَبْدَانِ الرُّقْيَةُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ، وَمَا شَهِدَتْ بِهِ قَوَاعِدُ الطِّبِّ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ التَّجْرِبَةُ.فَأَمَّا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ: فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرُّوا بِحَيٍّ مِنَ الْعَرَبِ، فَلَمْ يُقْرُوهُمْ، وَلِمَ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ رُقْيَةٍ، أَوَ هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُمْ لَمْ تُقِرُّونَا، فَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَطِيعًا مِنَ الْغَنَمِ، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَّا يَقْرَأُ عَلَيْهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَقَامَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ قَلْبَةٌ، فَقُلْنَا: لَا تَعْجَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَيْنَاهُ، فَذَكَرْنَا لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: «مَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ كُلُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ بِسَهْمٍ».فَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ حُصُولَ شِفَاءِ هَذَا اللَّدِيغِ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَيْهِ، فَأَغْنَتْهُ عَنِ الدَّوَاءِ، وَرُبَّمَا بَلَغَتْ مِنْ شِفَائِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ الدَّوَاءُ.هَذَا مَعَ كَوْنِ الْمَحَلِّ غَيْرَ قَابِلٍ، إِمَّا لِكَوْنِ هَؤُلَاءِ الْحَيِّ غَيْرَ مُسْلِمِينَ، أَوْ أَهْلَ بُخْلٍ وَلُؤْمٍ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ الْمَحَلُّ قَابِلًا..فَصْلٌ: [شَهَادَةُ قَوَاعِدِ الطِّبِّ بِذَلِكَ]: وَأَمَّا شَهَادَةُ قَوَاعِدِ الطِّبِّ بِذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّدْغَةَ تَكُونُ مِنْ ذَوَاتِ الْحُمَاتِ وَالسُّمُومِ، وَهِيَ ذَوَاتُ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ الَّتِي تَتَكَيَّفُ بِكَيْفِيَّةٍ غَضَبِيَّةٍ، تُثِيرُ فِيهَا سُمِيَّةً نَارِيَّةً، يَحْصُلُ بِهَا اللَّدْغُ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ خُبْثِ تِلْكَ النُّفُوسِ وَقُوَّتِهَا وَكَيْفِيَّتِهَا، فَإِذَا تَكَيَّفَتْ أَنْفُسُهَا الْخَبِيثَةُ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْغَضَبِيَّةِ أَحْدَثَ لَهَا ذَلِكَ طَبِيعَةً سُمِّيَّةً، تَجِدُ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِلْقَائِهَا إِلَى الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، كَمَا يَجِدُ الشِّرِّيرُ مِنَ النَّاسِ رَاحَةً وَلَذَّةً فِي إِيصَالِ شَرِّهِ إِلَى مَنْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَهْنَأُ لَهُ عَيْشٌ فِي يَوْمٍ لَا يُؤْذِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ بَنِي جِنْسِهِ، وَيَجِدُ فِي نَفْسِهِ تَأَذِّيًا بِحَمْلِ تِلْكَ السُّمِّيَّةِ وَالشَّرِّ الَّذِي فِيهِ، حَتَّى يُفَرِّغَهُ فِي غَيْرِهِ، فَيَبْرُدَ عِنْدَ ذَلِكَ أَنِينُهُ، وَتَسْكُنَ نَفْسُهُ، وَيُصِيبُهُ فِي ذَلِكَ نَظِيرُ مَا يُصِيبُ مَنِ اشْتَدَّتْ شَهْوَتُهُ إِلَى الْجِمَاعِ، فَيَسُوءُ خُلُقُهُ، وَتَثْقُلُ نَفْسُهُ حَتَّى يَقْضِيَ وَطَرَهُ، هَذَا فِي قُوَّةِ الشَّهْوَةِ، وَذَاكَ فِي قُوَّةِ الْغَضَبِ.وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِكْمَتِهِ السُّلْطَانَ وَازِعًا لِهَذِهِ النُّفُوسِ الْغَضَبِيَّةِ، فَلَوْلَا هُوَ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَخَرِبَتْ {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} وَأَبَاحَ اللَّهُ- بِلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ- لِهَذِهِ النُّفُوسِ مِنَ الْأَزْوَاجِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ مَا يَكْسِرُ حِدَّتَهَا.وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْغَضَبِيَّةَ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْمَحَلِّ الْقَابِلِ أَثَّرَتْ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَحِلِّ بِمُجَرَّدِ مُقَابَلَتِهِ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُ، فَمِنْهَا مَا يَطْمِسُ الْبَصَرَ، وَيُسْقِطُ الْحَبَلَ.وَمِنْ هَذَا نَظَرُ الْعَائِنِ، فَإِنَّهُ إِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْمَعِينِ حَدَثَتْ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيَّةٌ سُمِّيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْمَعِينِ بِحَسَبِ عَدَمِ اسْتِعْدَادِهِ، وَكَوْنِهِ أَعْزَلَ مِنَ السِّلَاحِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ تِلْكَ النَّفْسِ، وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ النُّفُوسِ يُؤَثِّرُ فِي الْمَعِينِ إِذَا وُصِفَ لَهُ، فَتَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ وَتُقَابِلُهُ عَلَى الْبُعْدِ فَيَتَأَثَّرُ بِهِ، وَمُنْكِرُ هَذَا لَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ بَنِي آدَمَ إِلَّا بِالصُّورَةِ وَالشَّكْلِ، فَإِذَا قَابَلَتِ النَّفْسُ الزَّكِيَّةُ الْعَلَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ الَّتِي فِيهَا غَضَبٌ وَحَمِيَّةٌ لِلْحَقِّ هَذِهِ النُّفُوسَ الْخَبِيثَةَ السُّمِّيَّةَ، وَتَكَيَّفَتْ بِحَقَائِقِ الْفَاتِحَةِ وَأَسْرَارِهَا وَمَعَانِيهَا، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، وَذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَذِكْرِ اسْمِهِ الَّذِي مَا ذُكِرَ عَلَى شَرٍّ إِلَّا أَزَالَهُ وَمَحَقَهُ، وَلَا عَلَى خَيْرٍ إِلَّا نَمَّاهُ وَزَادَهُ، دَفَعَتْ هَذِهِ النَّفْسُ بِمَا تَكَيَّفَتْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرَ تِلْكَ النَّفْسِ الْخَبِيثَةِ الشَّيْطَانِيَّةِ، فَحَصَلَ الْبُرْءُ، فَإِنَّ مَبْنَى الشِّفَاءِ وَالْبُرْءِ عَلَى دَفْعِ الضِّدِّ بِضِدِّهِ، وَحِفْظِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ، فَالصِّحَّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ، وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ، أَسْبَابٌ رَبَطَهَا بِمُسَبِّبَاتِهَا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ خَلْقًا وَأَمْرًا، وَلَا يَتِمُّ هَذَا إِلَّا بِقُوَّةٍ مِنَ النَّفْسِ الْفَاعِلَةِ، وَقَبُولٍ مِنَ الطَّبِيعَةِ الْمُنْفَعِلَةِ، فَلَوْ لَمْ تَنْفَعِلْ نَفْسُ الْمَلْدُوغِ لِقَبُولِ الرُّقْيَةِ، وَلَمْ تَقْوَ نَفْسُ الرَّاقِي عَلَى التَّأْثِيرِ، لَمْ يَحْصُلِ الْبُرْءُ.فَهُنَا أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ: مُوَافَقَةُ الدَّوَاءِ لِلدَّاءِ، وَبَذْلُ الطَّبِيبِ لَهُ، وَقَبُولُ طَبِيعَةِ الْعَلِيلِ، فَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَحْصُلِ الشِّفَاءُ، وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَصَلَ الشِّفَاءُ وَلَا بُدَّ بِإِذْنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.وَمَنْ عَرَفَ هَذَا كَمَا يَنْبَغِي تَبَيَّنَ لَهُ أَسْرَارُ الرُّقَى، وَمَيَّزَ بَيْنَ النَّافِعِ مِنْهَا وَغَيْرِهِ، وَرَقَى الدَّاءَ بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الرُّقَى، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الرُّقْيَةَ بِرَاقِيهَا وَقَبُولِ الْمَحَلِّ، كَمَا أَنَّ السَّيْفَ بِضَارِبِهِ مَعَ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلْقَطْعِ، وَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُطْلِعَةٌ عَلَى مَا وَرَاءَهَا لِمَنْ دَقَّ نَظَرُهُ، وَحَسُنَ تَأَمُّلُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَأَمَّا شَهَادَةُ التَّجَارِبِ بِذَلِكَ فَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَدْ جَرَّبْتُ أَنَا مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَفِي غَيْرِي أُمُورًا عَجِيبَةً، وَلَا سِيَّمَا مُدَّةَ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَعْرِضُ لِي آلَامٌ مُزْعِجَةٌ، بِحَيْثُ تَكَادُ تَقْطَعُ الْحَرَكَةَ مِنِّي، وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ وَغَيْرِهِ، فَأُبَادِرُ إِلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَمْسَحُ بِهَا عَلَى مَحَلِّ الْأَلَمِ فَكَأَنَّهُ حَصَاةٌ تَسْقُطُ، جَرَّبْتُ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً، وَكُنْتُ آخُذُ قَدَحًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمٍ فَأَقْرَأُ عَلَيْهِ الْفَاتِحَةَ مِرَارًا، فَأَشْرَبُهُ فَأَجِدُ بِهِ مِنَ النَّفْعِ وَالْقُوَّةِ مَا لَمْ أَعْهَدْ مِثْلَهُ فِي الدَّوَاءِ، وَالْأَمْرُ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَصِحَّةِ الْيَقِينِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ..فَصْلٌ: فِي اشْتِمَالِ الْفَاتِحَةِ عَلَى الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ الْمُبْطِلِينَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ: وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِطَرِيقَيْنِ، مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ:.[فصل: الْمُجْمَلُ]: أَمَّا الْمُجْمَلُ: فَهُوَ أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ مُتَضَمِّنٌ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، وَإِيثَارَهُ، وَتَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَحَبَّتَهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ، وَالدَّعْوَةَ إِلَيْهِ، وَجِهَادَ أَعْدَائِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.وَالْحَقُّ: هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَمَا جَاءَ بِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا فِي بَابِ صِفَاتِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَأَسْمَائِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَفِي حَقَائِقِ الْإِيمَانِ، الَّتِي هِيَ مَنَازِلُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَوْضَاعِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ.فَكُلُّ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ حَقِيقَةٍ، أَوْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ خَرَجَ مِنْ مِشْكَاةِ نُبُوَّتِهِ، وَعَلَيْهِ السِّكَّةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ مِنْ ضَرْبِ الْمَدِينَةِ، فَهُوَ مِنَ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ صِرَاطِ أَهْلِ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ، فَمَا ثَمَّ خُرُوجٌ عَنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثِ: طَرِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَطَرِيقِ أَهْلِ الْغَضَبِ، وَهِيَ طَرِيقُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَعَانَدَهُ، وَطَرِيقِ أَهْلِ الضَّلَالِ وَهِيَ طَرِيقُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ الْقُرْآنُ، وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: طَرِيقُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: طَرِيقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَتَقْدِيمُهُ، وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ دَالَّةٌ عَلَيْهِ جَامِعَةٌ لَهُ.فَبِهَذَا الطَّرِيقِ الْمُجْمَلِ يُعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهُ فَبَاطِلٌ، وَهُوَ مِنْ صِرَاطِ الْأُمَّتَيْنِ: الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَأُمَّةِ أَهْلِ الضَّلَالِ..فَصْلٌ: [الْمُفَصَّلِ]: وَأَمَّا الْمُفَصَّلُ: فَبِمَعْرِفَةِ الْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ، وَاشْتِمَالِ كَلِمَاتِ الْفَاتِحَةِ عَلَى إِبْطَالِهَا، فَنَقُولُ:النَّاسُ قِسْمَانِ: مُقِرٌّ بِالْحَقِّ تَعَالَى، وَجَاحِدٌ لَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ إِثْبَاتَ الْخَالِقِ تَعَالَى، وَالرَّدَّ عَلَى مَنْ جَحَدَهُ، بِإِثْبَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِينَ.وَتَأَمَّلْ حَالَ الْعَالَمِ كُلِّهِ، عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ: تَجِدُهُ شَاهِدًا بِإِثْبَاتِ صَانِعِهِ وَفَاطِرِهِ وَمَلِيكِهِ، فَإِنْكَارُ صَانِعِهِ وَجَحْدُهُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ بِمَنْزِلَةِ إِنْكَارِ الْعِلْمِ وَجَحْدِهِ، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، بَلْ دِلَالَةُ الْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ، وَالْفَعَّالِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالصَّانِعِ عَلَى أَحْوَالِ الْمَصْنُوعِ عِنْدَ الْعُقُولِ الزَّكِيَّةِ الْمُشْرِقَةِ الْعُلْوِيَّةِ، وَالْفِطَرِ الصَّحِيحَةِ أَظْهَرُ مِنَ الْعَكْسِ.فَالْعَارِفُونَ أَرْبَابُ الْبَصَائِرِ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلَى أَفْعَالِهِ وَصُنْعِهِ، إِذَا اسْتَدَلَّ النَّاسُ بِصُنْعِهِ وَأَفْعَالِهِ عَلَيْهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ، كُلٌّ مِنْهُمَا حَقٌّ، وَالْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِمَا.فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالصَّنْعَةِ فَكَثِيرٌ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالصَّانِعِ فَلَهُ شَأْنٌ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ بِقَوْلِهِمْ لِأُمَمِهِمْ {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} أَيْ أَيُشَكُّ فِي اللَّهِ حَتَّى يُطْلَبَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِهِ؟ وَأَيُّ دَلِيلٍ أَصَحُّ وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا الْمَدْلُولِ؟ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْأَظْهَرِ بِالْأَخْفَى؟ ثُمَّ نَبَّهُوا عَلَى الدَّلِيلِ بِقَوْلِهِمْ {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ تَقِيَّ الدِّينِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- يَقُولُ: كَيْفَ يُطْلَبُ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؟ وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ:وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُودَ الرَّبِّ تَعَالَى أَظْهَرُ لِلْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ وُجُودِ النَّهَارِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ وَفِطْرَتِهِ فَلْيَتَّهِمْهُمَا.وَإِذَا بَطَلَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ بَطَلَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ، الْقَائِلِينَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَأَنَّهُ مَا ثَمَّ وُجُودٌ قَدِيمٌ خَالِقٌ وَوُجُودٌ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، بَلْ وُجُودُ هَذَا الْعَالَمِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ اللَّهِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ، فَلَيْسَ عِنْدَ الْقَوْمِ رَبٌّ وَعَبْدٌ، وَلَا مَالِكٌ وَمَمْلُوكٌ، وَلَا رَاحِمٌ وَمَرْحُومٌ، وَلَا عَابِدٌ وَمَعْبُودٌ، وَلَا مُسْتَعِينٌ وَمُسْتَعَانٌ بِهِ، وَلَا هَادٍ وَلَا مَهْدِيٌّ، وَلَا مُنْعِمٌ وَلَا مُنْعَمٌ عَلَيْهِ، وَلَا غَضْبَانُ وَمَغْضُوبٌ عَلَيْهِ، بَلِ الرَّبُّ هُوَ نَفْسُ الْعَبْدِ وَحَقِيقَتُهُ، وَالْمَالِكُ هُوَ عَيْنُ الْمَمْلُوكِ، وَالرَّاحِمُ هُوَ عَيْنُ الْمَرْحُومِ، وَالْعَابِدُ هُوَ نَفْسُ الْمَعْبُودِ، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ بِحَسَبِ مَظَاهِرِ الذَّاتِ وَتَجَلِّيَّاتِهَا، فَتَظْهَرُ تَارَةً فِي صُورَةِ مَعْبُودٍ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي صُورَةِ فِرْعَوْنَ، وَفِي صُورَةِ عَبْدٍ، كَمَا ظَهَرَتْ فِي صُورَةِ الْعَبِيدِ، وَفِي صُورَةِ هَادٍ، كَمَا فِي صُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ، وَالْكُلُّ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ، فَحَقِيقَةُ الْعَابِدِ وَوُجُودُهُ أَوْ أَنِّيَّتُهُ: هِيَ حَقِيقَةُ الْمَعْبُودِ وَوُجُودُهُ وأَنِّيَّتُهُ.وَالْفَاتِحَةُ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا تُبَيِّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةِ وَضَلَالَهُمْ. .فَصْلٌ: [الْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ]: وَالْمُقِرُّونَ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ نَوْعَانِ:نَوْعٌ يَنْفِي مُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ، وَيَقُولُونَ: لَا مُبَايِنَ وَلَا مُحَايِثَ، وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ، وَلَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ يَسَارِهِ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا فِيهِ وَلَا بَائِنَ عَنْهُ.فَتَضَمَّنَتِ الْفَاتِحَةُ الرَّدَّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى لِلْعَالَمِ، فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْمَحْضَةَ تَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ بِالذَّاتِ، كَمَا بَايَنَهُمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَبِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رَبًّا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، فَمَا أَثْبَتَ رَبًّا، فَإِنَّهُ إِذَا نَفَى الْمُبَايَنَةَ لَزِمَهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ، لُزُومًا لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهُ الْبَتَّةَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسَ هَذَا الْعَالَمِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ قَوْلُهُ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يُبَايِنُ ذَاتَهُ وَنَفْسَهُ، وَمِنْ هَاهُنَا دَخَلَ أَهْلُ الْوَحْدَةِ، وَكَانُوا مُعَطِّلَةً أَوَّلًا، وَاتِّحَادِيَّةً ثَانِيًا.وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: مَا ثَمَّ رَبٌّ يَكُونُ مُبَايِنًا وَلَا مُحَايِثًا، وَلَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا، كَمَا قَالَتْهُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ لِلصَّانِعِ.وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى جَمْعِ النَّقِيضَيْنِ: إِثْبَاتِ رَبٍّ مُغَايِرٍ لِلْعَالَمِ مَعَ نَفْيِ مُبَايَنَتِهِ لِلْعَالَمِ، وَإِثْبَاتِ خَالِقٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، لَا فِي الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَ الْعَالَمِ، وَلَا فَوْقَ الْعَالَمِ وَلَا تَحْتَهُ، وَلَا خَلْفَهُ وَلَا أَمَامَهُ، وَلَا يَمْنَتَهُ وَلَا يَسْرَتَهُ فَقَوْلٌ لَهُ خَبِيءٌ، وَالْعُقُولُ لَا تَتَصَوَّرُهُ حَتَّى تُصَدِّقَ بِهِ، فَإِذَا اسْتَحَالَ فِي الْعَقْلِ تَصَوُّرُهُ، فَاسْتِحَالَةُ التَّصْدِيقِ بِهِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ، وَالنَّفْيِ الصِّرْفِ، وَصِدْقُهُ عَلَيْهِ أَظْهَرُ عِنْدَ الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ مِنْ صِدْقِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ.فَضَعْ هَذَا النَّفْيَ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ عَلَى الْعَدَمِ الْمُسْتَحِيلِ، ثُمَّ ضَعْهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهَا، الَّتِي لَمْ تَحِلَّ فِي الْعَالَمِ، وَلَا حَلَّ الْعَالَمُ فِيهَا، ثُمَّ انْظُرْ أَيَّ الْمَعْلُومِينَ أَوْلَى بِهِ؟وَاسْتَيْقِظْ لِنَفْسِكَ، وَقُمْ لِلَّهِ قَوْمَةَ مُفَكِّرٍ فِي نَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، مُتَجَرِّدٍ عَنِ الْمَقَالَاتِ وَأَرْبَابِهَا، وَعَنِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ، صَادِقًا فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ مِنَ اللَّهِ، فَالَلَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُخَيِّبَ عَبْدًا هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ إِثْبَاتِ رَبٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ، مُبَايِنٍ لِخَلْقِهِ، بَلْ هَذَا نَفْسُ تَرْجَمَتِهَا..فَصْلٌ: [الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى]: ثُمَّ الْمُثْبِتُونَ لِلْخَالِقِ تَعَالَى نَوْعَانِ:أَهْلُ تَوْحِيدٍ، وَأَهْلُ إِشْرَاكٍ، وَأَهْلُ الْإِشْرَاكِ نَوْعَانِ:.أَحَدُهُمَا: أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ: كَالْمَجُوسِ وَمَنْ ضَاهَاهُمْ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَعَ اللَّهِ خَالِقًا آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا: إِنَّهُ مُكَافِئٌ لَهُ، وَالْقَدَرِيَّةُ الْمَجُوسِيَّةُ تُثْبِتُ مَعَ اللَّهِ خَالِقِينَ لِلْأَفْعَالِ، لَيْسَتْ أَفْعَالُهُمْ مَقْدُورَةً لِلَّهِ، وَلَا مَخْلُوقَةً لَهُمْ، وَهِيَ صَادِرَةٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ، وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهَا، وَلَا هُوَ الَّذِي جَعَلَ أَرْبَابَهَا فَاعِلِينَ لَهَا، بَلْ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا أَنْفُسَهُمْ شَائِينَ مُرِيدِينَ فَاعِلِينَ.فَرُبُوبِيَّةُ الْعَالَمِ الْكَامِلَةُ الْمُطْلَقَةُ الشَّامِلَةُ تُبْطِلُ أَقْوَالَ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي رُبُوبِيَّتَهُ لِجَمِيعِ مَا فِيهِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْحَرَكَاتِ وَالْأَفْعَالِ.وَحَقِيقَةُ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ الْمَجُوسِيَّةِ: أَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ رَبًّا لِأَفْعَالِ الْحَيَوَانِ، وَلَا تَنَاوَلَتْهَا رُبُوبِيَّتُهُ، وَكَيْفَ تَتَنَاوَلُ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ؟ مَعَ أَنَّ فِي عُمُومِ حَمْدِهِ مَا يَقْتَضِي حَمْدَهُ عَلَى طَاعَاتِ خَلْقِهُ، إِذْ هُوَ الْمُعِينُ عَلَيْهَا وَالْمُوَفِّقُ لَهَا، وَهُوَ الَّذِي شَاءَهَا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فَهُوَ مَحْمُودٌ عَلَى أَنْ شَاءَهَا لَهُمْ، وَجَعَلَهُمْ فَاعِلِيهَا بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ هُمُ الْمَحْمُودُونَ عَلَيْهَا، وَلَهُمُ الْحَمْدُ عَلَى فِعْلِهَا، وَلَيْسَ لِلَّهِ حَمْدٌ عَلَى نَفْسِ فَاعِلِيَّتِهَا عِنْدَهُمْ، وَلَا عَلَى ثَوَابِهِ وَجَزَائِهِ عَلَيْهَا.أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ فَاعِلِيَّتَهَا بِهِمْ لَا بِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْجَزَاءَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الْأُجْرَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ مَحْضُ حَقِّهِمْ، الَّذِي عَاوَضُوهُ عَلَيْهِ.وَفِي قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} رَدٌّ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ، إِذِ اسْتِعَانَتُهُمْ بِهِ إِنَّمَا تَكُونُ عَنْ شَيْءٍ هُوَ بِيَدِهِ وَتَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَعِينُ مَنْ بِيَدِهِ الْفِعْلُ وَهُوَ مُوجِدُهُ، إِنْ شَاءَ أَوْجَدَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُوجِدْهُ بِمَنْ لَيْسَ ذَلِكَ الْفِعْلُ بِيَدِهِ، وَلَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَلَا مَشِيئَتِهِ؟.وَفِي قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أَيْضًا رَدٌّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْهِدَايَةَ الْمُطْلَقَةَ التَّامَّةَ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِحُصُولِ الِاهْتِدَاءِ، وَلَوْلَا أَنَّهَا بِيَدِهِ تَعَالَى دُونَهُمْ لَمَا سَأَلُوهُ إِيَّاهَا، وَهِيَ الْمُتَضَمِّنَةُ لِلْإِرْشَادِ وَالْبَيَانِ، وَالتَّوْفِيقِ وَالْإِقْدَارِ، وَجَعْلِهِمْ مُهْتَدِينَ، وَلَيْسَ مَطْلُوبُهُمْ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالدِّلَالَةِ كَمَا ظَنَّتْهُ الْقَدَرِيَّةُ، لِأَنَّ هَذَا الْقَدَرَ وَحْدَهُ لَا يُوجِبُ الْهُدَى، وَلَا يُنْجِي مِنَ الرَّدَى، وَهُوَ حَاصِلٌ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ، الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَاشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى..فَصْلٌ: النَّوْعُ الثَّانِي: أَهْلُ الْإِشْرَاكِ بِهِ فِي إِلَهِيَّتِهِ: وَهُمُ الْمُقِرُّونَ بِأَنَّهُ وَحْدَهُ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ، وَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَرَبُّ آبَائِهِمُ الْأَوَّلِينَ، وَرَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَهُمْ مَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَيَعْدِلُونَ بِهِ سِوَاهُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا، فَهَؤُلَاءِ لَمْ يُوَفُّوا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حَقَّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ نَعْبُدُكَ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى: لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ حُبًّا وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَطَاعَةً وَتَعْظِيمًا، فـَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تَحْقِيقٌ لِهَذَا التَّوْحِيدِ، وَإِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ فِي الْإِلَهِيَّةِ، كَمَا أَنَّ {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تَحْقِيقٌ لِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِبْطَالٌ لِلشِّرْكِ بِهِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فَإِنَّهُمْ أَهْلُ التَّوْحِيدِ، وَهُمْ أَهْلُ تَحْقِيقِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وَأَهْلُ الْإِشْرَاكِ هُمْ أَهْلُ الْغَضَبِ وَالضَّلَالِ..فَصْلٌ: فِي تَضَمُّنِهَا الرَّدَّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ مُعَطِّلَةِ الصِّفَاتِ: وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:أَحَدُهَا: مِنْ قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فَإِنَّ إِثْبَاتَ الْحَمْدِ الْكَامِلِ لَهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ كُلِّ مَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ، مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، إِذْ مَنْ عُدِمَ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَلَيْسَ بِمَحْمُودٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَغَايَتُهُ: أَنَّهُ مَحْمُودٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَلَا يَكُونُ مَحْمُودًا بِكُلِّ وَجْهٍ، وَبِكُلِّ اعْتِبَارٍ، بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَمْدِ إِلَّا مَنِ اسْتَوْلَى عَلَى صِفَاتِ الْكَمَالِ جَمِيعِهَا، فَلَوْ عُدِمَ مِنْهَا صِفَةً وَاحِدَةً لَنَقَصَ مِنْ حَمْدِهِ بِحَسَبِهَا.وَكَذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ صِفَةِ الرَّحْمَةِ لَهُ مَا يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الَّتِي تَسْتَلْزِمُهَا مِنَ الْحَيَاةِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ، وَغَيْرِهَا.وَكَذَلِكَ صِفَةُ الرُّبُوبِيَّةِ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْفِعْلِ وَصِفَةُ الْإِلَهِيَّةِ تَسْتَلْزِمُ جَمِيعَ أَوْصَافِ الْكَمَالِ ذَاتًا وَأَفْعَالًا، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.فَكَوْنُهُ مَحْمُودًا إِلَهًا رَبًّا، رَحْمَانًا رَحِيمًا، مَلِكًا مَعْبُودًا، مُسْتَعَانًا، هَادِيًا مُنْعِمًا، يَرْضَى وَيَغْضَبُ- مَعَ نَفْيِ قِيَامِ الصِّفَاتِ بِهِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مَنْ أَمْحَلِ الْمُحَالَ.وَهَذِهِ الطَّرِيقُ تَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ، فَإِنَّ اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ مِنْ لَوَازِمِ عُلُوِّهِ، وَنُزُولَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي نِصْفِ اللَّيْلِ الثَّانِي مِنْ لَوَازِمِ رَحْمَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَهَكَذَا سَائِرُ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ.الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ السَّمْعَ وَرَدَ بِهَا، ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ وَمَدْحًا لَهُ، وَتَعَرُّفًا مِنْهُ إِلَى عِبَادِهِ بِهَا، فَجَحْدُهَا وَتَحْرِيفُهَا عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَعَمَّا أُرِيدَ بِهَا مُنَاقِضٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ، فَلَكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ بِطَرِيقِ السَّمْعِ عَلَى أَنَّهَا كَمَالٌ، وَأَنْ تَسْتَدِلَّ بِالْعَقْلِ كَمَا تَقَدَّمَ..فَصْلٌ: فِي تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ: وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:أَحَدُهَا: مِنْ إِثْبَاتِ عُمُومِ حَمْدِهِ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُعَاقِبَ عَبِيدَهُ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِمْ، بَلْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَلْوَانِهِمْ، وَطُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ، بَلْ هُوَ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى نَفْسِ فِعْلِهِ بِهِمْ، فَهُوَ الْفَاعِلُ لِقَبَائِحِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْمُعَاقِبُ لَهُمْ عَلَيْهَا، فَحَمْدُهُ عَلَيْهَا يَأْبَى ذَلِكَ أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَيَنْفِيهِ أَعْظَمَ النَّفْيِ، فَتَعَالَى مَنْ لَهُ الْحَمْدُ كُلُّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ إِنَّمَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَى نَفْسِ أَفْعَالِهِمُ الَّتِي فَعَلُوهَا حَقِيقَةً، فَهِيَ أَفْعَالُهُمْ لَا أَفْعَالُهُ، وَإِنَّمَا أَفْعَالُهُ الْعَدْلُ، وَالْإِحْسَانُ وَالْخَيْرَاتُ.الْوَجْهُ الثَّانِي: إِثْبَاتُ رَحْمَتِهِ وَرَحْمَانِيَّتِهِ يَنْفِي ذَلِكَ إِذْ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ قَطُّ- أَنْ يَكُونَ رَحْمَانًا رَحِيمًا- وَيُعَاقِبُ الْعَبْدَ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ، بَلْ يُكَلِّفُهُ مَا لَا يُطِيقُهُ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ الْبَتَّةَ، ثُمَّ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا ضِدُّ الرَّحْمَةِ، وَنَقْضٌ لَهَا وَإِبْطَالٌ؟ وَهَلْ يَصِحُّ فِي مَعْقُولِ أَحَدٍ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ وَالرَّحْمَةِ التَّامَّةِ الْكَامِلَةِ فِي ذَاتٍ وَاحِدَةٍ؟.الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ الْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ لَهُمْ، وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِمْ، بِقَوْلِهِمْ {نَعْبُدُ} وَ{نَسْتَعِينُ} وَهِيَ نِسْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا مَجَازِيَّةٌ، وَاللَّهُ لَا يَصِحُّ وَصْفُهُ بِالْعِبَادَةِ وَالِاسْتِعَانَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ عَبِيدِهِ، بَلِ الْعَبْدُ حَقِيقَةً هُوَ الْعَابِدُ الْمُسْتَعِينُ، وَاللَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمُسْتَعَانُ بِهِ..فَصـْلٌ: فِي بَيَانِ تُضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِينَ بِالْمُوجَبِ بِالذَّاتِ دُونَ الِاخْتِيَارِ وَالْمَشِيئَةِ، وَبَيَانِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ: وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:أَحَدُهَا: مِنْ إِثْبَاتِ حَمْدِهِ، إِذْ كَيْفَ يُحْمَدُ عَلَى مَا لَيْسَ مُخْتَارًا لِوُجُودِهِ، وَلَا هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَفِعْلِهِ؟ وَهَلْ يَصِحُّ حَمْدُ الْمَاءِ عَلَى آثَارِهِ وَمُوجَبَاتِهِ؟ أَوِ النَّارِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا فِي عَقْلٍ أَوْ فِطْرَةٍ؟ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ عَلَى أَفْعَالِهِ الْحَمِيدَةِ، هَذَا الَّذِي لَيْسَ يَصِحُّ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ سِوَاهُ، فَخِلَافُهُ خَارِجٌ عَنِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ وَهُوَ لَا يُنْكِرُ خُرُوجَهُ عَنِ الشَّرَائِعِ وَالنُّبُوَّاتِ، بَلْ يَتَبَجَّحُ بِذَلِكَ وَيَعُدُّهُ فَخْرًا.الثَّانِي: إِثْبَاتُ رُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى يَقْتَضِي فِعْلَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، وَتَدْبِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي عَقْلٍ وَلَا فِطْرَةٍ رُبُوبِيَّةُ الشَّمْسِ لِضَوْئِهَا، وَالْمَاءِ لِتَبْرِيدِهِ، وَلِلنَّبَاتِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَلَا رُبُوبِيَّةُ شَيْءٍ أَبَدًا لِمَا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَصْرِيحٌ بِجَحْدِ الرُّبُوبِيَّةِ؟فَالْقَوْمُ كَنَّوْا لِلْأَغْمَارِ، وَصَرَّحُوا لِأُولِي الْأَفْهَامِ.الثَّالِثُ: إِثْبَاتُ مِلْكِهِ، وَحُصُولُ مِلْكٍ لِمَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا فِعْلَ وَلَا مَشِيئَةَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، بَلْ كُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ مَشِيئَةٌ وَاخْتِيَارٌ وَفِعْلٌ أَتَمُّ مِنْ هَذَا الْمَلِكِ وَأَكْمَلُ {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.الرَّابِعُ: مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَعَانًا، فَإِنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِمَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ وَلَا مَشِيئَةَ وَلَا قُدْرَةَ مُحَالٌ.الْخَامِسُ: مِنْ كَوْنِهِ مَسْئُولًا أَنْ يَهْدِيَ عِبَادَهُ، فَسُؤَالُ مَنْ لَا اخْتِيَارَ لَهُ مُحَالٌ، وَكَذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ مُنْعِمًا..فَصـْلٌ: فِي بَيَانِ تَضَمُّنِهَا لِلرَّدِّ عَلَى مُنْكِرِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ: وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:أَحَدُهَا: كَمَالُ حَمْدِهِ، وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ مَنْ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنَ الْعَالَمِ وَأَحْوَالِهِ وَتَفَاصِيلِهِ، وَلَا عَدَدَ الْأَفْلَاكِ، وَلَا عَدَدَ النُّجُومِ، وَلَا مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيهِ، وَلَا مَنْ يَدْعُوهُ مِمَّنْ لَا يَدْعُوهُ؟الثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُسْتَحِيلٌ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَأَنْ يَكُونَ رَبَّا، فَلَا بُدَّ لِلْإِلَهِ الْمَعْبُودِ، وَالرَّبِّ الْمُدَبِّرِ، مِنْ أَنْ يَعْلَمَ عَابِدَهُ، وَيَعْلَمَ حَالَهُ.الثَّالِثُ: مِنْ إِثْبَاتِ رَحْمَتِهِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرْحَمَ مَنْ لَا يَعْلَمُ.الرَّابِعُ: إِثْبَاتُ مِلْكِهِ، فَإِنَّ مَلِكًا لَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ رَعِيَّتِهِ الْبَتَّةَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ مَمْلَكَتِهِ الْبَتَّةَ، لَيْسَ بِمَلِكٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ.الْخَامِسُ: كَوْنُهُ مُسْتَعَانًا.السَّادِسُ: كَوْنُهُ مَسْئُولًا أَنْ يَهْدِيَ سَائِلَهُ وَيُجِيبَهُ.السَّابِعُ: كَوْنُهُ هَادِيًا.الثَّامِنُ: كَوْنُهُ مُنْعِمًا.التَّاسِعُ: كَوْنُهُ غَضْبَانَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ.الْعَاشِرُ: كَوْنُهُ مُجَازِيًا، يَدِينُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ.فَنَفْيُ عِلْمِهِ بِالْجُزْئِيَّاتِ مُبْطِلٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ.
|