الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
.الْآفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ: وَهُوَ مُحَرَّمٌ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الْحُجُرَاتِ: 11].وَمَعْنَى السُّخْرِيَةِ الِاسْتِهَانَةُ وَالتَّحْقِيرُ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِضِ، عَلَى وَجْهٍ يُضْحَكُ مِنْهُ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالْمُحَاكَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ وَالْإِيمَاءِ. وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى اسْتِحْقَارِ الْغَيْرِ، وَالضَّحِكِ عَلَيْهِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِهِ، وَالِاسْتِصْغَارِ لَهُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الْحُجُرَاتِ: 11] أَيْ لَا تَسْتَحْقِرْهُ اسْتِصْغَارًا؛ فَلَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَحْرُمُ فِيهِ حَقُّ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ، فَأَمَّا مَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَسْخَرَةً، وَرُبَّمَا فَرِحَ مِنْ أَنْ يُسْخَرَ بِهِ- كَانَتِ السُّخْرِيَةُ فِي حَقِّهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَرَحِ، وَقَدْ سَبَقَ مَا يُذَمُّ مِنْهُ وَمَا يُمْدَحُ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ اسْتِصْغَارٌ يَتَأَذَّى بِهِ الْمُسْتَهْزَأُ بِهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالتَّهَاوُنِ، وَذَلِكَ تَارَةً بِأَنْ يَضْحَكَ عَلَى كَلَامِهِ إِذَا تَخَبَّطَ فِيهِ وَلَمْ يَنْتَظِمْ، أَوْ عَلَى أَفْعَالِهِ إِذَا كَانَتْ مُشَوَّشَةً، كَالضَّحِكِ عَلَى حِفْظِهِ، وَعَلَى صَنْعَتِهِ، أَوْ عَلَى صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ لِعَيْبٍ فِيهِ، فَالضَّحِكُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي السُّخْرِيَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا..الْآفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِفْشَاءُ السِّرِّ: وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالتَّهَاوُنِ بِحَقِّ الْمَعَارِفِ وَالْأَصْدِقَاءِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ»، وَعَنْهُ: «الْحَدِيثُ بَيْنَكُمْ أَمَانَةٌ»، فَإِفْشَاءُ السِّرِّ خِيَانَةٌ، وَهُوَ حَرَامٌ إِذَا كَانَ فِيهِ إِضْرَارٌ، وَلُؤْمٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إِضْرَارٌ..الْآفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: الْوَعْدُ الْكَاذِبُ: فَإِنَّ اللِّسَانَ سَبَّاقٌ إِلَى الْوَعْدِ، ثُمَّ النَّفْسُ رُبَّمَا لَا تَسْمَحُ بِالْوَفَاءِ، فَيَصِيرُ الْوَعْدُ خُلْفًا، وَذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ النِّفَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [الْمَائِدَةِ: 1] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ» وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ إِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مَرْيَمَ: 54]. وَلَمَّا حَضَرَتْ عبد الله بن عمر الْوَفَاةُ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ خَطَبَ إِلَيَّ ابْنَتِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَدْ كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ شِبْهُ الْوَعْدِ، فَوَاللَّهِ لَا أَلْقَى اللَّهَ بِثُلُثِ النِّفَاقِ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهُ ابْنَتِي.وَعَنْ عبد الله بن أبي الخنساء قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَيْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَاعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ، فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ، فَأَتَيْتُهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: «يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هَاهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ».وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَا يَعِدُ وَعْدًا إِلَّا وَيَقُولُ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ الْأَوْلَى، ثُمَّ إِذَا فَهِمَ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمِ فِي الْوَعْدِ فَلَابُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا أَنْ يُتَعَذَّرَ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَعْدِ عَازِمًا عَلَى أَنْ لَا يَفِيَ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خُلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خُلَّةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ».وَهَذَا يَنْزِلُ عَلَى مَنْ إِذَا وَعَدَ وَهُوَ عَزَمَ الْخُلْفَ أَوْ تَرَكَ الْوَفَاءَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ فَعَنَّ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ مِنَ الْوَفَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ مَا هُوَ صُورَةُ النِّفَاقِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ صُورَةِ النِّفَاقِ أَيْضًا كَمَا يَحْتَرِزُ مِنْ حَقِيقَتِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مَعْذُورًا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَعَدَ أبا الهيثم خَادِمًا، فَأُتِيَ بِثَلَاثٍ مِنَ السَّبْيِ، فَأَعْطَى اثْنَيْنِ وَبَقِيَ وَاحِدٌ، فَأَتَتْ فاطمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَطْلُبُ مِنْهُ خَادِمًا وَتَقُولُ: أَلَا تَرَى أَثَرَ الرَّحَى بِيَدِي؟ فَذَكَرَ مَوْعِدَهُ لأبي الهيثم فَجَعَلَ يَقُولُ: كَيْفَ بِمَوْعِدِي لأبي الهيثم فَآثَرَهُ عَلَى فاطمة لِمَا كَانَ قَدْ سَبَقَ مِنْ مَوْعِدِهِ لَهُ، مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تُدِيرُ الرَّحَى بِيَدِهَا الضَّعِيفَةِ. وَلَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا يُقَسِّمُ غَنَائِمَ هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّ لِي عِنْدَكَ مَوْعِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «صَدَقْتَ فَاحْتَكِمْ مَا شِئْتَ» فَقَالَ: أَحْتَكِمُ ثَمَانِينَ ضَائِنَةً وَرَاعِيَهَا. قَالَ: «هِيَ لَكَ» وَقَالَ: «احْتَكَمْتَ يَسِيرًا»..الْآفَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الْكَذِبُ فِي الْقَوْلِ وَالْيَمِينِ: وَهُوَ مِنْ قَبَائِحَ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ الْعُيُوبِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ؛ فَإِنَّهُ مَعَ الْفُجُورِ، وَهُمَا فِي النَّارِ».وَعَنْهُ: «إِنَّ الْكَذِبَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النِّفَاقِ».وَعَنْهُ: «كَبُرَتْ خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ». وَمَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ يَتَبَايَعَانِ شَاةً وَيَتَحَالَفَانِ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: «وَاللَّهِ لَا أَنْقُصُكَ مِنْ كَذَا وَكَذَا»، وَيَقُولُ الْآخَرُ: «وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا»، فَمَرَّ بِالشَّاةِ وَقَدِ اشْتَرَاهَا أَحَدُهُمَا فَقَالَ: «أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا بِالْإِثْمِ وَالْكَفَّارَةِ».وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ: الْمَنَّانُ بِعَطِيَّتِهِ، وَالْمُنْفِقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ».وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِإِثْمٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ».وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لمعاذ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَبَذْلِ الطَّعَامِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ»..بَيَانُ مَا رُخِّصَ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ إِنَّمَا حَرُمَ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُخَاطَبِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ، فَيَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ، وَرُبَّمَا كَانَ وَاجِبًا كَمَا إِذَا كَانَ فِي الصِّدْقِ سَفْكُ دَمِ امْرِئٍ قَدِ اخْتَفَى مِنْ ظَالِمٍ، فَالْكَذِبُ فِيهِ وَاجِبٌ، وَكَمَا إِذَا كَانَ لَا يَتِمُّ مَقْصُودُ الْحَرْبِ، أَوْ إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوِ اسْتِمَالَةُ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ تَعَاشُرُ الزَّوْجَيْنِ إِلَّا بِكَذِبٍ- فَالْكَذِبُ مُبَاحٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ؛ لِئَلَّا يُتَجَاوَزَ إِلَى مَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، قَالَ ثَوْبَانُ: الْكَذِبُ كُلُّهُ إِثْمٌ، إِلَّا مَا نَفَعَ بِهِ مُسْلِمًا أَوْ دَفَعَ عَنْهُ ضَرَرًا..بَيَانُ الْحَذَرِ مِنَ الْكَذِبِ بِالْمَعَارِيضِ: قَدْ نُقِلَ عَنِ السَّلَفِ: إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ. وَإِنَّمَا أَرَادُوا إِذَا اضْطَرَّ الْإِنْسَانُ إِلَى الْكَذِبِ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ فَلَا يَجُوزُ التَّعْرِيضُ وَلَا التَّصْرِيحُ جَمِيعًا، وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَهْوَنُ، وَمِثَالُ التَّعْرِيضِ مَا رُوِيَ أَنَّ مطرفا دَخَلَ عَلَى زياد، فَاسْتَبْطَأَهُ، فَتَعَلَّلَ بِمَرَضٍ وَقَالَ: مَا رَفَعْتُ جَنْبِي مُذْ فَارَقْتُ الْأَمِيرَ إِلَّا مَا رَفَعَنِي اللَّهُ، وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَامِلًا لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: مَا جِئْتَ بِهِ مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْعُمَّالُ إِلَى أَهْلِهِمْ؟- وَمَا كَانَ قَدْ أَتَاهَا بِشَيْءٍ- فَقَالَ: كَانَ عِنْدِي ضَاغِطٌ قَالَتْ: كُنْتَ أَمِينًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، فَبَعَثَ عمر مَعَكَ ضَاغِطًا؟! وَقَامَتْ بِذَلِكَ بَيْنَ نِسَائِهَا، وَاشْتَكَتْ عمر، فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ دَعَا معاذا وَقَالَ: بَعَثْتُ مَعَكَ ضَاغِطًا؟ قَالَ: مَا أَجِدُ مَا أَعْتَذِرُ بِهِ إِلَيْهَا إِلَّا ذَلِكَ فَضَحِكَ عمر وَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَقَالَ: أَرْضِهَا بِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ضَاغِطًا: رَقِيبًا، وَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ تَعَالَى.وَكَانَ النخعي إِذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الدَّارِ قَالَ لِلْجَارِيَةِ: قَوْلِي لَهُ: اطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا تَقُولِي: لَيْسَ هَاهُنَا؛ كَيْلَا يَكُونَ كَذِبًا.وَمِمَّا تُبَاحُ بِهِ الْمَعَارِيضُ قَصْدُ تَطْيِيبِ قَلْبِ الْغَيْرِ بِالْمِزَاحِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ»، وَقَوْلِهِ لِلْأُخْرَى: «الَّذِي فِي عَيْنِهِ بَيَاضٌ»، وَلِلْأُخْرَى: «نَحْمِلُكِ عَلَى وَلَدِ الْبَعِيرِ»- كَمَا تَقَدَّمَ.وَمِمَّا يُتَسَامَحُ بِهِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِ: قُلْتُ لَكَ كَذَا مِائَةَ مَرَّةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ تَفْهِيمَ الْمَرَّاتِ بِعَدَدِهَا، بَلْ تَفْهِيمَ الْمُبَالَغَةِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَانَ كَذِبًا.وَأَمَّا مَا يُعْتَادُ التَّسَاهُلُ بِهِ فِي الْكَذِبِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: كُلِ الطَّعَامَ، فَيَقُولُ: لَا أَشْتَهِيهِ، فَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَهُوَ حَرَامٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي غَرَضٍ صَحِيحٍ. وَمِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: يَعْلَمُ اللَّهُ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ.وَأَمَّا الْكَذِبُ فِي حِكَايَةِ الْمَنَامِ فَالْإِثْمُ فِيهِ عَظِيمٌ، وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْفِرْيَةِ أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَيْهِ فِي الْمَنَامِ مَا لَمْ يَرَ، أَوْ يَقُولَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ»..الْآفَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: الْغِيبَةُ: قَدْ نَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ذَمِّهَا فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ، وَشَبَّهَ صَاحِبَهُ بِآكِلِ لَحْمِ الْمَيْتَةِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الْحُجُرَاتِ: 12] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ».وَالْغِيبَةُ تَتَنَاوَلُ الْعِرْضَ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَّبَعَ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ».وَعَنْ مجاهد أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الْهُمَزَةِ: 1] الْهُمَزَةُ: الطَّعَّانُ فِي النَّاسِ، وَاللُّمَزَةُ: الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَدْرَكْنَا السَّلَفَ وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ فِي الْكَفِّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ.وَقَالَ ابن عَبَّاسٍ: فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَذْكُرَ عُيُوبَ صَاحِبِكَ فَاذْكُرْ عُيُوبَكَ..بَيَانُ مَعْنَى الْغِيبَةِ وَحُدُودِهَا: اعْلَمْ أَنَّ حَدَّ الْغِيبَةِ أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ، سَوَاءٌ ذَكَرْتَهُ بِنَقْصٍ فِي بَدَنِهِ، أَوْ نَسَبِهِ، أَوْ فِي خُلُقِهِ، أَوْ فِي فِعْلِهِ، أَوْ فِي قَوْلِهِ، أَوْ فِي دِينِهِ، أَوْ فِي دُنْيَاهُ، حَتَّى فِي ثَوْبِهِ وَدَارِهِ وَدَابَّتِهِ، أَمَّا الْبَدَنُ فَذِكْرُكَ الْعَمَشَ، وَالْحَوَلَ، وَالْقَرَعَ، وَالْقِصَرَ، وَالطُّولَ، وَالسَّوَادَ، وَالصُّفْرَةَ، وَجَمِيعَ مَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ كَيْفَمَا كَانَ، وَأَمَّا النَّسَبُ فَبِأَنْ تَقُولَ: أَبُوهُ فَاسِقٌ أَوْ خَسِيسٌ أَوْ زَبَّالٌ، أَوْ نَحْوَهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ، وَأَمَّا الْخُلُقُ فَبِأَنْ تَقُولَ: سَيِّئُ الْخُلُقِ، بَخِيلٌ، مُتَكَبِّرٌ، مُرَاءٍ، شَدِيدُ الْغَضَبِ، جَبَانٌ، مُتَهَوِّرٌ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، وَأَمَّا فِي أَفْعَالِهِ فَكَقَوْلِكَ: هُوَ سَارِقٌ، كَذَّابٌ، شَارِبُ خَمْرٍ، خَائِنٌ، ظَالِمٌ، مُتَهَاوِنٌ بِالصَّلَاةِ أَوِ الزَّكَاةِ، لَا يَحْتَرِزُ مِنَ النَّجَاسَاتِ، لَيْسَ بَارًّا بِوَالِدَيْهِ، وَنَحْوُهُ وَأَمَّا فِعْلُهُ فَكَقَوْلِكَ: إِنَّهُ قَلِيلُ الْأَدَبِ، مُتَهَاوِنٌ بِالنَّاسِ، كَثِيرُ الْكَلَامِ، كَثِيرُ الْأَكْلِ، نَئُومٌ، يَجْلِسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَأَمَّا فِي ثَوْبِهِ فَكَقَوْلِكَ: إِنَّهُ وَاسِعُ الْكُمِّ، طَوِيلُ الذَّيْلِ، وَسِخُ الثِّيَابِ، وَنَحْوُهُ.وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ فِي الْغِيبَةِ مَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْغِيبَةُ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُهُ»، وَإِنَّمَا حَرَّمَ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْهِيمِ الْغَيْرِ نُقْصَانَ أَخِيهِ وَتَعْرِيفَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ؛ وَلِذَا كَانَ التَّعْرِيضُ بِهِ كَالتَّصْرِيحِ، وَالْفِعْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالْإِيمَاءِ، وَالْغَمْزِ، وَالْهَمْزِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالْحَرَكَةِ، وَكُلُّ مَا يُفْهِمُ الْمَقْصُودَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ. فَمَنْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى قِصَرِ أَحَدٍ، أَوْ طُولِهِ، أَوْ حَاكَاهُ فِي الْمَشْيِ كَمَا يَمْشِي- فَهُوَ غِيبَةٌ، وَالْكِتَابَةُ عَنْ شَخْصٍ فِي عَيْبٍ بِهِ غِيبَةٌ؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ، وَكَذَا قَوْلُكَ: مَنْ قَدِمَ مِنَ السَّفَرِ أَوْ بَعْضُ مَنْ مَرَّ بِنَا الْيَوْمَ إِذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ يَفْهَمُهُ فَهُوَ غِيبَةٌ، وَكَذَا مَنْ يَفْهَمُ عَيْبَ الْغَيْرِ بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَبْتَلِنَا بِكَذَا، وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَدِّمُ مَدْحَ مَنْ يُرِيدُ غِيبَتَهُ فَيَقُولُ: مَا أَحْسَنَ أَحْوَالَ فُلَانٍ، لَكِنِ ابْتُلِيَ بِمَا يُبْتَلَى بِهِ كُلُّنَا، وَهُوَ كَذَا فَيَذْكُرُ نَفْسَهُ، وَمَقْصُودُهُ أَنْ يَذُمَّ غَيْرَهُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ عَيْبَ إِنْسَانٍ فَلَا يَتَنَبَّهُ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، فَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعْجَبَ هَذَا حَتَّى يُصْغَى إِلَيْهِ وَيُعْلَمَ مَا يَقُولُ، فَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَعْمِلُ اسْمَهُ آلَةً لَهُ فِي تَحْقِيقِ خُبْثِهِ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: سَاءَنِي مَا جَرَى عَلَى صَدِيقِنَا مِنَ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ، فَيَكُونُ كَاذِبًا فِي دَعْوَى الِاغْتِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ اغْتَمَّ بِهِ لَاغْتَمَّ بِإِظْهَارِ مَا يَكْرَهُهُ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ: ذَلِكَ الْمِسْكِينُ قَدْ بُلِيَ بِآفَةٍ عَظِيمَةٍ تَابَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، وَهُوَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يُظْهِرُ الدُّعَاءَ، وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى خُبْثِ ضَمِيرِهِ، وَخَفِيِّ قَصْدِهِ، وَهُوَ لِجَهْلِهِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتٍ عَظِيمٍ.وَمِنْ ذَلِكَ الْإِصْغَاءُ إِلَى الْغِيبَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُظْهِرُ التَّعَجُّبَ لِيَزِيدَ نَشَاطُ الْمُغْتَابِ فِي الْغِيبَةِ فَيَنْدَفِعُ فِيهَا، وَكَانَ يَسْتَخْرِجُ الْغِيبَةَ مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَقُولُ: عَجِيبٌ، مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ كَذَلِكَ، كُنْتُ أَحْسَبُ فِيهِ غَيْرَ هَذَا، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَصْدِيقٌ لِلْمُغْتَابِ، وَالتَّصْدِيقُ بِالْغِيبَةِ غِيبَةٌ، بَلِ السَّاكِتُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ، إِلَّا أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ إِنْ خَافَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ، أَذَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ».وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَرُدَّ عَنْ عِرْضِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»..الْأَسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْغِيبَةِ: مِنْهَا: التَّشَفِّي، وَذَلِكَ إِذَا جَرَى سَبَبٌ غَضِبَ بِهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا هَاجَ فَيَشْتَفِي بِذِكْرِ مَسَاوِئِهِ، فَسَبَقَ اللِّسَانُ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دِينٌ وَازِعٌ، وَقَدْ يَمْتَنِعُ تَشَفِّي الْغَيْظِ عِنْدَ الْغَضَبِ، فَيَحْتَقِنُ فِي الْبَاطِنِ فَيَصِيرُ حِقْدًا ثَابِتًا، فَيَكُونُ سَبَبًا دَائِمًا لِذِكْرِ الْمَسَاوِئِ، فَالْحِقْدُ وَالْغَضَبُ مِنَ الْبَوَاعِثِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْغِيبَةِ.وَمِنْهَا: مُوَافَقَةُ الرُّفَقَاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى الْكَلَامِ، فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ الْأَعْرَاضِ، فَيَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَوْ قَطَعَ الْمَجْلِسَ- اسْتَثْقَلُوهُ وَنَفَرُوا عَنْهُ، فَيُسَاعِدُهُمْ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَقَدْ يَغْضَبُ رُفَقَاؤُهُ، فَيَضْطَرُّ إِلَى أَنْ يَغْضَبَ لِغَضَبِهِمْ إِظْهَارًا لِلْمُسَاهَمَةِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، فَيَخُوضُ مَعَهُمْ فِي ذِكْرِ الْعُيُوبِ وَالْمَسَاوِيِّ.وَمِنْهَا: إِرَادَةُ التَّصَنُّعِ وَالْمُبَاهَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ بِتَنْقِيصِ غَيْرِهِ.وَمِنْهَا: الْحَسَدُ يَحْسُدُ مَنْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ، فَيُرِيدُ زَوَالَ تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ، فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَيْهِ إِلَّا بِالْقَدْحِ فِيهِ حَتَّى يَكُفُّوا عَنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَإِكْرَامِهِ؛ لِأَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ.وَمِنْهَا: اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ وَتَزْجِيَةُ الْوَقْتِ بِالضَّحِكِ، فَيَذْكُرُ عُيُوبَ غَيْرِهِ بِمَا يُضْحِكُ النَّاسَ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَاكَاةِ وَالتَّعَجُّبِ.وَمِنْهَا: السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ اسْتِحْقَارًا لَهُ، وَمَنْشَؤُهُ التَّكَبُّرُ وَاسْتِجْهَالُ الْمُسْتَهْزَأِ بِهِ.وَثَمَّةَ أَسْبَابٌ غَامِضَةٌ فِيهَا دَسَائِسُ لِلشَّيْطَانِ، وَهِيَ أَنْ يُذْكَرَ إِنْسَانٌ فِي حَالَةِ التَّعَجُّبِ أَوِ الرَّحْمَةِ أَوِ الْغَضَبِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ مَثَلًا: تَعَجَّبْتُ مِنْ فُلَانٍ كَيْفَ يَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْ فُلَانٍ وَهُوَ جَاهِلٌ ! فَيَكُونُ تَعَجُّبُهُ مِنَ الْمُنْكَرِ لِصِدْقِهِ، أَوْ يَقُولُ: مِسْكِينٌ فُلَانٌ، غَمَّنِي أَمْرُهُ وَمَا ابْتُلِيَ بِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي الِاغْتِمَامِ، وَكَذَا قَدْ يَغْضَبُ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَهُ إِنْسَانٌ فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ، وَالْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ سَتْرُ اسْمِهِ وَعَدَمُ إِظْهَارِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا عُذْرَ فِي ذِكْرِ الِاسْمِ فِي ذَلِكَ.
|