الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
(الأولى): أنه أي الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل، لم يقل شيئا من رأيه فيما يتعلق بالتبليغ، بل ليس عليه إلا بلاغ الرسالة من الله إلى الناس، وتلاوة آياته على الناس، وتعليمهم الحكمة والتبيان، وذلك معنى كونه صلى الله عليه وسلم رسول الله، فأمره ونهيه تبليغ لأمره ونهيه، وأخباره وقصصه تبليغ لما قصه الله وأخبر به، ولذا كان طاعته طاعة لله عز وجل، ومعصيته معصية لله عز وجل، وتكذيبه تكذيبا لإخبار الله عز وجل في أنه رسوله، قال الله تبارك وتعالى: (وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا)، (النساء 79)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، (الأنفال 20- 21)، وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعملوا أنما على رسولنا البلاغ المبين)، (المائدة 92)، وقال تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين)، (النور 54)، وقال تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ)، (الشورى 48)، وقال تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد)، (الرعد 7)، وقال تعالى: (إن أنت إلا نذير)، (فاطر 23)، وقال: (قل إنماأنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار)، (ص 65)، وقال تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه)، (الكهف 110)، وقال: (نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد)، (ق 45)، وقال تعالى: (قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له جهنم خالدين فيها أبدا)، (الجن 22)، وقال: (فذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين)، (الذريات 55)، وقال تعالى: (فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى)، (الأعلى 9)، وقال تعالى: (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)، (الغاشية 21)، وقال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، (الحشر 7)، وغير ذلك من الآيات، (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)، (النجم 4). وقال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليدخلن الجنة بشفاعة رجل، ليس بنبي مثل الحيين- أو مثل أحد الحيين- ربيعة ومضر. فقال رجل: يا رسول الله، وما ربيعة ومضر؟ قال: إنما أقول ما أقول. وله عن عبد الله بن عمر، وقال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب حتى ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده، ما خرج مني إلا الحق. وله عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا أقول إلا حقا. قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا. قال: إني لا أقول إلا حقا. وللبزار عنه رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أخبرتكم أنه من عند الله، فهو الذي لا شك فيه. وغير ذلك من الأحاديث، ويكفي في ذلك قول الله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين)، (الحاقة 44) الآيات. المسألة الثانية: أنه صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أرسل به، لم يكتم منه حرفا واحدا، قال الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)، (المائدة 67). وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره، ثم قال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبه بعير له رغاء يقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول الله، أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول الله أغثني. فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل قوله صلى الله عليه وسلم: وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات، الحديث. وفيهما من حديث ابن عباس في ذلك الجمع الأعظم حين خطب: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت؟ ومن حديث أبي بكرة في تلك الخطبة أيضا: ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع. وفي صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا والذي فلق الحبة ويرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. وفيه من رواية الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: المدينة حرم ما بين عير إلى كذا، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، الحديث. وفي رواية قال: خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر، وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيه: ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. ولابن أبي حاتم، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: كنت عند ابن عباس، فجاء رجل فقال له: إن أناسا يأتون فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله تعالى قال: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)، (المائدة 67)، والله، ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء. وإسناده جيد. وتقدم قول عائشة رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل عليه، فقد كذب، والله تعالى يقول: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)، (المائدة 67) الآية. المسألة الثالثة: أن هذا الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى هو جميع دين الإسلام مكملا محكما، لم يبق فيه نقص بوجه من الوجوه فيحتاج إلى تكميل، ولم يبق فيه إشكال فيحتاج إلى حل، ولا إجمال فيفتقر إلى تفصيل، قال الله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، (الأنعام 38)، فكما أن الإمام المبين قد أحصى كل ما هو كائن، كما علمه الله عز وجل، فكذلك هذا القرآن واف شاف كاف محيط بجميع أصول الشريعة وفروعها وأقوالها وأعمالها وسرها وعلانيتها، فمن لم يكفه فلا كفى، ومن لم يشفه فلا شفى، (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون)، (العنكبوت 51)، (فبأي حديث بعده يؤمنون)، وكما وفى بتقرير الدين وتكميله وشرحه وتفصيله، كذلك هو واف بالذب عنه وبرد كل شبهة ترد عليه، وبقمع كل ملحد ومعاند ومشاق ومحاد، وبدمغ كل باطل وإزهاقه (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)، (الفرقان 33)، (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)، (الأنبياء 18)، (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، (الحجر 9)، (إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعلمون بصير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)، (فصلت 40- 44). وكذلك السنة من جوامع كلم الرسول صلى الله عليه وسلم التي اختصه الله بها، هي روح المعاني والوحي الثاني، والحكمة والبيان وتبيان القرآن، والنور والبرهان، فلم يتوف صلى الله عليه وسلم حتى بين الشريعة أكمل بيان، ولم يكن ليتوفاه الله تعالى قبل بيان ما بالناس إليه حاجة في دينهم ودنياهم وآخرتهم، والله تعالى يقول: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه هدى ورحمة لقوم يؤمنون)، (النحل 64)، ويقول تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم ولعلهم يتذكرون)، (النحل 44)، ثم يخبر أنه ما أنزل عليك الكتاب إلا لذلك، فكيف يتوفاه قبل إنفاد ذلك وإنجازه، مع قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم ولأمته كلهم (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون كما أرسلنا فيكم رسولا يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)، (البقرة 151)، فكيف يعدنا تعالى بإتمام النعمة وإكمال الدين، ثم يتوفى رسوله قبل إنجاز ذلك، وهو عز وجل- (لا يخلف الميعاد)؟ والذي بعثه بالحق بشيراونذيرا ما توفاه الله عز وجل حتى بلغ ما أرسله الله به أكمل بلاغ، وبينه أتم بيان، وفصله أوضح تفصيل، وأكمل به الدين، وأتم علينا النعمة، ولهذا أنزل عليه في آخر ما أنزل في يوم الجمعة الذي اختص به هو وأمته، وهداهم له في أشرف موقف وأفضل عشية يوم الحج الأكبر، وهو واقف بعرفة في ذلك الجمع الأعظم الذي لم يتفق وقوع مثله، ولم يتفق أكثر الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم بعده (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، (المائدة: 3)، فأخبر فيها بإكمال دينه الذي وعدنا إظهاره في قوله عز وجل- (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)، (التوبة 33)، وبإتمامه النعمة كما وعد في قوله تعالى: (ولأتم عليكم نعمتي)، وتقدم الحديث الصحيح في قول اليهودي لعمر في شأنها وما رد عليه به. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)، (المائدة 3)، وهو الإسلام، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم شرائع الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقصه أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا، قلت: وفي ضمن هذا الخطاب معنى، فارضوا به أنتم لأنفسكم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. وأمرنا بهذا الذكر في كل مساء وصباح، وقال أسباط، عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة، فلم تطق الراحلة من ثقل ما يميلها من القرآن فبركت، فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي. وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما. رواهما ابن جرير، وله عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت (اليوم أكملت لكم دينكم)، وذلك يوم الحج، بكى عمر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: رضي الله عنه: كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا أكمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص، فقال: صدقت. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (ولا يآتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)، (الفرقان 33)، قال: ولا يأتونك بمثل، أي بما يلتمسون به غير القرآن والرسول، (إلا جئناك بالحق)، الآية أي لإنزال جبريل من الله تعالى بجوابهم. وما هذا إلا اعتناء وكبر شرف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل بالقرآن صباحا ومساء، وليلا ونهارا، سفرا وحضرا، وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال الكتب قبله المتقدمة، فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء- صلوات الله عليهم أجمعين. فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى. وقد جمع الله للقران الصفتين معا: ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث، (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)، (الفرقان 33)، (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)، (الإسراء 106). وكما وفى بالرد على كل مشاق لله ورسوله من الوثنيين والمنافقين والكتابيين ووغيرهم، ونزل منجما على حسب ذلك، فكذلك هو واف برد شبهةكل ملحد إلى يوم القيامة، اقرأ على من ادعى النبوة (ولكن رسول الله وخاتم النبيين)، (الأحزاب 40)، وعلى الدجال فواتح سورة الكهف، وعلى المعطل والمشبه (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما)، وعلى النافي للقدر (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)، (الأنعام 39)، (إنا كل شيء خلقناه بقدر)، (القمر 49)، وعلى الجبرية الغلاة (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، (البقرة 286)، (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)، (النساء 165)، (قل فلله الحجة البالغة)، (الأنعام 149)، (فلو شاء لهداكم أجمعين)، (الأنعام 149)، وعلى نفاة الرؤية (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)، (القيامة 23)، وعلى الرافضة (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)، (التوبة 40)، وعلى الناصبة (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)، (التوبة 100)، الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)، (الأحزاب 33)، وعلى الفريقين (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفرلنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا)، (الحشر 10)، وعلى كل ذي بدعة مطلقا (اليوم أكملت لكم دينكم)... إلى آخرها مع قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون)، (آل عمران 83)، (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه)، (آل عمران 85). (المسألة الرابعة): أن هذا الدين التام المكمل الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة لا يقبل زيادة على ما شرع فيه من أصول الملة وفروعها، ولا نقصا منها ولا تغييرا ولا تبديلا ولا يقبل من أحد دينا سواه، ولا تقبل لأحد عبادةلم يتعبدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولا يعبد الله تعالى إلا بما شرع، وهذه المسألة يأتي إن شاء الله الكلام عليها في الفصل الأخير، والله المستعان. (المسألة الخامسة): أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، فلا نبي بعده، وكتابه خاتم الكتب، فلا كتاب بعده، فهو محكم أبدا، وهذه المسألة هي المشار إليها بهذا البيت والذي بعده: وكل من من بعده قد ادعى *** نبوة فكاذب فيما ادعى فهو ختام الرسل باتفاق *** وأفضل الخلق على الإطلاق. قال الله تبارك وتعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما)، (الأحزاب 40)، وقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)، (البقرة 143)، وقال تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)، (آل عمران 144)، وقال تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده)، (النساء 163) إلى غير ذلك من الآيات. وقال البخاري- رحمه الله تعالى: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثني معن، عن مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب. ورواه مسلم وزاد: وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي. وله عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى لنا نفسه أسماء، فقال: أنا محمد، وأحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة. وقال البخاري- رحمه الله تعالى: باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا سليم، حدثنا سعيد بن ميناء، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا، فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها يتعجبون، ويقولون: لولا موضع اللبنة. رواه مسلم، وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأنا موضع اللبنة، جئت فختمت الأنبياء. وقال البخاري- رحمه الله تعالى: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال صلى الله عليه وسلم: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين. رواه مسلم من طرق، وله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل النبيين... فذكر نحوه. وقال الإمام أحمد- رحمه الله تعالى: حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، وجعل الناس يطوفون بالبنيان، ويعجبون منه ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة. ورواه الترمذي، عن أبي عامر العقدي به، وقال: حسن صحيح. وقال البخاري- رحمه الله تعالى: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي. ورواه مسلم من طريق مصعب هذه، ومن طريق سعيد بن المسيب، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي. قال سعيد: فأحببت أن أشافه بها سعدا، فلقيت سعدا، فحدثته بما حدثني به عامر، فقال: أنا سمعته، فقلت: أنت سمعته؟ فوضع إصبعيه على أذنيه، فقال: نعم، وإلا سكتا. وتقدم في حديث ذكر الدجال قوله صلى الله عليه وسلم: إنه يبديء فيقول إنه نبي، وأنا خاتم النبين ولا نبي بعدي. الحديث. وفي حديث ثوبان الطويل عند أبي داود وغيره: وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبين ولا نبي بعدي. وللبخاري ومسلم وهذا لفظه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون، ونحن السابقون يوم القيامة، بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا اليوم الذي كتبه الله علينا- هدانا الله له- فالناس لنا فيه تبع، اليهود غدا والنصارى بعد غد. وفي رواية: وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق. وفي صحيح البخاري في غير موضع من صحيحه من طرق، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كرجل استعمل عمالا، فقال: من يعمل إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط. فقال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. فقال: من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ قال: ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا لكم الأجر مرتين. فغصبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملا وأقل عطاء. قال الله تعالى: هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أوتيه من شئت. ولهما عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة رضي الله عنه خمسين سنين، سمعته يحدث، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلف نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله تعالى سائلهم عما استرعاهم. وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت، فلا رسول بعدي ولا نبي. قال: فشق ذلك على الناس، فقال: ولكن المبشرات. قالوا: يا رسول الله، وما المبشرات؟ قال: رؤيا الرجل المسلم، وهي جزء من أجزاء النبوة. وللبخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة. وقال مسلم- رحمه الله تعالى: حدثنا يحيى بن أيوب، وقتيبة بن سعيد، وعلي بن حجر قالوا: حدثنا إسماعيل، وهو ابن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون. وروى الإمام أحمد، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وله عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: خرج رسول اللله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع، فقال: أنا محمد النبي الأمي ثلاثا، ولا نبي بعدي، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه. وقد وردت عدة أحاديث في صفة خاتم النبوة بين كتفيه آية باهرة، ودلالة ظاهرة على أنه لانبي بعده، لا بأس أن نذكر ما تيسر منها. فروى البخاري ومسلم، عن السائب عبد الله بن يزيد رضي الله عنه قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وقع، فمسح رأسي، ودعا لي بالبركة، وتوضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم بين كتفيه مثل زر الحجلة. ولمسلم، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد شمط مقدم رأسه ولحيته، وكان إذا ادهن لم يتبين، وإذا شعث رأسه تبين، وكان كثير شعر اللحية، فقال رجل: وجهه مثل السيف، قال: بل كان مثل الشمس والقمر، وكان مستديرا، ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامه يشبه جسده، وفي رواية قال: رأيت خاتما في ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه بيضة حمام. وله عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأكلت معه خبزا ولحما، أو قال: ثريدا، قال: فقلت له: أستغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، ولك، ثم تلا هذه الآية (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات). قال: ثم درت خلفه فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عن ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل. وروى أبو داود الطيالسي، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسولا الله، أرني الخاتم. فقال: أدخل يدك، فأدخلت يدي في جربانه، فجعلت ألمس أنظر إلى الخاتم، فإذا هو على نغض كتفه مثل البيضة، فما منعه ذاك أن جعل يدعو لي، وإن يدي لفي جربانه. ورواه النسائي، وروى الإمام أحمد، عن أبي رمثة التيمي قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت رأسه ردع حناء، ورأيت على كتفه مثل التفاحة، فقال أبي: إني طبيب، أفلا أطبها لك؟ قال: طبيبها الذي خلقها. قال: وقال لأبي: هذا ابنك؟ قال: نعم. قال: أما إنه لا يجني عليك، ولا تجني عليه. وروى البيهقي، عن سلمان الفارسي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى رداءه، وقال: يا سلمان، انظر إلى ما أمرت به. قال: فرأيت الخاتم بين كتفيه مثل بيضة الحمامة، وروى يعقوب بن سفيان بإسناده، عن التنوخي الذي بعثه هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بتبوك الحديث، وفيه: فحل حبوته عن ظهره، ثم قال: ههنا امض لما أمرت به. قال: فجلت في ظهره، فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل الحجمة الضخمة. وروى الإمام أحمد، عن غياث البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة، فسألته عن خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان بين كتفيه، فقال بأصبعه السبابة: هكذا لحم ناشز بين كتفيه صلى الله عليه وسلم . وقال البخاري- رحمه الله تعالى: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن عبد الله بن أبي حسين، حدثنا نافع بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إن جعل لي محمد من بعده- يعني: الأمر، تبعته. وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، وقال: لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني، ثم انصرف عنه. قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وإني لأراك الذي أريت فيك ما رأيت، فأخبرني أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدي: أحدهما العنسى، والآخر مسيلمة. حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن همام أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض، فوضع في كفي سواران من ذهب، فكبر علي، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فذهبا، فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة. والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا، وفيما أشرنا إليه كفاية. (فهو) محمد صلى الله عليه وسلم- (ختام الرسل) فلا نبي بعده، والرسالة من باب أولى، إذ لا يرسل إلا بعد أن يتنبأ، فالنبوة وحي مطلق مجردا، فإن أمر يتبليغه فرسالة، فكل رسول نبي ولا عكس (باتفاق) من كل كتاب منزل، وكل نبي مرسل، وكل مؤمن بالله واليوم الآخر، (وأفضل الخلق) كلهم (على الاطلاق) بلا استثناء، قال الله تبارك وتعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات)، (البقرة 253). قال أئمة التفسير من الصحابة فمن بعدهم: هو محمد صلى الله عليه وسلم وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وقد أخذ الله- عز وجل- على جميع الرسل الميثاق في الإيمان به ونصرته، وبشر به كل نبي قومه، وبعث إلى الجن والإنس، والأسود والأحمر كافة، وأتي في الدنيا من المعجزات ما لم يؤته نبي قبله من انشقاق القمر، وحنين الجذع إليه، ونبع الماء من أصابعه، وتسليم الأشجار والأحجار عليه، وغير ذلك.
وأعظم معجزاته هذا القرآن، معجزة خالدة أبدا الآبدين ودهر الداهرين، لا تفنى عجائبه، ولا يدرك غاية إعجازه، ولا يندرس بمرور الأعصار، ولا يمل مع التكرار، بل يجلى مع ذلك ويتجلى، ويعلو على غيره ولا يعلى، وكل معجزة قبله انقضت بانقضاء زمانها، ولم يبق إلا تذكارها، وهو كل يوم براهينه في في مزيد، ومعجزاته في تجديد، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)، (فصلت 42). وقد ظهر فضيلته صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج، بتقدمه عليهم إماما، وعلوه فوق الجميع مقاما، حتى جاوز السبع الطباق إلى سدرة المنتهى إلى حيث شاء الله عز وجل، واختص صلى الله عليه وسلم بأشياء أخر في سماحة شريعته، ووضع الآصار عن أمته، وكونه أكثرهم تابعا، وكذلك يبدو فضله في الآخرة بكونه أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع، وأول من يستفتح باب الجنة، وأول من يدخلها من الأمم أمته، وله الحوض المورود، وهو الكوثر، وهو أكثر الأنبياء واردا، وله اللواء المعقود، وهو لواء الحمد تحته آدم فمن دونه، وله المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، ويرغب إليه كل الخلائق حتى إبراهيم خليل الرحمن، وهو وأمته أول من يجوز الصراط، وهم ثلث أهل الجنة، لما جاء أنهم ثمانون صفا، وغيرهم من الأمم أربعون صفا، وهذه عدة صفوف أهل الجنة مائة وعشرون صفا، ويشفع الواحد من أمته في مثل ربيعة ومضر، وله صلى الله عليه وسلم الوسيلة، وهي أعلى درجة في الجنة، ليس فوقها إلا عرش الرحمن عز وجل، وليست هي لأحد غيره صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك من مقاماته العلية التي لا ينالها غيره، ولا يدركها سواه، وهذا مقام يطول ذكره، ولا يحيط بغايته إلا الذي اصطفاه له وأكرمه به، جعلنا الله عز وجل ممن اقتدى به، واهتدى بهديه، وكان هواه تبعا لما جاء به، آمين.
في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهودي يعرض سلعته، أعطي بها شيئا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر. فسمعه رجل من الأنصار، فقام فلطم خده، وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ فذهب اليهودي إليه صلى الله عليه وسلم فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لم لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى رؤي في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله عز وجل، فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى، فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي؟ ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى. ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خير من يونس بن متى. ولهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا ينبغى لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى. وفي رواية لمسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: - يعني: الله تبارك وتعالى: لا ينبغي لعبد لي... الحديث. قال النووي رحمه الله تعالى في الحديث الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تفضلوا بين أنبياء الله " جوابه من خمسة أوجه: أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به. والثاني: قاله أدبا وتواضعا. والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل، يؤدي إلى تنقيص المفضول. والرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة، كما هو المشهور في سبب الحديث. والخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة، فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى. ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى وجها أن التفضيل ليس إليكم، وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد له والتسليم، والإيمان به، اهـ. قلت: الوجه الأول من كلام النووي ضعيف، والثاني والخامس فيهما نظر، والرابع قريب، ويقوى عندي الوجه الثالث مع ما ذكره ابن كثير، فليس التفضيل بالرأي ومجرد العصبية، ولا بما يلزم منه تنقص المفضول والحط من قدرة، كل هذا وما في معناه محرم قطعا، منهى عنه شرعا، وهو الذي غضب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يقصده ذلك الأنصاري رضي الله عنه، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، ونهيه عن ذلك تعليم عام للأمة، وزجر بليغ لجميعهم؛ كيلا يقع ذلك أو يصدر عن أحد منهم فيهلك. وأما التفضيل بما أكرمه الله عز وجل ورفع به درجته، ونوه في الوحي بشرفه من الفضائل الشرعية والأخروية، وغير ذلك مما شهد الله تعالى- به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما ذكرنا ومما لم نذكر، فهو الذي يجب اعتقاده والإيمان به، والتصديق والانقياد له والتسليم، فلا يؤخذ علم ما يختص بالله ورسوله إلا عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان وبه التوفيق. وقال النووي رحمه الله تعالى فيما قاله صلى الله عليه وسلم في شان يونس أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زاجرا عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئا من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن من قصته، قال العلماء: وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من درجة النبوة مثقال ذرة، وخصص يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذكر، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس، فالضمير قيل: يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل: يعود إلى القائل، أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المجتهدين في عبادة أو غير ذلك من الفضائل، فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ، لم يبلغ درجة النبوة. ويؤيد هذا التأويل الرواية التي فيها قوله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى. والله أعلم.
أهم ما في هذا الفصل خمس مسائل: الأولى: مسألة الخلافة. والثانية: فضل الصحابة وتفاضلهم بينهم. والثالثة: تولى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، سلام الله ورحمته وبركته عليهم، ومحبة الجميع والذب عنهم. الرابعة: ذكرهم بمحاسنهم، والكف عن مساويهم. والخامسة: السكوت عما شجر بينهم، وأن الجميع مجتهد، فمصيبهم له أجران أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته، ومخطؤهم له أجر الاجتهاد، وخطؤه مغفور.
|